تفكيك الخطاب الديني كسبيل لخلق نسق ثقافي عقلاني
أحمد يوسف
عندما بدأ الحراك الفوضوي اللاخلّاق في سوريا، وقبلها في تونس ومصر وليبيا، ظنَّ الكثير منّا سوءاً بأنّ ما يحدث هو اختراق حداثوي في بنية العقل الشرقي في العالمين العربي والإسلامي. وأنّ الشعوب انتفضت لإيمانها بمفاهيم العدالة والمساواة والحريّة. ربط الكثير من المثقفين وربما المفكرين ثورات ما يسمى بالربيع العربي بمستوى الوعي المتقدم لدى تلك الشعوب بعد أن صقلته عقود من الرزوح تحت وطأة الأنظمة المستبدة وطغيان الخطاب القومي.
عملت الأنظمة في العالمين العربي والإسلامي على تعليب المواطن وقدمت له وجبات دسمة من الخطابات الآيديولوجية البراقة، وأوهمته بأن مصلحة الوطن والجماعة هي فوق مصالح الأفراد، وبأنهم مهددون من الخارج ولا وقت للالتفات إلى هموم الداخل. ومن يشذّ عن هذا التوجٓه ولو قيد أنملة فسيتم تغييبه أو تصفيته.
إن متاجرة الأنظمة بالسلعة القومية وكذلك بالليبرالية المزيفة بالإضافة إلى الماركسية المتطرفة لما يقارب قرناً من الزمن كانت كافية لأن تشكّل تراكمات وإرهاصات تغذي الوعي الجمعي بإرادة الحرية، ولكن القدرية والغيبية اللتان تطغيان على وعي الفرد والجماعة كانتا الأساس لكل البنى الثقافية الهشٓة التي وسمت شعوب الشرق العربي والإسلامي.
عندما لم تقدّم كل الخطابات القومية والليبرالية والاشتراكية في أوجهها الغارقة في السلبية حلولاً مستدامة للشعوب الإسلامية، ظهرت بعض الحركات والجمعيات الدينيّة الإسلامية كحركة الاخوان المسلمون وحزب التحرير الاسلامي وكذلك تنامى الفكر الوهابي، هذه الحركات كانت تربّي وتغذّي أفاعٍ سامٓة في أكمامها لتنفث سموم أفكارها الغيبية في وعي الأجيال. استفادت الأنظمة من هذه الحركات لتثبيط إرادة الشعوب وترسيخ مفهوم القدرية والإذعان في أذهانها، كما جعلتها شمّاعات لردع أيّ تمرّد محتمل.
لم تنتج النخب الثقافية والفكرية العربية والإسلامية طوال القرن الماضي وما قبله أيّ خطاب عقلاني مجدي ومؤثر في دفع حركة التجديد نحو الأمام. لم تنتج تلك النخب نظريات حديثة تُخرِج شعوبهم من الضحالة الفكرية والجهل المخيف، باستثناء بعض الأسماء مثل قاسم أمين و طه حسين وغيرهما من الذين حاولوا استنساخ التجربة الغربية وإسقاطها على التعنت الشرقي، ولكن محاولاتهم لم تخرج من الدوائر النخبوية بل وتمت محاربتهم في كثير من الأحيان واتهامهم تارة بالكفر وتارة بالخيانة.
أعتقد بأنّ كلّ المفكرين الذين ظهروا في نهايات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في المناطق العربية والإسلامية من أمثال الكواكبي والأفغاني ومحمد عبدو وغيرهم من الذين حاولوا تجديد الخطاب الديني وإصلاح الدين، لم يقوموا بتأسيس وعي متقدم، بل كان اشتغالهم الفكري لم يتعدى الاجترار في فضاءات الفقه والتفسير مع ترصيعها ببعض الأفكار الوافدة من الغرب. إن هؤلاء الفقهاء المجددين في محاولتهم تطويع النص المقدس ليجاري العقل ويتماشى مع العلم، أضاعوا بوصلة التأثير في المجتمعات التي عاشوا فيها، فلا خدموا العلم كما يجب ولا جددوا في الخطاب الديني كما يجب.
إنّ معظم الثورات التي قامت في العالم كان لها أساس فكري ونظرية ثورية توجه دفّتها، وإلا فنحن أمام حالة فوضوية اعتباطية غير منظمة يكون فيها القتل في البداية وسيلة دفاع ثم يتحول ليصبح وسيلة للقرصنة وقطع الطرق والنهب. فمن هم منظرو ثورات الربيع؟ وما هو الأساس الذي قامت عليها هذه الثورات؟ ومن هم قادتها؟
إن ما حدث في بلدان الربيع المزعوم وخاصة في سوريا لم يكن الهدف منه إلا استبدال الفاشية القومية بالفاشية الإسلامية، ولَم يكن إلا لرغبة طائفية في استبدال التطرّف الشيعي بالتطرف السنّي، لذلك فإن القيام بالثورات بعقلية الغزوات أو بعقلية إحقاق الحق الذي ضاع في الجمل وصفين أو بعقلية الثأر والانتقام لعثمان أو علي، هو انعكاس للحالة المزرية التي تعيشها الشعوب العربية والإسلامية، وبعد هذا يقولون بأننا أُمَّة مُستهدٓفة.
الأمّة التي مازالت تعتقد بأن الملائكة تقاتل معها، الأمّة التي مازالت تعتقد بأنها خيرُ أُمَّة، لن تنتج أيّة نظرية حداثوية معاصرة خاصة بها ترمي بعصور الجهل خلفها وتفتح صفحة جديدة مع العالم وتطور ذاتها بالعلم والتكنولوجيا الحديثة. الثورة التي منظروها بطبيعة الحال علماء الحيض والنفاس، الحويني أو المحيسني أو العريفي، والثورة التي قادتها أشخاص منفصمون آيديولوجياً كغليون والمالح أو دينياً كميشيل كيلو، لن ينتجوا إلا جيلاً مؤمناً بأكل الأكباد وقطع الرؤوس وإلغاء الآخر. قد أُتّٓهٓمُ بالتجنّي، وقد يقول قائلٌ إنّ هؤلاء امتطوا صهوة الثورة، وأن ثورتهم كانت من أجل الحرية والديمقراطية. “يا أخي نحن ثورتنا انسرقت!” حسناً، إن كنّا أمام ثقافة تميل نحو الوعي وتجسّد الرغبة الحقيقية في التغيير، لماذا انجرف الثوار وراء تلك النخبة المريضة المتسلّقة، إن لم يكونوا بالأساس يعبرون عن نسق ثقافي توّاق للسلطة ورافضٍ للعدالة والديمقراطية؟
إنّ المجتمعات التي لم تنتج نخباً تنويرية وثقافية وفكرية تؤسس لنهضة حقيقية تبدأ بالوعي ومن ثم الخروج من عباءة الدِّين وتنتهي بتغيير الأنظمة وتحقيق العدالة والمساواة والأهم من ذلك التعايش والتسامح وقبول الآخر، فإنّ هذه المجتمعات عليها الانتظار طويلاً حتى تنتفض من جديد وتسمي ما أنتجته ثورة.
أؤمن بأنّ أولى الثورات التي يجب أن تقوم هي الثورة الذهنية، ثورة التخلص من الغيبيات والأديان والعقلية الذكورية. إنّه لمن المهم أن نفهم في هذا السياق الدافع الذي جعل البوعزيزي يحرق نفسه في تونس، فهل حرق نفسه لأن كرامته هدرت من قبل نظام سلطوي طاغٍ، أم لأنّ الذي صفعه هو مجرّد امرأة وهذه إهانة لرجولته أن تصفعه امرأة على الملأ؟
قد يكون من المثير وربما من المحزن الحديث عن التنوير والحداثة في العالم الإسلامي في نهايات هذا العام 2016، بعد أن قطع العالم أشواطاً بعيدة في نبذ السرديات الكلاسيكية لكل الخطابات المعرفية وأولها الخطاب الديني. ما يحتاجه الشرق الإسلامي هو تجميع أفقٍ معرفيٍّ جديد يحمل معه نسقاً ثقافياً جديداً – وأقول (تجميع) لأنه مازال من المبكر الحديث عن (خلق) -أي بناء ثقافة جديدة قائمة على التصالح مع الذات أولاً ومن ثم نقد الذات نقداً منهجياً دقيقاً بعيداً عن المقدَّس والثابت والابتعاد عن ذهنية التبرير. ولا يتم تجميع الأفق المعرفي الجديد إلا بتفكيك السائد والمتوارث و(المُنزٓل)، وعملية التفكيك تلك لا تكون إلا من الداخل، وأولى مراحل التفكيك تكون بنقد التاريخ وسقطاته، وتحليله بعيداً عن منطق العنتريات والغزوات والفتوحات، وكذلك تناول النص الديني بعد إزالة صفة القداسة عنه، لأنه كلما تم الدوران في فلك الأفق الغيبي القديم، كلما طال أمد القبوع في الدرك الأدنى من الانحطاط الفكري والأخلاقي.
عملية البناء لا بدّ وأن تسبقها عملية هدم البنى التقليدية وإزالة كل مخلفاتها وقمامتها، تلك البنى التي لا يبدو أنها متهاوية في المنظور القريب. دون هذا الهدم وهذا التفكيك ودون بناء منظومات مجتمعية متجانسة سوية تحترم الإنسان وتؤمن بالاختلاف، لا يمكننا الادّعاء بأنّنا أمام جيل مثقف واعٍ يعرف ما يريد، ويعرف كيف يدير ثورته. إذن لن يتسنى لنا الحديث على تقدم مستوى وعي شعوبنا ولا على أنّه ثمة تغيير حصل في ذهنيتها لمجرد أنها ثارت في وجه الفاشية القومية، فالفاشية الدينية التي يهرولون نحوها ويبجلونها لهي أكثر خطراً وأشدّ فتكاً من الفاشية القومية، وتصبح النتائج كارثية عندما تتآلف الفاشيّتان القومية والدينية معاً.
عن الحوار المتمدن[1]