أينَ نحنُ مٍن أنساق الحقيقة؟
سليمان محمود
يتطرّق القائد أوجلان في المجلّد الثالث من مانيفستو الحضارة الديمقراطية للإشكالية الأسلوبية التالية (الشمولية – النسبوية)، حيث إنه ينتقد الشمولية وفلسفتها التي تكمن في التقدم اللانهائي على خط مستقيم (فلو كان التقدمُ المستمر للكون نحو هدفٍ معيّن أمراً صحيحاً، لكان ينبغي بلوغه هذا الهدف منذ أمدٍ بعيد -ص38 من المجلد الثالث-). وينتقد أيضاً النسبوية وفلسفتها في الدوران الحلزوني اللانهائي (لو كان مصطلح الدوران اللانهائي صحيحاً، لكان واجباً ألا تعاش أو تتكون هذه التغيرات والتطورات الكونية الموجودة. – ص38 من المجلد الثالث) ويعتبرهما وجهان لعملة واحدة كونهما مفهومان أحاديان ومطلقان بشكل مفرط منذ البداية.
طرحُ أوجلان لهذه الإشكالية السوسيولوجية – التاريخية في الأسلوب وتطويره للبديل (الحضارة والعصرانية الديمقراطية) يعتبرُ من أهم الإنجازات الفلسفية في عصرنا برأيي. فلو تمعّنا لوهلة من الزمن لما يطرحه أوجلان بصدد هذه القضية الأسلوبية، سنعي بشكل كبير بأن كل أنظمة السلطة المهيمنة المركزية هي أنظمة شمولية بنيةً وأيديولوجيةً (طبعاً وإن لم يكن بالمعنى الحداثوية، فالشمولية وصلت لأوجها مع القوموية والدولة القومية).. ومع ذلك لم تستطع أو فلنقل أنظمة المدنية التقليدية (ما قبل تحول الرأسمالية لنظام عالمي بعد القرن السادس عشر، حيث أن المدنية بحد ذاتها شكل من أشكال الرأسمال ولكن الرأسمالية كانت دائماً محبوسة بالقفص الحديدي نظراً لكونها خطر على المجتمع والسلطة التقليدية أيضاً) أن تكون شمولية بقدر الرأسمالية على أقل تقدير. كلنا يعلم بأن الشمولية كانت نتاج كهنوتي للشامانية البطرياركية (حيث يعتبر التقدم القدري على خط مستقيم انعكاس تصّوري أو رمزي لبيولوجية الرجل أيضاً) ولكن مع ذلك القوة الدفاعية للمجتمع التاريخي لم تسمح بالسيطرة الاحتكارية التامة للسلطة المهيمنة. ولكن مع عصر الحداثة أو اللاحداثة الرأسمالية ودينها القوموي الفاشي ُولدتْ أنظمة شمولية لن ينساها التاريخ، ودمرت المجتمع وتم تأنثيه وتنميله أيضاً. فهتلر وموسوليني (طلبة مصطفى كمال أتاتورك الدونمي) يمثلون ذروةَ الشمولية كفلسفة تاريخية. حتى الماركسية حسب حنة أرندت نظام شمولي بامتياز (ستالين مثالاً). ولكن الرأسمالية لم تكتفِ بالشمولية كفلسفة بل طوّرت النسبوية كبديل شمولي ومطلق مضاد (تكمن ميزة الرأسمالية في كونها تستطيع ربط كل الأفكار المناهضة لها بذاتها كالماركسية مثلاً). حيث تم ذرذرة المجتمع وتم تقطيع الحقيقة إرباً إرباً تحت مسمى الفرادانية والنيوليبرالية المعاصرة.
نسقُ الحقيقة الذي يطرحه القائد أوجلان يتجاوز الحداثة الرأسمالية، ودون الانجرار لطفرات ما بعد الحداثة، ويطرح العصرانية الديمقراطية كبديل كوني وكأطروحة مضادة للحداثة الرأسمالية والحضارة الديمقراطية كأطروحة مضادة للمدنية المركزية.
ما أردت الوصول إليه هو كالآتي:
أين نحن من هذه المعادلة؟ إلى أي مدى استطعنا تجاوز البنى المعرفية المتأزمة للحداثوية وطورنا بدائلنا؟ أي إلى أي مدى تجاوزنا أنساق الحقيقة المهيمنة؟ كم معهد أو أكاديمية أو جامعة أو لجنة بحث فتحت من أجل البحوث الفكرية (سوسيولوجيا – تاريخ – فلسفة – فيزياء – كيمياء – بيولوجي – طب…………………الخ) لنسق الحقيقة الأوجلاني؟ إلى أي مدى تخلصنا من بقايا الماركسية والشمولية والمفهوم الثوري العنفي الهادف لبناء دولة؟ إلى أي مدى تخلصنا من مفهوم الهندسة والبستنة الاجتماعية حيث نرى ذاتنا ذوات فاعلة يحق لها هندسة المجتمع كما يحلو له؟
أظننا نحتاج لثورة ديالكتيكية كبيرة فيما يخصّ أنساق الحقيقة، (فالنيّة ُوحدها لا تكفي).[1]