عن الحرية أتحدث
البنية الروحية للأمة الديمقراطية
وليدة حسن
يا أيها السائل ما الحرية سالت عن جوهرة سنيه
تضيء أرواحاً لنا زكية يا نعمة الحياة بالحرية
وتألف المنازل العلية العز كل العز في الحرية
يا جاهلاً معاني الحرية يا فاقداً حس الحياة الحية
بهذه الكلمات المنمقة يسترسل الشاعر أحمد شوقي في وصف الحرية، فالحرية كلمة يستكين بها القلب، وتدغدغ الآذان؛ نادت بها حناجر المظلومين، والمسحوقين، ونُظِمت وأُلفت فيها قصائد وروايات وكُتُب. والكثيرون قدموا أرواحهم على مذابحها، من عظماء، ومفكرين، وفلاسفة، وثوريين، وأبطالاً ضحوا بأنبل وأعظم ما لديهم من أجل إحقاق حرية الآخرين.
وتظل الحرية حلماً للآلاف في غياهب السجون، وأملاً للملايين المناديين بها حول العالم، ففي غياب الحرية يتيح لا محالة ضياع هوية الإنسان، بل وانعدامها، فالحرية روحاً تسكن الأفعال وتتجلى هذه الأفعال بأعظم القيم قدسية، كونها نابعة من شخصية حرة، ويبدو أن الحرية ليست مقتصرة على ذات الإنسانية، وهذا ما يؤكده علماء الأحياء (البيولوجيا) بأن للحيوانات وعياً خاصاً بها تأتي على شكل سلوكيات واعية عند تعرضها لمواقف معينة، فعندما يتم وضعهم في أماكن تحتجز حريتهم يعبرون عن رفضهم لهذا الحجز عبر سلوك معين، ولم تكن كلمة تشارلز داروين في كتابه أصل الأنواع عندما قال: “التعبير عن العواطف في الإنسان والحيوان”، إلا ليؤكد بأن للحيوانات خبرات عقلية وردود أفعال أثناء تعرضها للشدة أو الذعر، فيمتلكون إذاً منظومة حياتية لا يخرجون بها عن الإطار البيئي والطبيعي.
ونظراً لارتباط الحرية بجوهر الإنسانية وبصفائها وضميرها الأخلاقي، أكدت عليها جميع الشرائع السماوية، وما زالت كلمة الفاروق عمر بن الخطاب عبر السنين تطرق مسامع الظالمين ويرددها المظلومين في معرض رده الظلم عن الناس، حيث قال: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”، وقد لاقى مصطلح الحرية اهتماماً واسعاً عند الفلاسفة وحاولوا البحث عن مفهومها وحدودها وتطبيقها، وبذلك ظهرت نظريات ورؤى متعددة حول الحرية حتى أصبحت أغنى المفاهيم الفلسفية، يقول عنها جيمس آرثر “:الحرية لا تُمْنَح وإنما يتم انتزاعها”، فهي حق للجميع، تُؤخذُ ولا تطلب، ولا يمكن تقسيمها أو تجزئتها أو التنازل عنها، أما سارتر: فينظر للحرية على أنها مطلقة، ويؤكد على أن الإنسان حر، لمجرد أنه إنسان، أي الربط بين الوجود الإنساني وماهيته، فالحرية عنده كائنٌ بشري يفرز عدمه الخاص غاضاً البصر عن أحداث الماضي والمستقبل للإنسان.
ولقد شرعت القوانين والمواثيق الدولية الناظمة لحقوق الإنسان والحريات مجموعة من القواعد القانونية والمبادئ الأساسية، الهدف منها تثبيت دعائم الحياة الإنسانية على أسس تتوافق مع مقتضيات العدالة والمساواة بين كافة أفراد المجتمع دون النظر إلى (اثنية، جنس، لون، لغة…) وبذلك تضْمن الدول حقوق الإنسان والحريات العامة، وتكفل ممارستها، فبمجرد أنه إنسان يحق له حقوق ثابتة وطبيعية تنبع من إنسانيته ككائن بشري، فأينما كان، له كامل حق التمتع بحريته وعلى الجهة الراعية أن تقوم بضمان حرية الفرد، فالدولة تقوم بتقنين ممارسة الحرية، وضبط احترامها، وذلك عن طريق قانونٍ وضعيٍّ تجنباً للفوضى، فالحرية والمسؤولية توأمان، فممارسة الحرية، لا يعني البتة الدعوة للفوضى وتجاوز الحقوق أو غياب الالتزامات، بل عكس ذلك فالإنسان يكون حراً ومسؤولاً عن خيارات أفعاله التي يقوم بها.
وشكلت قضية الحرية عند فيلسوف الأمة الديمقراطية عبدالله أوجلان، حيزاً هاماً بل وأساساً لإيديولوجية حركة تحرر المجتمع فيقول: “لا أتمالك نفسي من القول وكأن الحرية هدف الكون، كثيراً ما تساءلتُ في قرارة نفسي فيما إن الكون يندفع نحو الحرية، ولطالما شعرت بالنقص الموجود في المقولة التي تشير إلى أن الحرية طموح عميق حكر على المجتمع البشري.
وبهذه الكلمات يبدأ المفكر أوجلان بطرحه لقضية الحرية وكيف لا وأن العُقد الاجتماعية العميقة والعمياء، والتي تزداد سعتها ووتيرتها وتشعبها يوماً بعد يوم، والتي تراكمت أساساً على غياب الحرية أو تغييبها منذ أكثر من خمسة آلاف عام، والتي تمثلت بثقافة المدنية المركزية (سومر) وأُدْخِلَت هذه الثقافة وترسخت في كل تفاصيل حياتنا اليومية حتى أصبح المجتمع بأكمله جسداً بلا روح.
إن إغراق المجتمع في الفوضى وإبعاده عن كافة قيمه الأخلاقية والمجتمعية، وكذلك عن السياسة المجتمعية أدى إلى تكريس العبودية، ويؤكد السيد أوجلان أن “السلطة والدولة ساحة؛ مُحال أن ُيبحث فيها عن الحرية أو تحقيقها” وذلك لأن الدولة والسلطة هما أدوات لتكريس السلطة واستعمال العنف والقوة، عكس تشخيص هيغل الذي يرى أن الدولة هي الساحة الحقيقية التي تتحقق فيها الحرية، وكذلك يؤكد هيغل على تذويب الحرية الفردية في الحرية الجماعية، أما إيديولوجية الحداثة الرأسمالية ونظريتها الليبرالية تنطلق أساساً من الحرية الفردية وتشجيع الفردانية التي تؤدي إلى حدوث شرخ في الحياة المجتمعية.
ويؤكد القائد، أن المجتمع الديمقراطي هو النسق السياسي الاجتماعي الأنسب للموازنة بين الحريات الفردية والجمعية والتطبيق، وتوطيد مفهوم المساواة التي تتخذ من الاختلاف أساساً.
إن الاختلاف ضمن أي مجتمع كان؛ بكافة شرائحه وأطيافه وانتمائه وأجناسه، يستطيع أن يمارس حريته الفردية في إطار الحرية المجتمعية، ليكون المجتمع الديمقراطي القائم على السياسة الأخلاقية والمساواة والعدل الأرضية المناسبة لتحقيق هذه الممارسة.
ولعل أبرز قضايا التحرر هي قضية تحرر المرأة، فالكثير من المشاكل الاجتماعية متمحورة حول شخصية المرأة، وعندما بدأت حركة التحرر الكردستانية، كانت بمثابة النهضة للمرأة، حيث وجدت المرأة ذاتها في هذا الفكر وهذه الفلسفة التحررية، فشهد انضمام الآلاف من الفتيات في مقتبل العمر لصفوف الحركة، وبانضمامهن أعطيت لحركة التحرر زخماً عظيماً فخروجها في رحلة البحث عن حريتها وحرية مجتمعها. كانت ثورة بحد ذاتها وبذلك حملت المرأة الكردية شعلة المقاومة، والبحث عن الحرية، وساهمت بشكل كبير في دفع حركة تحرر المرأة العالمية، وحافظت على ميراث المرأة في المقاومة من النيولوتي وجميع كفاحات المرأة على مدى خمسة آلاف عام، وبلغت ثقافة المقاومة في أوجها في حركة التحرر في جميع المجالات التي تقودها المرأة حتى أبهرت المرأة الك[1]