تفصيلٌ في الحكمة الغائيّة للصيام:
المثقّفُ والمسقّف
لا نرى، فيما يذهبُ إليه بعضُ المتفقّهة في تفسير الحكمة الغائية للصوم على أساسٍ من فلسفة الجوع والحرمان، تعليلاً مقنعاً لإدراك هاتيكَ الصلة التي تربطُ الصومَ- بما هو مجاهدةٌ نفسيّةٌ واقعية- بالحياة الإنسانية، يدبّر أمرها بما يصلها بالمعنى الحقّ الذي يتفهّم الصائمُ من خلالهِ كُنهَ بشريتهِ تجاهَ مقام الألوهيّة، فيتأدّى به ذلكَ إلى تجرّد روحيّ، يستشعرُ معهُ سلطان الله تعالى على نفسهِ، مما يغرسُ خشيةَ الله في قلبه، وهو المعنى الجوهريّ الذي أشارَ إليه القرآنُ، مبيّناً الغاية القصوى لفريضة الصوم، في قوله تعالى:(كُتبَ عليكمُ الصيامُ، كما كُتبَ على الذين من قبلكم، لعلّكم تتقّون)
فليسَ التجويعُ والحرمانُ- في حدّ ذاته- بما يورثُ خوراً في الجسم، وإنهاكاً للقوى، مما يصحّ أن يعتبر- في الشرع- غرضاً مقصوداً لله تعالى.
صحيحٌ أنّ الجوعَ يورثُ وهناً في الجسم وإنهاكاً للقوى، لانقطاع مصادر الغذاء عنه في فترات متتالية تستغرقُ شهراً كاملاً، لكنّ هذا المعنى لا يرقى إلى مستوى الحكمة الإلهية المقصودة أصالة من هذه العبادة الروحيّة الخالصة. إذ تعذيبُ النفسِ لم يثبَت شرعاً أنه مقصَدٌ للتكاليف الإسلام.
هذا ولا تنحصرُ الحكمةُ من فريضة الصيام أيضاً فيما يُردّدهُ بعضهم من تقوية الإرادة أو قوّة الاحتمال والمُجالدة، أو إشعار ذوي ذوي اليسار
بوطأة الحرمان ومرارته على النفس في تجربةٍ عمليّة واقعيّة، ليحملهم ذلكَ على تقدير ما يعانيه الفقراءُ المكدوحينَ. إذ لو كانت الحكمةُ محصورةً في كل أولئكَ، لكانَ تشريعُ الصوم خاصاً بهم، لانحصار هذه الحكمة فيهم. وليسَ الأمرُ كذلكَ بالبداهة، بل هو تشريعٌ عامٌ غيرُ مخصوصٍ بفئةٍ من المسلمين دون أخرى، لقوله تعالى:( كٌتبَ عليكم الصيامُ كما كتبَ على الذين من قبلكم لعلّكم تتقّون).
لماذا نصوم شهر رمضان إذاً؟:
إنّ الحكمةَ الإلهيةَ من فريضة الصوم تتصّلُ اتصالاً مباشراً بالكيان البشريّ من حيثُ حقيقة هذا الكيان. وإنّ الصومَ شُرّعَ لإشعار الإنسان ببشرية كيانه التي تتسّمُ بالحاجة إلى الطعام والشراب، ومن لوازمها الفناءُ، فجاء الصومُ إيقاظاً لوعي الإنسان لكُنهِ بشريته، ليعرفَ نفسهُ فلا يستعلي على مقام الألوهيّة.
وعلى هذا أمكنَ القولُ بأنّ الصيامَ ما كانَ إلاّ عبادةً روحيّةً وتجربةً نفسيّة واقعيّة، تسمو بها الروحُ وترتفعُ عن المشتهيات الماديّة، فلا تجعلها غايةً لحياتها، لأنّ تمثُّلَ الحقائق المعنويّة العليا التي أطلقَ القرآنُ عليها( البيّنات من الهدى والفرقان) من شأنها أن تحققّ إنسانيّةَ الإنسان.
إنّ الحكمةَ من الصوم تتصّلُ بحقيقةٍ كبرى قائمة في كيان الفطرة البشريّة، قد تظاهرتْ آياتٌ كريمةٌ عدّة على تجليتها، فكانت تشكّلُ في مجموعها قوامَ نظرة القرآن إلى الإنسان نفسه من حيثُ كونه” وحدة متكاملة” مادّة وروحاً معاً، لا تقبلُ الفصلَ أو التجزيء، فضلاً عن كونه كائناً حياً عاقلاً مفكراً مريداً حراً مسؤولاً.[1]