Joost Hiltermann
في خطاب متلفز في 29 -10-2017، أعلن رئيس إقليم كردستان العراق، #مسعود البرزاني# ، أنه سيتنحى عن منصبه؛ لكن لا يزال من غير الواضح ما إذا كان البرزاني ابن المؤسس الأسطوري للحركة القومية الكردية، مصطفى البرزاني، سيعود للظهور قائداً في حلّة أخرى، لكن الواضح هو أن إعلانه لم يكن جزءاً من خطة محكمة.
بل على العكس، فقد كان الإعلان آخر التبعات غير المقصودة للاستفتاء الذي أجراه في 25 أيلول/سبتمبر على استقلال الأكراد – وهو الطموح الذي طالما سعوا لتحقيقه – والذي جرى رغم الاعتراضات الشديدة ليس من قبل الحكومة الاتحادية في بغداد وتركيا وإيران المجاورتين وحسب، بل أيضاً رغم اعتراضات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. في 16 تشرين الأول/أكتوبر، استعادت القوات العراقية والميليشيات الشيعية العراقية المدعومة من إيران مدينة كركوك وحقول النفط المحيطة بها من الأكراد. وقد جرى ذلك دون إراقة دماء بفضل اتفاق توصل إليه العبادي مع أحد فصائل الاتحاد الوطني الكردستاني، الخصم السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني، والذي كان قد عارض الاستفتاء واغتنم الفرصة لقلب الطاولة على البرزاني. وسرعان ما استعادت هذه القوات معظم ما يشير إليها الدستور العراقي بالمناطق المتنازع عليها، وهي رقعة واسعة من الأرض تمتد من الحدود الإيرانية إلى الحدود السورية وفي وسطها كركوك، التي تدّعي كل من أربيل وبغداد حقها فيها. أما قوات البشمركة التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الوطني الكردستاني فإما انسحبت أو هربت.
قد يكون الأمر الذي شكل الصدمة الأكبر للأكراد هو معارضة واشنطن للاستفتاء وردّها على السيطرة على كركوك. لقد تلقت حكومة إقليم كردستان دعماً عسكرياً كبيراً من الدول الغربية في حربها ضد تنظيم الدولة الإسلامية، ما رفع من توقعاتها بأن هذه الدول ستدعم مسعاها لتحقيق الاستقلال. غير أن إدارة ترامب اكتفت بالوقوف على الحياد بينما تقدمت القوات العراقية والميليشيات المدعومة من إيران.
تساءل الأكراد عن السبب الذي يدفع واشنطن لمعارضة حقهم غير القابل للتصرف بتقرير مصيرهم، الحق الذي مارسه الأمريكيون أنفسهم ذات يوم، بعد أن أثبت الأكراد أنهم أكثر حلفاء واشنطن صموداً في العراق بعد العام 2003، خصوصاً في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية؟ ولماذا دفعتهم أميركا إلى الاعتقاد بأنهم كانوا يسيرون نحو الاستقلال، لتعود وتؤنبهم عندما عبّروا عن أعمق طموحاتهم؟
للأكراد تاريخ طويل في إساءة قراءة النوايا الأميركية. لقد كرر عدد من الرؤساء الأميركيين المتلاحقين معارضتهم لتغيير الحدود القائمة حالياً في الشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه، كانت واشنطن منذ زمن بعيد بحاجة لبقاء الأكراد حلفاء ثابتين في صراعات القوى الأوسع ضد الاتحاد السوفياتي، أو إيران، أو صدام حسين، أو تنظيم الدولة الإسلامية. أدى هذا إلى تنامي نوع من الغموض في الإشارات التي تلقاها الزعماء الأكراد، أو اعتقدوا أنهم تلقوها. الأكثر من ذلك هو أنه بعد العام 2003، عبّرت أصوات قوية في واشنطن، بما فيها جون ماكين وجو بايدن، عن دعمها لحكومة إقليم كردستان في علاقتها مع بغداد وألمحت إلى وجود درجة معينة من المرونة فيما يتعلق باستقلال الأكراد. وهذا ما أراد الأكراد، الذين يشكلون إحدى أكبر الأمم غير الدول، تصديقه.
يسعى الأكراد إلى الاستقلال منذ مئة عام؛ ومنذ مئة عام وهم يشعرون بالغبن. يشعرون كما لو انهم نشأوا ولديهم صبغي معطوب هو صبغي الأمة غير الدولة طُبع عليه الظلم والخذلان بشكل لا يمكن محوه ويتناقلونه جيلاً عن جيل دون أمل بالشفاء. ولذلك فإنهم يزدرون بشدة الاتفاق السري الذي تم التوصل إليه في العام 1916 في أوج الحرب العالمية الأولى بين مارك سايكس وفرانسوا جورج – بيكو، والذي رسم خطوط مناطق النفوذ المستقبلية لبريطانيا وفرنسا، ليس لأنهما وضعا معاهدة فعلية تقسّم العالم ما بعد العثماني، بل لأن في الحدود التي رسماها تكمن النية بتقسيم المغانم من فوق رؤوس رعايا الإمبراطورية السابقة. وترسخ هذا الاتفاق في معاهدة سيفر لعام 1920 التي نصت على إمكانية قيام دولة كردية. لكن خلال ثلاث سنوات، تم التخلي عن نصف الوعد ذاك في معاهدة لوزان.
ماذا لو كانت القوى الاستعمارية قد سمحت للأكراد بتأسيس دولة في مطلع عشرينيات القرن العشرين؟ كانت الإحباطات الكردية الافتراضية التي ستنشأ عن ذلك ستظل مرتفعة، تماماً كما كانت الاحباطات العربية على مدى القرن الماضي بسبب تقسيم العالم العربي. وهذا لأن تصورات فرنسا وبريطانيا لكردستان المستقلة كانت لمساحة أصغر بكثير من المناطق التي يسكنها الأكراد في المنطقة. كانت الأمة الكردية ستتمزق، تماماً كما تمزق العرب، وكانت ستظل تتوق إلى الوحدة جيلاً بعد جيل. حتى لو حقق الأكراد الدولة اليوم، فإن تلك المشاعر كانت ستظل حادة، وكذلك صراعهم للانعتاق من هذه القيود. بدلاً من ذلك، فقد أُجبر الأكراد، المقسمون بين تركيا، وإيران، والعراق، وسورية، على مدى عقود على القتال من أجل حقوقهم كأقلية، في محاولة لمواصلة استثمار هذا الصراع في مسعاهم للحصول على دولة خاصة بهم.
في حين أن الهوية الإثنية المشتركة للأكراد توحّدهم، فإنهم كشعب منقسمون كأي إثنية أخرى من حيث اللهجة، والأيديولوجيا السياسية، والشخصيات والأولويات الاستراتيجية لزعمائهم. علاوة على ذلك، فإن انغماسهم القسري في أربع ثقافات متمايزة شكّل منظورهم للأمور والشكل الذي اتخذته نضالاتهم المنفصلة في كل من هذه البيئات. على سبيل المثال، فإن الكردي العادي في السليمانية، الذي يتحدث اللهجة السورانية من اللغة الكردية، بالكاد يستطيع أن يفهم كردياً آخر من دهوك يتحدث اللهجة الكرمانجية. وهذا داخل العراق وحسب. مثل هذه العوامل تفسر وجود طيف واسع من الأحزاب الكردية التي تسعى إلى تحقيق أهداف مختلفة بدلاً من مضافرة جهودها سعياً لتحقيق حلم الدولة الذي يشتركون فيه جميعاً. الأكراد المسيسون في تركيا يتبعون حزب العمال الكردستاني، الذي يتنافس مؤسسه عبد الله أوجلان مع البرزاني على قيادة الحركة الكردية برمّتها. وقد اصطدم الطرفان بعنف في الماضي ويمكن أن يصطدما في المستقبل أيضاً، حيث وسّع مقاتلو حزب العمال الكردستاني قواعدهم في شمال العراق في السنوات الأخيرة. وقد نجحت إيران، وتركيا، والعراق وسورية في استغلال هذه الانقسامات. الأمل الوحيد للأكراد هو أن تصبح هذه الدول ضعيفة بشكل قاتل – كما أصبحت العراق وسورية، من وجهة نظرهم – بحيث لا تتمكن من وقف تقدمهم نحو تحقيق الدولة، مهما كانت محدودة، في جزء ما من كردستان.
على مدى قرن من الزمن، استثمر الأكراد بشكل متكرر قدراً غير متناسب من الثقة في أن الولايات المتحدة ستعتقهم من أغلال السيطرة المركزية. تعود هذه العلاقة إلى سبعينيات القرن العشرين، عندما طلب مصطفى البرزاني مساعدة واشنطن ضد النظام البعثي في العراق، بعد أن انتهك رجل النظام القوي، صدام حسين، فهم الأكراد لاتفاق على الحكم الذاتي للأكراد وُقّع في العام 1970. مع عودة البرزاني إلى التمرد المسلح، تلقى الأكراد الدعم من المخابرات المركزية الأميركية، التي وجدت منفعة لها في استخدام قوة وكيلة مستعدة لمواجهة الحكومة العراقية المدعومة من الاتحاد السوفياتي حينذاك. لكن ذلك الدعم لم يشمل في يوم من الأيام وعداً بدعم أي شيء يتجاوز الحكم الذاتي للأكراد داخل العراق، حتى عندما عرض البرزاني على واشنطن إمكانية الوصول إلى حقوق نفط كركوك في حال انتصاره.
كان لدى الولايات المتحدة عوامل أخرى تأخذها بالحسبان؛ فعندما توسط شاه إيران في اتفاق مع العراق في العام 1975 حول السيطرة على شط العرب، قطع دعمه العسكري فجأة عن البرزاني. حذت واشنطن حذوه، فانهار التمرد الكردي. هرب المقاتلون الأكراد الذين ظلوا على قيد الحياة إلى المنفى في إيران، وسعى مصطفى البرزاني للحصول على ملاذ آمن في أميركا، حيث توفي بعد ذلك بفترة قصيرة. ظل طبيبه الشخصي خلال منفاه القصير في الولايات المتحدة، نجم الدين كريم، محافظاً لكركوك لمدة ست سنوات إلى أن وضعت العملية العسكرية التي أمر بها العبادي في تشرين الأول/أكتوبر من هذا العام حداً لوجوده في منصبه.
تقلد مسعود البرزاني عباءة أبيه على أمل إكمال ما كان قد بدأه، لكن الظروف كانت صعبة. عانى الحزب الديمقراطي الكردستاني من انقسامات أنهكته. جلال الطالباني، الذي توفي في مطلع تشرين الأول/أكتوبر، أسس حزب الاتحاد الوطني الكردستاني المنافس. وخلال الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينيات، وقف الحزبان مع طهران، في حين دعمت الولايات المتحدة صدام حسين ضد الحماسة الإسلامية للملالي وما اعتقدت أنه مخططات توسعية لديهم. وكانت النتيجة رداً انتقامياً من قبل جيش صدام، الذي تلقى معلومات استخبارية عبر الأقمار الصناعية وأشكال أخرى من الدعم الأميركي، إضافة إلى غض النظر عن استخدامه للأسلحة الكيميائية لإلحاق الهزيمة بإيران والمتمردين الأكراد على حد سواء. وشكل الهجوم بالغاز السام على مدينة حلبجة في العام 1988، الذي قتل فيه الآلاف، تتويجاً لهذا التساهل وعدم الاكتراث حيال جرائم الحرب الفاضحة التي ارتكبها حليفها التكتيكي. كما قمع صدام التمرد الكردي من خلال ما يعرف بالأنفال، التي اعتقلت فيها قواته الأمنية بشكل منهجي وأعدمت عشرات آلاف الأكراد.
شهدت حظوظ الأكراد تحولاً عندما غزا صدام الكويت؛ حيث تولوا زمام مصيرهم بأيديهم وتخلصوا من السيطرة العراقية في سائر أنحاء الإقليم الكردي. لكن حالما طرد التحالف الدولي العراق من الكويت، اكتفت إدارة جورج بوش الأب بالإبقاء على صدام الذي تم إضعافه كقوة عازلة ضد إيران، ما هدد حياة وتطلعات الأكراد. غير أن هروب الأكراد في وجه جيش صدام العائد دفع الولايات المتحدة إلى إنقاذهم، حيث أنشأت ملاذاً آمناً ومنطقة حظر طيران في الشمال. ارتفعت درجة ودّ الأكراد اتجاه الولايات المتحدة إلى أقصاها، إضافة إلى اعتمادهم المطلق على حماية واشنطن لهم.
إلا أنهم لم يفهموا لماذا لم يكمل بوش تلك المهمة بإسقاط صدام. لم يفهموا لماذا أبقت الولايات المتحدة طاغية في منصبه، بينما كانوا قد أظهروا استعدادهم، رغم أنهم لم يظهروا قدرتهم، للتخلص من وحشيته. ألم تكن واشنطن تقف إلى جانب الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ اقترح الأكراد، الذين كانوا قد عانوا من أكثر الانتهاكات فظاعة لحقوق الإنسان على يد النظام، أن يصبحوا حليفاً للغرب في الشمال، حليفاً ديمقراطياً ومنفتحاً في مجال الأعمال. لم يكن هناك أي حديث حينذاك عن الاستقلال، بل عن مجرد حكم ذاتي داخل الحدود القائمة. لكن أبعد ما كانت واشنطن مستعدة للمضي فيه هو حماية الأكراد من ارتكاب المزيد من الفظاعات بحقهم. اكتفت بذلك احتراماً لتركيا، حليفها في حلف شمال الأطلسي، واحتراماً لدعمها المعلن لقدسية الحدود القائمة في المنطقة.
في حين تمتع الأكراد بالاستقلال بحكم الأمر الواقع في العقد الذي تلا، فإنهم صارعوا أيضاً تحت الحصار الاقتصادي لتركيا، وإيران، وسورية وما تبقى من قوة لدى النظام العراقي الذي كان يئن تحت وطأة العقوبات الدولية. انتخابات العام 1992 أفضت إلى اتفاق لتقاسم السلطة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني سرعان ما تداعت. لم تكن رؤاهما السياسية تختلف كثيراً، لكنهما اصطدما حول شخصيات زعمائهما (الصدام الذي نشأ عن الانقسام بين البرزاني وطالباني بعد العام 1975) والوصول إلى عائدات الرسوم الجمركية على المعابر الحدودية مع تركيا. أدى هذا إلى صراع متقطع في الفترة 1994-1998، التي دعا البرزاني خلالها، في آب/أغسطس 1996، قوات صدام لدخول كردستان وملاحقة مقاتلي طالباني.
بالنسبة لواشنطن، فإن مثل تلك الخلافات الكردية شكلت إزعاجاً ثانوياً، إلا أن غزو صدام القصير الأمد لكردستان أجبرها على إخراج المواطنين الأميركيين الذين كانوا يساعدون في إعادة تأهيل الإقليم، وكذلك شركاءهم الأكراد. تذمر القادة الأكراد الذين تحدثت إليهم حينذاك من القرار، لأن واشنطن بفعلها ذلك أزالت شريحة من الاحترافيين الشباب الواعدين الذين كان هناك حاجة لطاقاتهم من أجل بناء دولة مستقبلية. في المحصلة، وضعت الوساطة الأميركية حداً للحرب الأهلية الكردية. وانطلق الحزبان لحكم مناطق منفصلة يسيطران عليها، وأسسا حكومتين متوازيتين واستمرا بالنظر إلى بعضهما البعض بتخوف وقلق رغم أن شبح عودة دولة صدام القمعية ظل يحوم فوقهما.
غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003 أحدث تغييراً حاسماً. كان الأكراد أوثق حلفاء واشنطن، والقادة العسكريون الأميركيون (أكثر من القادة السياسيين) مخلصون لشركائهم المحليين ويعملون على حمايتهم. أدى هذا إلى تعزيز حظوظ الأكراد – وآمالهم. إذا كانت واشنطن مستعدة لدعمهم في نهضتهم، فإنهم كانوا مستعدين للتغاضي عن تواطؤ الولايات المتحدة في أحداث حلبجة والأنفال. لكن لم يكن الجميع على هذه الدرجة من الغفران والمسامحة. نوشيروان مصطفى أمين، الذي شغل لمدة طويلة منصب نائب طالباني، وهو مفكر يتمتع بفهم تاريخي عميق ونظرة استراتيجية، أخبرني قبل سنوات إنه كان يحذر بشكل متكرر من وضع كل البيض الكردي في سلة واشنطن تحديداً بسبب الطريقة التي عاملت بها الأكراد في الماضي.
إلا أن إدارة جورج دبليو بوش اقتربت من الأكراد أكثر من أي من الإدارات السابقة. في البيئة العراقية التي باتت معادية على نحو متزايد، وجد بوش أنهم ودودين، وصريحين، ويمكن الركون إليهم، وأن يكونوا مفيدين كثقل موازٍ للزعماء الشيعة الذين لا تتوقف مشاحناتهم وتنقسم ولاءاتهم بين واشنطن وطهران. كانت الولايات المتحدة تثمّن الهدوء الذي يتمتع به إقليم كردستان، وكذلك إمكانياته الاقتصادية الكامنة. لكنها أوضحت عزمها إعادة بناء الدولة العراقية، بما في ذلك الجيش العراقي، والمحافظة على حدودها الخارجية. كل ما وعدوا به الأكراد كان توفير الأعمال والحماية.
إلا أن النظام الجديد قدم للأكراد الأمل بتحقيق أكثر من ذلك بكثير؛ حيث سمح لهم بلعب دور الوسيط في بغداد، بوجود طالباني رئيساً للعراق، بينما وسعوا حكمهم الذاتي في ما أصبح إقليماً اتحادياً برئاسة البرزاني. علاوة على ذلك، فإن الدستور العراقي الذي ساعدوا في وضعه نص بشكل مغرٍ على احتمال ضم مناطق إلى إقليم كردستان كان نظام صدام قد حاول فيها استبدال الأكراد بالعرب – أي المناطق المتنازع عليها – لتعزيز سيطرتهم على الطبقات الغنية بالنفط تحت هذه المناطق.
بتشجيع من إدارة بوش، وضعوا صراعاتهم الداخلية جانباً لتشكيل جبهة مشتركة فعالة ضد القوى الجديدة في بغداد، التي لم يثقوا بها تماماً. وتوصلوا إلى اتفاق استراتيجي ساعدهم على تقاسم العائدات النفطية المستخرجة من إقليم كردستان. إذا كان الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني قد عززا رخاء الإقليم، فإنهما فعلا ذلك عبر إيجاد مناخ استثماري ملائم للشركات الخارجية، وبناء شبكة رعاية ومحسوبية واسعة تكافئ الأشخاص على ولائهم أكثر مما تكافئهم على مهاراتهم. لقد شكلا فعلياً احتكاراً ثنائياً قائماً على المصالح الاقتصادية المشتركة التي كانت إحدى سماتها الرئيسية إتخام القطاع العام بالموالين للحزبين.
أصبحت صفقات النفط تدر قدراً أكبر من الأرباح في العام 2007 حالما قررت تركيا العمل مع بغداد، وبشكل منفصل مع حكومة إقليم كردستان، بدلاً من العمل ضدهما. اقترحت القيادة التركية إدماج إقليم كردستان بشكل كامل في الاقتصاد التركي، وطورت علاقات قوية مع الزعماء الأكراد. وفرت واشنطن الرعاية لهذا التحرك واستفادت منه، حيث إن الشركات الأميركية، إلى جانب الشركات التركية والأوروبية، تحركت للاستفادة من الثروة النفطية والاستثمارات المرتبطة بها في البنية التحتية وقطاع البناء. عقود استخراج النفط كانت مربحة على نحو خاص، حيث لم توفر الإيرادات وحسب بل وفرت أيضاً حصة في النفط – رغم اعتراضات بغداد القوية. استغلت الأحزاب الكردية الفرصة الجديدة إلى حدها الأقصى، مستغلة الاكتشافات النفطية المحدودة من قبل شركات صغيرة لإغراء شركات متوسطة الحجم وفي النهاية شركات عملاقة مثل إكسون. في أيلول/سبتمبر، وقعت حكومة إقليم كردستان عقداً مع الشركة الروسية العملاقة روزنفت بقيمة مليار دولار للاستثمار في أنابيب نقل الغاز.
إلا أن القيمة الحقيقية لتلك الصفقة قد لا تُعرف، لأن حكومة إقليم كردستان اكتسبت سمعة سيئة في عدم الشفافية في صفقاتها النفطية، ومن هنا انتشار الفساد على المستويات العليا والذي بدد آمال الناس في أن هذه الأحزاب تستطيع فعلياً الحكم وتوزيع الثروة. وهذا يفسر السبب الذي يدفع العديد من الأكراد الشباب، الذين تعلموا في الخارج لكن عادوا بعد عام 2003 لإعادة بناء كردستان، إلى الهروب من جديد بعد أن أرعبتهم مستويات الفساد والمحسوبية. كما يفسر أيضاً سبب وجود مكوّن كردي في الربيع العربي الذي انطلق في العام 2011. تحرك الشباب إلى الساحات العامة في البلدات الكردية تماماً كما فعل نظراؤهم العرب في تونس، والقاهرة، ومدن أخرى. قمعت السلطات احتجاجاتهم، لكن الاستياء من ارتفاع مستويات الفساد، وتقييد الحقوق السياسية، وسوء الإدارة، لم يتوقف عن الازدياد.
ما أنقذ القيادة الكردية من انتشار الاضطرابات على نطاق أوسع كان وصول تنظيم الدولة الإسلامية على أعتابها في العام 2014. ليس هناك ما هو أفضل لجعل الناس يضعون مخاوفهم حيال الحكم المتعسف جانباً من حشدهم ضد عدو مشترك خطر. لقد كانت المعركة المريرة مكلفة؛ كما لم يساعد تزامن ذلك مع انخفاض في أسعار النفط العالمية. انقطعت الرواتب عن موظفي الخدمة المدنية، أو لم يستلموا رواتبهم كاملة لأشهر متتالية أحياناً. وكان هناك نحو مليوني عراقي مهجر بحاجة للمساعدة وجدوا مأوى لهم في الإقليم. في حين كان هذا صعباً، فإن حكومة إقليم كردستان التي يهيمن عليها الحزب الديمقراطي الكردستاني كانت تتلقى دعماً عسكرياً غير مشروط تقريباً، وكانت تكتسب المزيد من التعاطف لوقوفها في وجه الممارسات الوحشية لتنظيم الدولة الإسلامية. بالمقابل، فإن الدعم الغربي مكّن البرزاني من تمديد فترته الرئاسية مرتين دون انتخابات.
إلا أن القيادة الكردية أدركت أن اقتراب هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية قد لا يغير الوضع كثيراً في إقليم كردستان. فهم البرزاني أن الاندفاع نحو تحقيق الدولة الكردية إما أن يحدث الآن أو لا يحدث أبداً. مع انتهاء الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، فقد آن أوان تحصيل الفاتورة من منظور حكومة إقليم كردستان؛ إذ إن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين قد يكونوا دعموا الأكراد لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، لكن بالنسبة للأكراد فإن المسألة كانت دوماً تتعلق باغتنام الفرصة للدفع بقضيتهم القومية. ورأوا علامات من واشنطن تشير إلى أن الوقت قد حان ربما، وأنها قد ترمي بثقلها خلف مسعاهم.
The United States and its Western allies may have supported the Kurds to fight ISIS, but for the Kurds it was always about using the opportunity to advance their national cause.
ما مصدر هذا التفسير؟ لقد كان أنصار تقرير المصير بالنسبة للأكراد يعبّرون بقوة عن دعمهم، ويمارسون نفوذاً مفرطاً على تفكير الزعماء الأكراد. كما أنهم صاغوا الرأي العام في إقليم كردستان والغرب على حد سواء؛ وتعزز ذلك بجهود كردية في مجال العلاقات العامة في واشنطن. وينقسم هؤلاء المناصرون إلى أربعة نماذج رئيسية، يمكن أن تتقاطع أحياناً.
يتكون النموذج الأول من الساعين إلى الربح. في يوم ما قد يكونون دبلوماسيين في العراق منخرطين في محادثات حساسة، وفي اليوم التالي يظهرون في إقليم كردستان بوصفهم ممثلين للشركات النفطية أو استشاريين يتمتعون باتصالات رفيعة المستوى مع الحكومات والشركات الصناعية، وعازمين على التربح من المشورة التي يقدمونها والعرفان بالجميل الذي يتلقونه. المجموعة الثانية تتكون من رومانسيين تجتذبهم محنة الأكراد ومقتنعين بأن الطريقة الوحيدة لحمايتهم من الأذى المستقبلي يكون من خلال إقامة دولة لهم. يمكن لهؤلاء أن يشكلوا مجموعة ضغط فعالة لأنهم يتحدثون بصوت عال؛ ويعد المحرض الفرنسي برنار-هنري ليفي مثالاً نموذجياً عليهم.
المجموعة الثالثة تتكون من أولئك الذين يرون في المسعى الكردي تلاقياً مع مصالح إسرائيل. تعود صلات إسرائيل بالبرزاني إلى ستينيات القرن العشرين، عندما بدأت عناصر إسرائيلية بدعم التمرد الكردي في محاولة لتقسيم وإضعاف عالم عربي معادٍ من خلال دعم دول وأقليات غير عربية. وبالمقابل لم تتراجع مودّة الحزب الديمقراطي الكردستاني لإسرائيل، رغم أن للأكراد خصائص مشتركة أكثر مع الفلسطينيين الذين لا دولة لهم. في السبعينيات، قدمت إسرائيل للأكراد دعماً عسكرياً لدق إسفين في الوحدة العربية. وبدعمه للاستفتاء على الاستقلال في شهر أيلول/سبتمبر الماضي، قد يكون بنيامين نتنياهو وجد فائدة في الأكراد بوصفهم قوة دفاعية متقدمة ضد إيران.
أعضاء المجموعة الرابعة يدعمون الأكراد العراقيين مدفوعين بعداء لإيران مبعثه تجاربهم في العراق قبل عقد من الزمن، عندما واجهوا، كجنود أمريكيين، هجمات من قبل عملاء إيران، أو بمعارضة أقدم بكثير للثورة الإيرانية بشكل عام، وما حدث في أعقابها. بتشجيع من التصريحات العلنية لجميع هذه المجموعات، قد يكون البرزاني اعتقد بأن اللحظة الراهنة هي الفرصة الذهبية لركوب موجة تصور أميركا القائل بانتقال التهديد من تنظيم الدولة الإسلامية إلى إيران. أراد أن يُظهر أنه حليف موثوق في المواجهة الإقليمية الجديدة إلى جانب الولايات المتحدة، وإسرائيل، والسعودية، وتركيا، وبذلك يعزز موقعه في إقليم كردستان ويتخذ خطوة أخرى إلى الأمام في التوجه نحو الاستقلال.
لقد كان هذا دائماً رهاناً ينطوي على مخاطرة. إذا كان البرزاني قد اعتقد بأن إدارة ترامب مستعدة لدعم الأكراد بحكم مزيج من التعاطف، والعرفان بالجميل، والحاجة الاستراتيجية، فإنه كان مخطئاً بالتأكيد. لقد استخدمت الولايات المتحدة حكومة إقليم كردستان (وفي شمال سورية، الأكراد المرتبطين بحزب العمال الكردستاني) فعلياً كمتعهدين أمنيين، ولا تزال تصر على عراق موحد اسمياً بوصفه عائقاً أساسياً أمام الهيمنة الإيرانية وليس على إقليم كردي ضعيف اقتصادياً ومنقسم داخلياً. وتستند علاقاتهم المتبادلة على سوء فهم طوعي؛ حيث إن واشنطن تمتنع عمداً عن التعبير صراحة عن “الشروط التعاقدية” للانخراط الأميركي مع الأكراد؛ وبالمقابل، يعتقد الأكراد أن هذه الشروط ستؤدي في النهاية إلى دعم الولايات المتحدة لإقامة دولتهم. لقد أظهرت الأحداث الأخيرة، مرة أخرى، أنهم مخطئون.
الآن عادت حكومة إقليم كردستان إلى الخطوط التي رسمت في العام 1991، عندما انسحبت قوات صدام من الإقليم الكردي في أعقاب حرب الكويت والانتفاضة الكردية في الشمال. إنها هزيمة توازي انهيار قوات مصطفى البرزاني في العام 1975. في كلتا الحالتين، حمّل البرزانيون المسؤولية للولايات المتحدة، وفي كلتا الحالتين لعبت إيران دوراً رئيسياً. الواقع الحزين هو أن أكراد العراق لا يزالون دون منفذ بحري، ولا يزال وضعهم يتحدد بمصالح جيرانهم الأكثر قوة منهم. داخلياً، هم الآن منقسمون أكثر من أي وقت مضى على مدى العقدين الماضيين. الحزب الديمقراطي الكردستاني يتهم الاتحاد الوطني الكردستاني ب “الخيانة” لتسهيله دخول القوات الاتحادية إلى كركوك، لكن بوسع الاتحاد الوطني الكردستاني الرد بتذكير البرزاني بقراره دعوة قوات صدام إلى الإقليم الكردي في العام 1996. وهكذا تكتمل دائرة أخرى.
أما ما إذا كانت سلالة البرزاني، أو الاحتكار الثنائي الذي يفرضه الحزب الديمقراطي الكردستاني – الاتحاد الوطني الكردستاني، سيتجاوز هذه العقبة الكارثية أمام الاندفاعة الكردية نحو تأسيس الدولة فهو ما سننتظر لنراه. لأي شاب كردي طموحان: أن يختفي الحزبان، وأن يتم استبدالهما بحكومة أكثر اتحاداً وكفاءة وديمقراطية وأقل فساداً، وأن يمنح العداء المتعمق بين الولايات المتحدة، وإيران، وتركيا الأكراد مجالاً للتنفس وفرصة للشروع في البناء مرة أخرى. أمر واحد مؤكد وهو أن أملهم بالاستقلال لن يموت.[1]