الشهيد ” رستم جودي ” وتنقيبه عن الأيديولوجيا
صلاح الدين مسلم
كثرت في الآونة الأخيرة حملات محاربة الأيديولوجيا، ونعت الأيديولوجيّ بالحزبويّ، ورأوا أولئك الباحثون عن المجد الفردي أنّ التحرّر من الأيديولوجيا يعني الحريّة المطلقة.
استطاع الشهيد الحيّ رستم جودي منوخلال محاضرات جُمعت في كتاب اسمه الأيديولوجيا أن يصوّر معنئ هذه الأيديولوجيا الليبراليّة التي ترفض كلّ الأيديولوجيّات.
ما لفت انتباهي قوله: “كيف نتحدّث عن شخص ما ونقول: إنّه يفكّر مثل اليهود؟ أو عندما نقول عن شخص ما: إنّ نمط حياته مثل الأرمن، أو عندما تصف شخصاً بأنّه يمينيّ أو يمينيّ متطرّف، أو يساريّ…. أليست هذه أيديولوجيات؟ أليست الحرب التي تجري الآن هي حرب أيديولوجيات؟
أصمدَ مجتمع ما أمام حملات الإبادة المنظّمة ضدّ أيّ مجتمع أيديولوجيّ؟.. فالإيديولوجيا المجتمعيّة هي القوّة الثقافيّة والطاقة اللتان تغذّيان المجتمع أمام أيّة حملات تريد أن تشتثّ المجتمع وتقتلعه من جذوره، وتفرض عليه سياسة اللاإيديولوجيا، بل يمكن تسميتها أيديولوجيا رفض كلّ الأيديولوجيات والذهنيات والآليات التي تقوم على تمأسس المجتمع.”
ألا يمكن تعريف الأيديولوجيا على أنّها منطق الفكر والمسار الذي يرسم الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة ورسم مسار كامل لكلّ شؤون ومشاكل المجتمع برمّتها.
يصرّ الشهيد رستم على أنّ الشرق الأوسط هو موطن الأيديولوجيات التي خلقت الحضارات، بعيداً عن وجوه النقد لهذه الأيديولوجيات، وكانت أيديولوجيات دينيّة، نقلت هذه الإيديولوجيا إلى الغرب وتحوّلت إلى فلسفة ونظريات علميّة، وكلّ ذلك كان بفضل الكهنة السومريين الدينيين الذين مهّدوا الطريق للأديان كلّها وللفنون والفلسفات والميثولوجيا والفكر بشكل عام.
لقد ربطت الحداثة الرأسماليّة فكرة الحرّيّة في الابتعاد عن الأيديولوجيات، واعتناق اللاإيديولوجيّة، وإيهام المواطن الفرد الصالح بمفهوم الحرّيّة الفردانيّة، ليغدو أفراد المجتمع في سباق الجياد المروّضة للوصول إلى نهاية السباق وهي سدّة الحياة الجميلة التي رسمتها الحداثة الرأسماليّة وكي يفوز حصان واحد من بين عشرة أحصنة باللقب ويخسر التسعة الآخرون ويربح المراهنون على الفائز.
في كلّ حضارة مادّيّة تجسّدت بالمقابل صروح عملاقة أيديولوجيّة ذهنيّة معنويّة، فالحاكم أو الملك أو الإمبراطور لم يستطع أن يسود بالقوة العسكريّة فحسب، فهناك مبدأ فلسفيّ فكريّ يقوم عليه، إذْ من المحال أن تقنع عبيداً ببناء أهرام على سبيل المثال إنْ لم تتمّ محاورته أيديولوجيّاً، والسؤال المطروح هنا هل الانقلاب ضد هذه الأيديولوجيّة القمعيّة بمحاربة فكرة الأيديولوجيا بشكل عامّ، فإذا كانت الديمقراطيّة أو الحرّيّة فاسدتين في نظام ما على سبيل المثال، فهل ستتمّ محاربة الحرّيّة والديمقراطيّة؟ ويكون الحلّ بنسفهما من الوجود والإقرار بأنّ العبوديّة والدكتاتوريّة هما الحلّ، أو يا ترى يكون الحلّ في معالجة سبل هذه الديمقراطيّة التي حرمت 49% من المجتمع من المشاركة في القرار الذي قد يؤديّ إلى تهلكة الخاسرين في الانتخابات الليبراليّة التي تحرم نصف المجتمع من اتّخاذ القرار وهو يضحك.
لقد كانت ثلاثيّة البحث عن الحقيقة التي طرحها هيغل في نظريّة (الأطروحة والأطروحة المضادّة والتركيبة) هي الحل الناجع للأيديولوجيّة المجتمعيّة، وهنا يبرز الصراع بين الأيديولوجيّة المجتمعيّة وبين أيديولوجيا السلطة الطبقيّة الهرميّة النخبويّة الاحتكارية التّحكّمية الاستعمارية التي تعدّ أساس الذهنيّة التحكّميّة لدى طبقة التجار والسياسيين السلطويين والجيش العلمي الإعلاميّ الأيديولوجيّ الذي يسوّق لهذه المنظومة السيطريّة التي أنتجت المدن الطبقيّة والأفراد المستهلكيّة، والبطالة، وسباق التسلح والتسلّح النووي، ودمار البيئة، والموت جوعاً، وسباق البحث عن لقمة العيش والأوى، فمن لا تتحقّق فيه المقاييس التي وضعتها المنظومة الرأسماليّة فالويل له، فسيعيش في فلك اللإنسانيّة وسيحرم من كلّ شيء، من الصحّة، التعليم، الاقتصاد…
من يقرأ للشهيد رستم يدرك معنى الحرب التي تخوضها الأيديولوجيا الليبراليّة التي تعدّ حرب الهيمنة، حرب الإبادة، فهذه الإيديولوجيّة القوموية المقرفة التي صدّرتها إلى الشرق قد جلبت الويلات والدمار على الشعوب الأصيلة في الشرق الأوسط، فهذه الدولة القوميّة هي الركن الرئيس للحداثة الرأسماليّة التي نشأت في الغرب إثر الثورة الفرنسيّة، وهي الأيديولوجية التي جلبت معها الحروب العالميّة وحملات التطهير والإبادة والأسلحة وكلّ هذا الجنون.
لا بدّ من قراءة هذا الكتيب للشهيد رستم جودي الذي لم يترجم إلى اللغة العربيّة الذي يعدّ مصدراً مهمّاً جدّاً لمن يريد فهم ألفباء السياسة، ولم أستطع أن أفي حقّ هذا الكتاب بهذا المقال البسيط.[1]