الشهادة والشهداء ذاكرة وجدانية حية وليست أضرحة مادية ومعالم رمزية تنتهي بمحوها وإزالتها
ياسر خلف
لم يجد شعب على مر التاريخ ما مر به #الشعب الكردي# من مأسي وألم ومخاض دامي؛ جراء سياسات وممارسات دكتاتورية من نظم الاستبداد المحتلة لوطنه وجغرافية أرضه، لدرجة بات يُعْرَفُ الشعبُ الكرديُّ بشهدائه؛ أجل قد يكون من الصعب معرفة الحقيقة الكردية في وقتنا الراهن ما لم نبحث جذور التكوين الكردي نشوءاً ووجوداً؛ ذلك أن الوعي بالشيء يرتبط بنشوئه ووجوده في حيز الزمان والمكان، وهذا كان حال الشعب الكردي في الشك بوجوده ونشوئه عبر قطع الوعي عنه، واجباره على الانحلال والصهر في بوتقة الهيمنة الوافدة المستحدثة المحتلة والمستعمرة ليُجعل ما لم يكن موجوداً بحكم الاستغلال والقوة؛ سلطةً تفرض وجودها في مكانٍ وزمانٍ ليس لهُ وجودٌ ونشوءٌ بمقتضى الحقيقة التاريخية والارتقاء الطبيعي لوجودهِ كنسلٍ وعرقٍ أو قومية وأثنية وافدة وليست أصيلة في وجودها بكردستان؛ لا مكاناً ولازماناً ولا نشوءاً، وهنا يتضح بشكل جلي زيفها وكذبها عبر ممارساتها وسياساتها وأساليبها الإرهابية التي تجاوزت كل قيم ومبادئ الفطرة الانسانية، وربما حتى الحيوانية الغرائزية؛ فهذه النُظُم المحتلة ترى في كل من يعي حقيقته وأي شيء يدل على ممارساتهم وطغيانهم خطراً لابدَّ من إزالته ومحوه.
وفي هذا السياق يقول قائد الشعب الكردي عبد الله أوجلان: “ما يَهمُّ في موضوعِنا هو توضيحُ العلاقةِ فيما بين النشوءِ والوجودِ والوعي، وإضفاءُ المعنى عليها. وسوف تَغدو هذه المصطلحاتُ الثلاثةُ تنويريةً للغاية، عندما يَكُونُ الكردُ موضوعَ الحديث. فالعملُ على تعريفِ الكردِ وهم في حالةِ الوجودِ والنشوءِ والوعي، يُشَكِّلُ أرضيةَ الفهمِ الجذريِّ للموضوع. كان وجودُ الكردِ مثارَ جدلٍ وسجال، ربما بالنسبةِ إلى أغلبيةِ المجتمعاتِ والدولِ حتى أَجَلٍ قريب. هذا وقُوبِلَت مساعي إثباتِ وجودِ الكردِ بحوادثِ قمعٍ وإنكارٍ وإبادة، وَصَلَت في القرنَين الأخيرَين مستوىً، يَلُوحُ أنّه ما مِن كيانٍ اجتماعيٍّ شَهِدَ مثيلاً له تحت ظلِّ الحداثةِ الرأسمالية، شكلاً كان أم مضموناً أم عُنفاً تعسفياً. كما ومُورِسَت اباداتٌ ثقافيةٌ وجسدية. وأُقحِمَت شتى أنواعُ العنفِ والوسائلِ الأيديولوجيةِ في الأجندة، بغيةَ الإنكارِ والتشتيتِ جسدياً وثقافياً (ذهنياً) على السواءِ في موطنِهم الأُمّ (كردستان). وبالإمكانِ القولُ أنه لَم تَبقَ آليةُ قمعٍ ونهبٍ وسلبٍ إلا ومارسَتها الحداثةُ الرأسمالية، وصولاً إلى منزلةِ التطهيرِ العرقيِّ والإبادة. من هنا، فالكردايتيةُ ظاهرةٌ لا نظيرَ لها على هذا الصعيد”.
نعم هنا يمكننا التأكيد أن درجة الوعي بالحقيقة الكردية يشكل الأرضية والأساس لمجابهة الاحتلال والاستعباد والانكار، وهذا ما أثبته حزب العمال الكردستاني عبر مسيرته التحررية وانطلاقته الثورية، وهذا الإدراك والوعي جعل من المستحيل لأية ممارسة قمعية للمحتلين النيل من إرادة الانبثاق والانعتاق من الاستعباد والاستغلال التي انتهجتها النظم المهيمنة طيلة عقود من الزمن. فقد عملوا ويعملون المستحيل من أجل الوقوف في وجه هذا الوعي والإرادة المتصاعدة من طمسٍ لثقافة الشعب الكرديِّ وتاريخه وهويته ولغته؛ فقد دخلت جميع السياسات والممارسات اللاأخلاقية أجندته ومخططاته، من تجميع وتمويل للمجاميع الإرهابية المتمثلة بداعش والنصرة وأخواتها والضغط على المجتمع الدولي للحيلولة دون تمثيله الحقيقي في المحافل الدولية، معتمدين بذلك على أبناء هربكوس (الخائن الذي سلم الامبراطورية الميدية لاعدائه ) والدعوة لإدراج المقاومين على لوائح الإرهاب، ورغم كل هذه المخططات والسياسات القذرة انتصرت إرادة الوعي والتضحية في جميع الميادين التي انتهجت وتشربت جذورها بفلسفة اوجلان التي انبعثت مجدداً من جبال جودي، والتي تجلت في ملحمة كوباني، وتحرير الرقة وريف دير الزور، وصمود #عفرين# التي هزت عروش الطغاة المتمثلة بسلطان الإرهاب أردوغان وحكومته، وملالي طهران، والنظام البعثي الذي بدأ بالتناغم معه عبر اتهام كل من بدأ يعي حقيقتهم بالخيانة والعمالة.
وليبدأ أكثر فصول الخسة والدناءة بالظهور عبر ممارسات لم تشهد لها التاريخ والإنسانية مثيلاً، من قتلٍ وسفكٍ ودمارٍ وانكار، وليصل إلى أعلى درجاته قذارة في شمال كردستان عبر قيام الاحتلال التركي بقصف وتدمير مزار الشهداء في كرزان بمنطقة بتليس ونقل جثامينهم وأضرحتهم إلى مكانٍ مجهولٍ رغبةً منهُ بإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، وإنهاء الوعي عبر القضاء على معالمه الرمزية، وليعيد ويكرر ممارساته وسياساته الانكارية، وهو لا يُدْرِكُ حقيقة الحركة التحررية الكردستانية في جعل شعبٍ ينبثقُ من العدم إلى الحياة، ومن ملحمةِ شعبٍ قُيل أنه تم دفنه في قبور إسمنتية، وكُتِبَ على شاهدة قبره “كردستان” التي تتخيلونها مدفونة هنا، غير مُدركين أن أعظم دراجات الحرية والوعي التي يمكن لشعب أن يصل إليها هي أعلى درجات التضحية في سبيلها، فهذا العدو اللاوعي والمنحدر إلى قاع الانحطاط الأخلاقي؛ لا يعلمُ أنَّ الشهادة والشهداء هم ذاكرةٌ وجدانيةٌ وضميرٌ استيقظَ من غفوتهِ الطويلةِ من نير الاستعباد والدكتاتوريات، وليست فقط أضرحةٌ ماديةٌ ومعالمُ رمزية تنتهي بمحوها وإزالتها؛ فالشعب بدأ يُدركُ ذاته ووجوده، ويعي تاريخه وقضيته. من المستحيل أن تنال من عزيمته وإرادته أساليب الحرب النفسية القذرة، وما بات واضحاً وجلياً أن المسيرة التحررية التي بدأت بشخص القائد أوجلان؛ استمرت وما زالت تستمر بفكرٍ يؤمن بها الملايين، ويترسخ بنهج استشهد من أجله الآلاف من الخالدين المتجددين على دروب الوعي والإرادة الحرة، ولم يعد بالإمكان إزالتها من الذاكرة الجمعية لشعب أدرك ذاته، ووعى قضيته وقيمه الأصيلة عبر الثورة والمقاومة والتضحيات. [1]