تركيا اليوم: سُتْرَةٌ من رُقَعٍ؛ حكايةٌ للأقنعة المتساقطة
لماذا تظهر أنظمة؟ لماذا تفشل الأنظمة؟ لماذا تتغير الأنظمة؟ ما هي فرص الحل؟
سيهانوك ديبو
ملخص تنفيذي – ثلاث استراتيجيات لها ثلاث أيديولوجيات موجودة في الشرق الأوسط –هذه اللحظة- لا وئام بينها؛ أثنان منها ضد واحد؛ أحياناً. وأحياناً كثيرة لكل واحد منها طريق قد يتم الالتقاء بِرهة وسرعان ما يُلاحظ الحياد إلى طريقه/ خطه. استراتيجية الحداثة الرأسمالية التي تجهد إلى إحداث خريطة وتغيير جغرافي جديد ينتج عنه شرق أوسط جديد، واستراتيجية الدولة القومية التي تظهر على أنها مستعدة أن تتنازل بشكل مستمر فقط في سبيل إعادة إنتاج نفسها أو ابقائها بالشكل الذي ظهرت عليه قبل مائة عام من خلال طوارئ الدولة النمطية القومية، واستراتيجية النهج الديمقراطي التي تنظر إلى الشرق الأوسط على أنها ثقافات متتامة وتسعى إلى اتحاد كونفدرالية المجتمعات فيه. الثالثة تمثلها القوى الديمقراطية المتيقنة لوجوب مشروع نهضوي يحاكي الشرق الأوسط ويعبر عن كينونته الديمقراطية وتقودها اليوم حركة الحرية الكردستانية بعد نجاحها في كل من تركيا (التحالف الديمقراطي العلماني المشكل لحزب الشعوب الديمقراطية) وفي سوريا (مجلس سوريا الديمقراطية بقيادة حركة المجتمع الديمقراطي وحزب الاتحاد الديمقراطي). أما الاستراتيجية الثانية فيمثلها تركيا بأنظمتها المتعاقبة منذ تشكيل الدولة التركية وبالتناصف مع الأنظمة القومية الأخرى. هذه الاستراتيجية تبدو في حالة قلق دائم تتحالف مع من يشكلها وتتحارب بقصد التسنيد التاريخي بهدف أن تكون السيدة وفي الوقت نفسه الإيحاء للاستراتيجية الأولى أنها تمثل مصالحها وتحافظ على وجودها وإعادة وجودها إنْ داهمتها خطر في شاكلة التغيير المرجوِّ من حركات ربيع الشعوب في الشرق الأوسط الذي بدأ في الربع الأخير من العام 2010 ولن تنتهي في الربع الأول من العام 2025. أمّا التماس الصائر إليه بين الغرب والشرق من خلال قنوات الغاز والاقتصاد من جهة الغرب تقابلها الجهة الشرقية المتحددة بقضايا الشعوب في الشرق الأوسط والمتوسط. وهذه الأقنية وإنْ تشكل اليوم محمل التماس؛ لكنها؛ تفضي بعد تحقيق المراد إلى فك التماس والاشتباك والعودة إلى الانحسار الظاهري المعهود. من حيث أن الوشائج تبقى من أجل ضمان عودة التماس في صيغة أخرى ومفاد واحد.
الأقنعة التركية المتساقطة
السياسة التركية القديمة والحديثة سياسوية لم ترتقي إلى فعل السياسة- نموذج صريح لمراكمةِ سياسوية الأنظمة المتكسرة في الشرق الأوسط، الذي بدوره ينتج عن حقن مستمر للحَتِّ الممارس من قبل الحداثة الرأسمالية لهيكلياتِ هذه الأنظمة. وهذا ما يعزو أسباب تدوير المشاكل التركية وإعادة انتاجها بالرغم من التلوين الحاصل في سدة الحكم التركي- من علمانية (ظاهرياً) عند التأسيس إلى قومية (باطنة وظاهرة) عند التمأسس إلى إسلاموية (ظاهرياً) في يومنا؛ يبدو أن تركيا اليوم استنفذت فرصها المتلونة وباتت في موضع الإفلاس وباتت أكثر اقتراباً من التغيير القسري الذي تهرب منه على الدوام. وتموضعها الأخير أو تنازلها لعواصم كانت تتدعي بأنها معادية لتركيا حتى الأمس القريب. وإعادة التموضع القلق بغية الوصول إلى حالة التوازن القلق يمكن ملاحظته في أربعة محطات التجأت إليها تركيا مؤخراً وبشكل متواتر:
الجزائر2 واللقاء والاتفاق الذي جرى فيها بين أنقرة ودمشق وبرعاية مشتركة من طهران والجزائر؛ من حيث أن الجزائر1 جرى بين إيران والعراق بهدف معاداة أي حل للقضية الكردية في العراق، وقد تكللت بالنجاح حينها. لكن؛ الجزائر2 لا أمل لها في مثل هذا المسعى المُغْرِض؛ وإنْ كُتِبَت لها النجاح فستكون من ناحية إعادة علاقة بينها وبين النظام السوري؛ وهذا يظهر باحتمال ضعيف ليس متعلق بعدم وجود رغبة للنظام في ذلك إنما بمن يدعم النظام ويشاركه في القتال.
إعادة تطبيع علاقتها مع إسرائيل وفق ثمانية بنود مُعلنة بفحوى ضمان الوصاية على الجماعات الفلسطينية المارقة في نظر إسرائيل؛ علماً بأن التقارير من البلدين أي تركيا وإسرائيل تشير إلى أن حجم التبادل التجاري بلغ حوالي ملياري دولار أمريكي في العام 2015 وحده. علاوة على اتصالاتهما التي لم تنقطع لحظة واحدة ولم تتضرر بشكل يعاكس الضجيج التركي وإظهاره المعاداة لسياسات إسرائيل.
اعتذارها لروسيا كبداية لا نهاية للطريق المؤدي إلى عودة الوفاق مع الدب الروسي، والأخير يبدو أنه أحكم المخلب في جسم (الرجل المريض الجديد) وعرف جيداً كيف يثبته بمفاد التنازل المستمر. خاصة أن شهية الدب تبدو في أوجهها في كل فصل صيف ويستعجل في الخريف كي يخلد إلى السبات الشتوي، بخلاف الدب الروسي المعروف عنه بعدم سباته وعدم انحسار شهيته.
الرجل المريض قدّم ثلاث تنازلات ظاهرة دفعة واحدة، والرابعة غير المعلنة وهي بالأساس الأولى ما تنازلت عنه لإيران العدو التاريخي لتركيا والمنافس لها على طول الخط. والزيارة التي قام بها داوود أوغلو إلى طهران قرابة الشهرين يبدو أنه الاتفاق الأساسي وما ظهر تباعاً تفاصيلَ من هذه الاتفاقية التي صارت في الأساس على معاداة للكرد والاستباق ما أمكن كي لا يكون للكرد أي دور مفصلي في مسرح السياسة الدولية؛ وظهور العمال الكردستاني والأحزاب أو الحركات السياسية المتوافقة مع أيديولوجيتها في الحالة المتقدمة بشقيها العسكري كأفضل وأقوى من يحارب التنظيم الإرهابي- داعش ومن الناحية السياسية بتقديمها أفضل الحلول للأزمة السورية وحتى التركية متمثلة بحل الإدارات الذاتية الديمقراطية في النظام الفيدرالي الديمقراطي لروج آفا- شمال سوريا. وإيران تتشارك مع تركيا ولا تقل عنها في المقاربة السلبية من القضية الكردية وتتقاسمها الرأي في أن حل هذه القضية في أي جزء من الأجزاء الأخرى يعني اقتراب الحل في الجزء المخصوص بها. فمن جهة تتناحر معها ولا تتوانى من استخدام كل الملفات كي تغدو تركيا ضعيفة؛ لكن؛ ليست إلى درجة تجعلها في محل القبول أو الإذعان للحل الديمقراطي للقضية الكردية في تركيا.
عموماً؛ إن غاية تركيا الأساسية من كل ما تقدم من رُقَعٍ تتستّر الاهتراء الذي نالها من أجل شد المشهد الحالي المتخبط الذي تعانيه تركيا إلى ما قبل 2011، ومن أجل امتصاص ما استطاعت من ضربات وتمنع عدم وصول البلِّ إلى دقنها خاصة بعد تخطي قوات سوريا الديمقراطية ومسحهم بأعقاب بنادقهم للخطوط الحمراء التي رسمتها تركيا فيما يخص مناطق الشهباء بين كانتوني كوباني وعفرين؛ والتي كانت حمراء فقط في نظرها ونظر من تعلقوا بها وما يزالونَ.
المتتبع للسياسوية التركية يصل بيُسْرٍ إلى المفصل الأساسي المنطلق منه تركيا في مقاربتها لمعظم مسائل وقضايا الشرق الأوسط وخارجه ومنذ تأسيسها وحتى اليوم: (الحالة الكُردية تبرر الوسيلة) تطبيقاً ونسخاً من الغاية تبرر الوسيلة. وخمس سنوات عاصفة في عمر الشعوب لا يمكن أن تمر مرور الكرام فهي بالأساس ليست غيمة عابرة، وما حدث طيلة هذه السنين هي زوابع لم ولن يسلم منها أية جهة مهما ادعت بأنها مُحصّنة ولا يمكن لها مهما قدّم من تنازلات أن ترجع الأمور إلى سابق عهدها. أما مطلب إبعاد الخطر فقد تلحظها تركيا؛ لكن؛ لن يستمر ذلك كثيراً. الواقعة وقعت وشهود الواقعة شعوب وأمم. والواقعة وقعت بعد سقوط الأقنعة التي كانت تركيا تختبئ ورائها وهي:
1- القناع العربي: الشعب العربي في سوريا وعموم الدول العربية تدرك اليوم بأن النظام في تركيا ومن خلال إعادة تطبيع العلاقات مع إسرائيل كشفت عن زيف ادعاءاتها فيما تخص عدائها لإسرائيل ومساندتها للعرب وللقضية الفلسطينية، وأنها استخدمت هذه القضية من باب أجنداتها كما المتبع لبعض الأنظمة العربية، وحادثة السجال الكلامي بين أردوغان وبيريز في منتدى دافوس الاقتصادي تبدو هزلية إلى جانب حادثة سفينة مرمرة.
2- القناع الكردي: لم يشك الشعب الكردي ووعيه الجمعي بأن تركيا أكبر من تعادي #القضية الكردية# ولا تتوانى بالمشاركة في أي شأن يفضي سلباً حيال قضية الكرد. أمّا مقولة بأن أردوغان (خير من يمثل حل القضية الكردية) فهو مجرد قول صادر من جهة باتت معلوم مدى الترابط الوجودي بينها وبين سلطة العدالة والتنمية؛ إنه حزب الديمقراطي الكردستاني في العراق الذي أربطَ مصيره بهذه الجهة المعادية التي سقط القناع عنها من خلال النضال الديمقراطي من قبل الفيلسوف السجين عبدالله أوجلان وطرحه الحل الديمقراطي لقضية الكردية وقضية التحول الديمقراطي العامة في تركيا المتحقق بدورهما عن طريق نظرية الأمة الديمقراطية وتطبيقها في الإدارات الذاتية الديمقراطية جوهر النظام الفيدرالي الديمقراطي.
3- القناع الديمقراطي: بالعودة إلى صنوف الاستراتيجيات التي تحدثنا عنها في معرض هذه المقالة/ البحث؛ فإن العدالة والتنمية كممثل لاستراتيجية الدولة القومية سعَت على الدوام أن تبرز نفسها-من خلال الاجراءات السطحية الديمقراطية التي لم تلامس بتاتاً قعر المسألة الكلية في تركيا- كمحافظ لمصالح استراتيجيةِ الحداثة الرأسمالية، وأن تظهر الترابط العضوي بينهما. لكن؛ ربيع الشعوب في الشرق الأوسط أظهر خلاف ذلك، ومدى الترابط العضوي والوجودي والفكري بين النظام في تركيا والتنظيمات الإرهابية أظهرتها بأنها معرقلة لخططها وأنها غير صالحة أو عديمة الفائدة للمنافسة المحمومة في عمليات السياسة الدولية؛ بأنها تفيد فقط مسائل التناحر. إنها تركيا في الحرب العالمية الأولى وفي الحرب العالمية الثانية واليوم في الحرب العالمية الثالثة الطرفية السورية، وغير ممكن لها أن يناسبها أي لبس ديمقراطي. والقناع الديمقراطي الذي تلبسه باتت بصمات داعش والنصرة وعموم المقاربات العدائية تجاه الدول الجارة لتركيا واضحة تفضي بأنه مجرد قناع.
استراتيجية الحل السوري
من الخطأ النظر إلى الأزمة في سوريا من جانبها السياسي فقط، والاكتفاء بالقول على أن زوال هذه الأزمة يستوجب حلاً سياسياً فقط. تشكل هذه النظرة غير المكتملة حلاً جزئياً وقتياً ومرحلياً في أحسن الأحوال. والحل و/أو الحلول الجزئية في وقت الأزمات في حد ذاتها استدامة اجرائية للأزمة بسبب استشرافها واستهلالها، والكثير من أنصاف الحلول تم الأخذ بها في أزماتٍ سابقة لم تجني شعوبها سوى التقوقع في الأزمة، لبنان، العراق، قبرص، ليبيا، اليمن…..وغيرها من شواهد نصف الحل.
أما الحل فيكمن في تناول هذه الأزمات من الجانب المعرفي إضافة إلى السياسي، والأزمة في سوريا لن يكتب لها الحل دونهما، مع العلم بأن الجانب المعرفي مكمن في إحداث القطيعة الكلية مع جميع الرؤى والصيغ والأشكال السابقة للحراك الثوري السوري والانتقال وفق عقد اجتماعي معرفي سياسي إلى الحالة المثلى من الديمقراطية التوافقية والجمهورية السورية ( الثالثة) ذات النظام الفيدرالي. وكي يتم الابتعاد عن التنظير الصرف ومقاربة الواقع بشكل عملي دقيق؛ فأولى المهام الوطنية في سوريا -إذا كان الحديث ما زال صالحاً عن سوريا موجودة بالمعنى السياسي الجغرافي؛ ويريده السوريين- البحث عن صيغ الحل في وقت التشظي السوري بين النظام الاستبدادي وداعش، والتقسيم الحاصل على أساس هاتين الفئويتين: الاستبداد البعثي القوموي والاستبداد الاسلاموي، واستبداد ناتئ لم يتمكن إيجاد محل له بعد: هو استبداد المعارضة. سوريا وبكل شعوبها ما تزال أسيرة هذه الرؤى الاستبدادية: الأساسيتين؛ والناتئة ومتحررة عبر مشروع النهوض التحرري. وفي ظل هذه المصفوفات القسرية يبرز مشروع على خلاف هذه الاستبداديات الثلاثة؛ مشروع الفيدرالية الديمقراطية بجوهر الإدارات الذاتية الديمقراطية الذي استطاع خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة من تنظيم المجتمع وعلى الأساس المجتمعي دون النظر إليها على الأساس القومي فقط. ومثل هذه الرؤية الكلية ضامنة للحق القومي وحاملة له بعكس ما يثيره المُغَبِّرين والرخويات المتحركة: لا عظام فيها ولا عيون ولا حكمة، وهذا ما يفسر حالة القصور السياسي لبعض الجهويين: كرداً كانوا أم عرباً، سوريين كانوا أم غير سوريين، ومن أجل ذلك يلاحظ الهجوم الفكري والسياسي والميداني العسكري على هذه الإدارة/ الحل؛ على هذه الفيدرالية/ نموذج الحل.
الصراع بين رُع وآبيب
الاله شمس أو رع يعتبر عند الفراعنة القدماء وبحسب الميثولوجيا الفرعونية رمزاً للتوحيد ويرمز إليه برمز العاصفة والصراع بين النهار والظلام، وتحكي الاسطورة وقائع الدسائس المحاكة من قبل من لم ترق لهم الشمس والديانة التوحيدية. حيث أنه من المعروف عن هذا المعتقد بأنه قد انتقل إلى مصر الفرعونية في عهد اخناتون عندما تزوج أميرة تل حلاف المحاذية لسريي كانييه (رأس العين) نفرتيتي الهوريّة/ أجداد الكُرد؛ والتي ساهمت مع زوجها الفرعون في نشره. والدسائس التي بدأت تظهر بُعيد نشر ديانة التوحيد كانت من مصدر رهبان المعبد الفرعوني، الذين شابهوا رهبان سومر. استفاد آبيب أو كما يسميه أهل مصر أبو فيس والذي كان يظهر على شكل تمساح وأحيانا ثعبان ملتف في عدة طيات، ولكي يظهر قبوله لدى معارضي “رُع” صار له صورة ثابتة؛ ثعبان في وجه إنسان.
تشير الاسطورة أن صراعاً قوياً ظهر واحتدم فيما بعد بين الإله شمس (النهار والنور) والإله آبيب (الظلام) المدعوم من قبل الرهبان، وصلت المعركة ذروتها طوال الليل في رحلتها من الشرق إلى الغرب، و أخيرا خرجت (شمس) منتصرة في صباح كل يوم.
المعركة المتمثلة بين فلسفة الأمة الديمقراطية (مشروع الفيدرالية الديمقراطية) وفلسفات الأمم النمطية (الاستبداديات الثلاثة)؛ تشبه إلى حد كبير ما جرى بين رُع وآبيب، وستشبه إلى حد كبير النتيجة التي سَتُفْرِزُ بين الحل واللاحلول في سوريا.[1]