اللغة والهوية
تَعَالَوْا أَيُّها المَارِقُونْ.
تحتَ شُعاعِ الشِّمسِ نَحتَكِمُ
أَ نَحنُ بُناةُ المَجْدِ والأوطانِ
ونَهْضَةِ التاريخِ، أَم أَنتُمُ؟
تَعَالَوْا يا أيها الفارُّوْنَ؛ من
“لغةِ”؛ الشهيدِ الحاكِمُ والحَكَمُ.
صحيحٌ أن الخَوضَ في الحديث عن “اللغة”، وحِفاظِها على الإرْثِ الثقافي والتاريخي؛ شاق وشائك، ولكن لا بُدَّ لنا من أَنْ نُعرِّجَ
عليها، ونتحدَّثَ بما قَرَأْنا عن أهمية “اللغة” في كتابة التاريخ، باعتبارها من المرتكزات الأساسية في إثراء معرفة الماضي وتجديد التاريخ، وبعث الروح فيه، والحفاظ على الإرث الثقافي. فنحن هنا لا نقوم بإيهام القارئ إذا قلنا: عندما طَرَحَتْ الإدارة الذاتية والأحزاب الأُخرى في حركة المجتمع الديمقراطي إعادة إحياء “ا#للغة الكردية# ” وتدريسها في مدارس روج آفا من مقاطعات وأقاليم، بالتوازي مع اللغة الرسمية التي كانت تُدرَّس سابقاً في مدارسِ هذه الأقاليم والمقاطعات، فإنها بذلك رسمت مساراً واضحاً وسليماً لتكريس الهوية الكردية، وأعطت نسغاً قوياً لشجرة التاريخ
الكردي؛(تلك الشجرة التي كادت أن تجفَّ وتيبسَ بفعلِ أعمال التصحر المقصودة التي كانت تحيط بها)، والحفاظ على الإرث التاريخي والثقافي للكُرد، وبناءِ مستقبلٍ مُشرق، إذ أن مستقبلَ أيَّةَ أُمَّةٍ لا ينفصل مطلقاً عن مستقبلِ لُغَتِها.
ذلك الموروث التاريخي والثقافي الذي انشغل عنه معظم المؤرخين والكُتّاب الكُرد آنذاك، أو تم تجاهله بسبب عامل إدخال الدين في السياسة، واستنباط الثقافة، والعادات، والتقاليد الدالة على الكرد من إطار الدمج بين السياسة والدين، وهذا ما استغله بعض الدول، فعَمِلتْ على طمسِ معالِمِ لغتنا، ومُعطياتِها التاريخية بكافة السُبُلِ المُتاحة، ومن أوْلَى هذه السُبلِ حَظر هذه اللغة من التداول، ومحاولة إخفاء كل المفردات الكردية في فضاءٍ مظلمٍ، وَسَحْقِها وذَرِّها في الهواء؛ متجاهلةً بذلك ثقافةَ شعبٍ صاحبَ حضارةٍ وتاريخٍ عريقين، إذ أن اللغةَ هي الوسيلة الوحيدة لاستشفاف الماضي، وهي التي تحافظ على الموروث الثقافي للشعوب، وهي المادة التاريخية التي تقود إلى معرفة النسيج الاجتماعي الذي يُكوِّنُ ماضي الإنسان وروابطه، فهنالك الكثير من الحضارات والثقافات القديمة التي لا نعرف عنها شيء، أو نجهلَ عنها الكثير سوى ما قدمتهُ لنا الحفريات الأثرية من معطيات، كالرموز والصور، إذاً، ولأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي ينفرد بالتفكير عن سائر الكائنات، فلا بُدَّ لهُ من “لغةٍ” يُعَبِّرُ بها عن ثقافتهِ وحضارتهِ وأفكارهِ، بل حتى خواطره، وإبرازَهَا للعالمِ، وهذا ما قام به الكُرد في روج آفا، فمهما أرجَفَ المُرْجِفُونَ وبَالغَ الغُلاةُ، ونَبَشُوا في المثالِبِ، وأخذوْها مادةً للتَعَكُزِ عليها وحاولوا الاصطياد في الماء العكر، فإننا ماضُوْنَ في علاجِ القضايا الكُبرى مثلُها مثلُ اللغةِ، ونسير بخُطىً ثابتةً لبناء جيل من الشباب أكثر انتماءً “ل لغتهم” وإرثهم الثقافي، وأعمق إيماناً بتاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم، وأكثر ثقة بأنفسهم؛ ليكونوا بُنَاةَ نهضَةِ الأمَّةِ وحُرَّاسَ ثقافتها، جيلٌ مُمْسِكٌ بناصيةِ المؤامراتِ التي تُحاكُ ضدَّهُ من حولهِ، جيلٌ يَضَعُ اللَّبِنَةَ الأساسيةَ لِبناءِ مستقبلٍ مُشرقٍ مرتبطٍ بأمجادِ الماضي، وهذا ما يدفعُنا بقوَّةٍ إلى إظهار “لغتنا” وإيصالها للعالمِ والتعريف بها، وجَعْلِها لغةً رسميةً من بين اللُّغاتِ الرسمية المعتَمَدَةِ والمُتَرْجَمَةِ في الأُممِ المتحدةِ.
وللحق كلمة يجب أن تُقال:
بأنَّ هذه الخطوة الجبَّارة والشُجاعة التي قام بها الكُرد في روج آفا أنارت الطريق، وسهَّلت الوصول، وفتحت السبل أمام المتشوقين إلى معرفة التاريخ الكُردي، والثقافة الكردية، وكسرَتْ القيود عن تلك الأقلام المتذبذبة والمترددة، وبدأت تتحرك في أيدي الكُتَّاب والأُدباء والمثقفين بكلِّ حرية، وبدأ الغبار ينْفَضُ عن تلك القلة القليلة من الكُتب التي لَطَالَمَا كان البحثُ فيها أو الإيِماءُ للآخَرِ بمحتواها؛ يؤدِّي إلى الاعتقالِ التعسفيِّ والزَجِّ في السجون والأقبية، والسراديب المنسية في غياهب الظلمات. [1]