واجباتنا المفروضة … وحقوقُنا المرفوضة
الخوف متلازمة الكرد
سليمان محمود
نتجَ الوجودُ الكرديّ في سوريا عن سياساتٍ واتفاقيّاتٍ ومصالحَ دوْليّةٍ وإقليميّة, أحدثتْ- في بداية القرن العشرين – تغييراتٍ جيو سياسية في منطقة الشّرق الأوسطِ .
إنّ اتفاقيّةَ سايكس بيكو قسّمتِ المنطقةَ إلى مناطقَ نفوذٍ, سرعانَ ما تبلورتْ واكتسبتْ صفةَ دولٍ حديثة التكوين جغرافيّاً ك (سوريا والعراق). ولم يكنْ آنذاكَ التقسيمُ على أساسِ حقوقِ الشعوبِ القاطنة في المنطقة, بل كانَ تقسيماً استعماريّاً، على أساس المصالحِ بالدرجة الأولى.
وكان للكُرد عامّةً, كما كان لأشقّائهم من الأرمن والكلدو آشوريين وغيرهم, نصيبٌ وافرٌ من الأضرار التي نجمتْ عن تلكَ السياساتِ الجائرةِ بحقّ شعوب المنطقة.
وقد تطلّبَ الوضعُ الجديدُ للكرد في سوريا أن يكونوا ملتزمينَ أداءَ واجباتٍ فرضَها عليهم بقاؤهم القسريّ في حدود الدولة السوريّة, بعدَ أن حُرِموا من حقّهم في إقامة كيانٍ سياسيٍّ يضمُّ مجموعاتٍ وقوميّاتٍ عديدةٍ, يُشكّلُ الكردُ واحداً من تلك المكوّنات المُتعايشة معاً في رُقعةٍ جغرافيّةٍ واسعةٍ, بمعزلٍ عن الاقتصارِ على شعبٍ دونَ آخرَ.
إلاّ أنّ هذا البقاءَ صارَ حِكراً على الواجباتِ وحدَها, بعيداً عن الإقرار بأيّ من حقوقهم السياسيّة, الثقافيّة, الاجتماعية, أو الإنسانية. فالكُردُ في سوريا ظلّوا مُتأرجحينَ بينَ واجباتٍ مفروضةٍ وحقوقٍ مرفوضة, لا مِن قِبَلِ الأنظمة السورية المُتعاقبة فحسْب, بل من قبل المُعارضةِ السّورية, وشرائحَ جماهيريّة تمّتْ تعبئتُهم بأساليبَ وطُرائقَ متنوّعة, ترغيباً وترهيباً واقناعاً بأنّ على الكُردِ في سوريا ما على غيرهم من السوريين من واجبات.
نعم علينا واجبات! ولم نتهرّبْ من تأديتها يوماً! فقد كان الكُردُ دوماً جنباً إلى جنب مع إخوانهم في الدفاع عن الأرضِ السوريّة ووحدتِها وصونِها ضدّ التدخُّلات والمخاطر الخارجيّة, منذُ عهد إبراهيم هنانو, ويوسفَ العظمة, وحتّى مُشاركتهم الفاعلة في الثّورةِ منذ بدايتها, ليكونوا كإخوانهم وقوداً لها.
تلكَ الثورة التي كانتْ نتيجةً طبيعيّةً لتخبُّطاتٍ مُزمنةٍ في سياساتٍ طُبِّقتْ بحقّ السوريين, ومن بينهم الكُرد, الذينَ وُضِعوا في موقفِ الدفاعِ عن النّفسِ لإثباتِ براءتهم من مزاعم الانفصال عند كُلٍّ من النّظام البعثيّ وقسمٍ واسعٍ من المُعارضةِ على السّواء.
كانتْ هذهِ المُشاركةُ واجباً كما كانتِ الانتفاضةُ الكرديّةُ السوريّةُ عامَ (2004), وقبلها عشرات التظاهرات والاعتصامات الكرديّة في دمشقَ وحلبَ وقامشلو, جزءاً من ذلكَ الواجبِ الوطنيّ الذي أدركَهُ هؤلاء الكُردُ، وآمنوا بجدواهُ في ظلّ نظامٍ لم يمكن ولا يمكن أن يمنحَ أحداً حقوقاً إلاّ في إطارٍ زائف, بل أدركَ الكردُ أنّ الحقوقَ يجبُ أن تُنتزعَ منه بالإلجاء والنضال السلميّ, دونَ انتظار شفقةٍ منه أو صدقَةٍ يتصدّقُ بها على أحد.
إلاّ أنّ القسمَ الأعظمَ من المعارضة السوريّة نفسِها قبلَ الثورة السوريّة وإبانَها، وبعدها أيضاً, تنكّرَ ويتنكّرُ لهذهِ الحقوقِ, ويقتصرُ على التصريحِ بأنّ الكردَ مُطالبونَ بتأديةِ واجباتهم الوطنيّة السوريّة, وكأنّ هذا القسمَ من المعارضةِ، وهو يُملي على الكردِ واجباتهم, غافلٌ عن تضحياتهم على امتداد عُقودٍ طويلة من النضال والمقاومة والمُعاناة والحرمان من جميع الحقوق؛ أو كأنهُ ينتوي إعادة تجربة الأنظمة السّابقة واللاحقة, ولم يرَ ولا يرى أنّ للكردِ حقوقاً يجبُ أن تُصانَ أيضاً,
فعندما يتعلّقُ الأمرُ بالواجبِ يُقالُ, في مستويي النظام والمعارضة على السّواء:” إنّ الكُردَ سوريوّن بامتياز, وعليهم ما على جميع السوريين من واجبات, بل لا بُدّ أن يكونوا في طليعة القرابين المُقدَّمة من أجل سوريا حُرّة كريمة.
أمّا عندما يتعلّقُ الأمرُ بالاستحقاقات القانونيّة الشرعيّة والحقوقيّة فيُقال:” إنّ ما يجدرُ به الكردُ لا يتجاوز, أو ينبغي أن لا يتجاوزَ, بعضَ الحقوقِ الثقافيّة والسياسيّة البسيطة, من سماحٍ لهم بتشكيلِ جمعيّات ثقافيّة وأحزابٍ, وفي ذينِ الأمرين يتحقّقُ التقاءُ النظام البعثيّ وهذا القسم الواسع من المُعارضة, واتّفاقهما الضمنيّ, أو المُعلَن المقصود أو الغير مقصود.
إنّها المُشكلة التي تُعانيها ما تُسمّى بالمعارضة, التي تُطالَبُ اليومَ بأن تتخلّصَ من عقليّة النظام في تعامُلها مع القضيّة الكرديّة في سوريا, تعامُلاً ينبغي أن يبتعدَ كثيراً عن العِللِ والآفاتِ المعهودة سابقاً, حيثُ يُسمّى الكُردُ سوريين عندَ تأدية الواجباتِ, ويُسمَون كُرداً عندَ إحقاقِ الحُقوق!
ما زلتُ أذكرُ في أواخر عام 2011 العلماني بُرهان غليون, في لقاءٍ تلفزيونيّ مع قناة (دوتشه فيلي) ردّاً على سؤالٍ بخصوص ما يُطالبُ به الكردُ من تطميناتٍ لعدم إقصائهم في سوريا المُستقبل, قال:” إنّ هُويّةَ الدولة السورية عربيّة, كون أغلبيّة السُكّان من العرب, وإنّ المُكوّنات القوميّة الأخرى في سوريا هي جماعاتٌ أو تجمّعاتٌ قومية, تُشبهُ في وجودِها تواجد المسلمين والمُهاجرين الآسويين في فرنسا”!
وفي حديثٍ منشورٍ في (صوت الكُرد) عام 2011 للمسلم علي البيانوني أكّد بأنّهُ لن يقبلَ بحقّ تقرير المصير للشّعب الكرديّ في سوريا, ولن يقبلَ أيضاً بأيّ مشروعٍ يتبنّى لا مركزيّة نظام الحُكم – الفيدراليّة في سوريا الجديدة, وكانَ قد قال في حديثٍ سابقٍ:” بأنّ أكثرَ من ثمانين بالمئة من الشّعب السوريّ هُم عربٌ ومسلمون سُنّة, وذلكَ في إشارةٍ منه إلى أنّ عددَ كل الأقليّات القوميّة والدينيّة لا يتجاوز ال 10%”!
وفي تصريحٍ للحقوقيّ هيثم المالح عام 2013 قال:” إنّ الكردَ هُم عربٌ نسَوا انتماءهم القوميّ! وقال أيضاً أنّ حقوقَ الكردِ غيرُ مشروعة”.
وفي عام 2015 كتبَ الليبرالي كمال اللبواني في مقالٍ لهُ: لن تكونَ بعدَ اليوم القضيّةُ الكرديةُ قضيّةَ حقوق إنسان, بل قضيّةَ جناياتٍ دوليّة!
وفي تصريحٍ لوكالة (آكي) الايطالية عام 2016 حذّرَ ميشيل كيلو من أنّ السوريين لن يسمحوا بإقامة كيانٍ يُشابهُ لإسرائيلَ على أرض سوريا, مُشيراً إلى مشروع الفيدراليّة.
وفي تصريحٍ لأسعد الزّعبي مؤخّراً قال:” إنّ الكردَ لا يُشكلّون واحد بالمئة من عموم الشّعب السوريّ, وأنهم كانوا ينتظرون في عهد حافظ الأسد ورقةً تُثبتُ أنهم بشَرٌ !
وعن طروحات الفدرلة شدّدَ بشّار الأسد في تصريحٍ لجريدة الأخبار اللبنانيّة عام 2016 على أنّ أيّ حبّة تراب سورية سندافعُ عنها, وهي مُلكٌ للشعب السوريّ, ولا إمكانيّةَ ولا فُرصةَ لتقسيم سوريا, لافتاً إلى أنّ المنطقةَ التي أُعلِنتْ فيه الفيدراليّة لا يزيد عددُ الأكراد السوريين من سُكّانها عل ثلاثةٍ وعشرين بالمئة! وهذا ما يجعلُ الفيدراليةَ وهماً”.
ربّما هذا يكفي ليعكسَ لنا الذّهنيةَ العامّةَ لدى السياسيين في النظام والمعارضة على حدٍّ سواء, ورؤيتهم تجاهَ المسألة الكرديّة في سوريا.
إنهُ المنطقُ ذاته, والعقليّةُ الإقصائيّة ذاتها.
لقد خلقَ العقلُ الشوفينيّ في مؤسسات سُلطة البعث, على مدى ستةِ عقودٍ ونيف, شعوراً بالإحباط والغضب في آنٍ لدى الكُرديّ من كلّ ما يتعلّقُ بالدولة والوطن الذي يعيشُ فيه.
لقد دفعهُ النظامُ إلى زاويةٍ هامشيّة مُضاعفة الدرَجات في المُعاناة والاضطهادِ, ومع كلّ هذا العُنف المُمارس ضدّ إنسانيّته كفَرد وحقوقهِ كشعب, لم يفقدِ الأملَ, وبقيَ يصنعُ المُعجزاتِ لمواصلة كفاحه اليوميّ للاستمرار في الحياة بإصرارٍ وتوازن, انتظاراً للحظة الثّورة التي من المُفترَض أن تُعيدَ الأمورَ إلى مسا راتها الصحيحةِ, وتُعيدُ الكرامةَ والحُريّةَ إلى الإنسان السوريّ عموماً وإلى الكرديّ كاملَ حقوقهِ المشروعة, كشعبٍ يعيشُ على أرضه التاريخيّة, وتفتح أمامهُ عهداً جديداً يمنحهُ القُدرةَ على صياغةِ ذاتهِ من جديدٍ وفقَ مُعادلاتٍ وطنيّةٍ سوريةٍ في ظلّ دستورٍ عصريٍّ يعترفُ بالجميع، ويحمي حقوقَهم، ويُقرّ بالتنوّع اللغوي والثقافي، وتعدّد الهويّات في سوريا المستقبل.
لقد عبّروا عن توقِهم للحريّة في انتفاضةِ عام 2004, لكنّ العُمقَ السوريَّ كانَ أخرساً آنذاكَ, ولم يُبدِ أيّ نوعٍ من التضامنِ مع إخوتهم الكُرد لتخفيف شيءٍ من معاناتهم, كما لم يتوانَوا عن أداءِ واجبهم تجاهَ سوريا حتّى الآن.
فإذا كانَ الكرديُّ سوريّاً, وكانتِ المعارضةُ السوريّة تسعى إلى بناء دولةٍ مدنيّة أو علمانيّة ديمقراطيّة, يؤمنُ النظامُ الجديدُ فيها بالتعدّدية والمواطنة, فإنّ من حقّ الكردِ أن يُمارسوا مواطنتَهم وفقَ القانون, بجميع تفاصيلها وجزئيّاتها دونَ تأويلات أو تخريجاتٍ مزاجيّة من هنا أو هناكَ, ومن هذا أو ذاكَ؛ بدءاً من الترشيح إلى انتخابات الرئاسة والمناصب العُليا في سوريا (هم جزءٌ حقيقي منها)، وانتهاءً بالعمل داخلَ مؤسّسات الوزارة والبرلمان وغيرها, مروراً بحقّهم في افتتاح المدارس والمعاهد والجامعات الكرديّة والقنوات الإعلاميّة والفضائية الخاصّة بهم, أسوةً بغيرهم من إخوانهم السوريين, وغيرها ممّا ينبغي أن يكون محميّاً بالدستور والقانون السورَيين في إطار المواطنة السوريّة الحقّة لا الزّائفة.
إنّ من أصعبِ المزالقِ التي تضعُ المعارضةُ السوريّةُ نفسَها فيهِ, أن تُكرّرَ تجربةَ الأنظمة السابقة بإبقاء الكُرد أيضاً في دوّامة الواجبات المفروضة والحقوق المرفوضة, لتعودَ البلادُ – بعدَ تحرّرها من أنظمة الاستبداد والاستئثار بالحُكم والشموليّة – إلى نظامٍ مماثلٍ, لا تُرعى فيه حقوقُ المواطنة, وتُعادُ تجربةُ مُعاداة الديمقراطيّة وإقصاء القانون وإنهاء العدالة والمساواة, فتعود سوريا إلى عهود القائد الواحد والحزب الواحد والقوميّة والثقافة والدّين الواحد والطائفة الواحدة.
ولكي تنجحَ تجربةُ سوريا الحديثة لا بدّ من التوفيق بين فرْضِ الواجبات وإحقاق الحقوق لأيٍّ من مكوّنات الشّعب السوريّ.
إنّ الكردَ في سوريا وطنيّون بامتياز, سوريّون, وما لهم أيّة أطروحاتٍ انفصاليّة, وإنّ سببَ الأزمات هيَ الأنظمةُ القوميّة والسلطويّة, وإنّ النظامَ الفيدراليّ الديمقراطيّ لشمال سوريا سيكونُ النواةَ لبناء سوريا ديمقراطيّة تعدّدية, تصونُ حقوقَ كافّة المُكوّنات على أساس الأمّة الديمقراطيّة, وهنا يحضرني ما كتبه الأستاذ سيهانوك ديبو منذ يومين “نعم للفيدراليّة الديمقراطيّة لشمال سوريا, نعم لجمهوريّة سوريا الفيدراليّة. كَم مِن طريقٍ ضيّقٍ ينتهي بطُرقٍ واسعةٍ وساحاتٍ كبيرةٍ, والعُبورُ هنا لا علاقةَ لهُ بالرومانسيّة وإنما بالفعلِ الخلاّقِ المؤدّي إلى أكثر الأمور جمالاً “.[1]