لطالما تناول الإعلام اليزيدية بالكثير من السطحية والانحياز السياسي، ما نتج عنه الكثير من الخلط ونقل القيل والقال دون أدلّة ولا تسبيب. وهذا طبيعي في غياب وجود مرجعية دينية لهذه الطائفة الصغيرة المتناثرة في سوريا والعراق وأرمينيا والتي لا يزيد تعدادها عن المليون نسمة، مع جهل واسع داخل أعضاء الطائفة نفسها بتاريخ وتراث الطائفة منذ تعرّضت للقمع والتهميش خلال القرن 19… في هذه التدوينة أحاول تبيان بعض تفاصيل حكاية اليزيدية، وقد أخطئ وقد أصيب، لكن نظرتي عامّة نوعاً ما، مع ابتعاد كاف عن الخريطة بما يسمح برؤية أغلب التفاصيل.
اليزيدية، الإيزيدية، الإزداهية، الداسنية، العدوية، الصحبتية، الهكارية، اليزدانية، كلّها تسميات لذات الملّة، تختلط فيها مفاهيم القبيلة والديانة، بحيث يراها البعض أحياناً تمثّل شعباً مميّزاً وقوميّة مستقلّة ويراها البعض الآخر ديانة تجمع مجموعة مختلفة من الشعوب.
خلفيّة تاريخيّة
قبل 3500 سنة نشأت في المنطقة ما بين شمال سوريا المعاصرة وتركيا مملكة نعرفها اليوم باسم مملكة ميتّاني، واسمها هذا تحوير عن اسمها باللّغة الحثّية {مي-إت-تا-ني}، أمّا اسمها المحلّي فكان حَنِرَبّات 𒄩𒉌𒃲𒁁 وتحدّث أهل هذا البلد اللّغة الحورية (حُرّيه 𒄷𒌨𒊑 أي البدويّة) وهي لغة من بنات الموريّة القديمة لكنّها تميّزت بأنّها لغة الرعاة البدو دوناً عن أهل المدن. عاشت مملكة حَنِرَبّات الميتّانية نحو ثلاث قرون وامتدّت أراضيها من أشور شرقاً حتى كامل كيليكيا غرباً، ومن منابع الفرات شمالاً حتى أوگاريت جنوباً. وكانت هذه المملكة على علاقة طيّبة بالمملكة المصرية آنذاك، حتّى تناسبت أسرتي العروش بالزواج، إذ كانت حدود المملكة المصرية تنتهي في ذلك الوقت على مشارف أوگاريت في وادي العاصي.
المهمّ من الموضوع هو ديانة هذه المملكة الميتّانية حَنِرَبّات، التي استمرّت فيها شعوب المنطقة تعبد الشمس ”مَي“ على الديانة السومرية القديمة، لكن بمذاهب وفلسفات جديدة، والمثير في الموضوع هنا هو اعتقاد علماء الأديان بانطلاق الديانة الهندوسية الحالية من هذا البلد ومن عاصمة هذا البلد {وشّوكَنّي} ما ترك في الهندوسية حتى اليوم عبادة الربّ ”سوريا“ सूर्य الربّ الشمس، وكذلك الربّ ”ميترا“ मित्रः حامي الحقيقة ونظام الحياة.
يُعتقد أنّ العاصمة وشّوكنّي كانت على تل فخريّة بالقرب من موقع تل حلف في الحسكة شمال سوريا، ويُعتقد كذلك أنّ اسم المدينة يعود إلى مصدر سنسكريتي هو ”ڤاسوخاني वसुखानी بمعنى ”عرش ڤاسو“ وڤاسو (ڤاشو) كان ربّ الذهب وواهب الثروة في الفلسفات السنسكريتية، وبقي من تراثه بيننا الكلمة كلمة ڤازه طالما كان ڤاسو يمنح الثروة في جرة ملئية بالذهب.
زالت المملكة الميتّانية حَنِرَبّات خلال القرن الثالث عشر قبل الميلاد (أي قبل نحو 3200 سنة)، لكنّ ديانتها استمرّت في أشكال مختلفة عبر شعوب الهضبة الإيرانية والشعوب الساكنة في شمال سوريا والنهرين، واندمجت عبادة ربّ حَنِرَبّات ”مَي“ في بعض الأديان المحليّة المختلفة كأحد فصولها وفلسفاتها، وتحوّرت معاني وأسماء ”مَي“ لأسماء مختلفة. كما نجد مثلاً تبجيل الإله ”ميثرا“ 𐬨𐬌𐬚𐬭𐬀 في الديانة الزرادشتية الأخمينية في بابل وفي عموم غرب آسيا. وهي الديانة نفسها التي استمرّت بأشكال مختلفة في الأناضول والجزيرة وعلى الجانب الغربي من الفرات وحول المتوسط، فما هي؟
ديانة حماة الميتّانية
أحد أشكال تلك الديانة الميتّانية رعتها مدينة حماة السورية قبل 2100 سنة تحت عرش أسرة عربيّة. في تلك الفترة الهيلينية وقُبيل انضمام حماة للإمبراطورية الرومانية، صار اسمها الديانة الميثرانية.
فخلال القرن الثاني قبل الميلاد وبعد وفاة الملك السلوقي ”انطيوخوس الرابع الظاهر“ استقلّت حماة بوادي العاصي والساحل السوري عن السلوقيّين وحكمتها أسرة عربيّة فصارت مملكة عربيّة تحت اسم مملكة حَماتا (أيّ المحمية)، وكان اسم مدينة حماة آنذاك ”إپيفينيا“ Ἐπιφάνεια أي الظاهرة أو الظاهرية على اسم الملك انطيوخوس الظاهر (إپيفانيس) Ἀντίοχος Ἐπιφανὴς، وكان هذا الملك قد أولى حماة عناية خاصّة ودلّلها بعد العودة من إقامة 14 سنة في روما، ثمّ منح فيها الكثير من الامتيازات للرومان، فآثرت حماة بعد وفاة الظاهر الانفصال عن المملكة السلوقيّة خشية خسارة هذه الامتيازات الرومانية فيها، التي مكّنتها من الإثراء والرخاء.
علاقة الحموية العرب الخاصّة بروما تركت الكثير من الآثار الدينية والتأثيرات الثقافية ما بين الشعبين، إذ انتشرت الديانة الحمويّة الميثرانيّة آنذاك في عموم مناطق الإمبراطوريّة الرومانيّة، وحيثما حكمت أو تنفّذت أسرة أرستقراطيّة عسكريّة حمويّة… وكانت حماة آنذاك على ديانتين، إحداها هي ديانة ”سوريا“ الشمس المؤنّثة بالإضافة إلى نسختها الخاصة من الديانة الميثرانيّة، حيث عبدت الناس ميثرا ذاته الذي تركه الميتّانيّين. الشمس بصفة المذكّر، لكن باسم مختلف هو ”ميچه“ و“ميشا“ و“ميتا“ و“ميترا“.
أحد أوجه نقش ميثراني. تمّ العثور عليها في فيانو رومانو Fiano Romano بالقرب من مدينة روما في إيطالية. وموجود اليوم في متحف اللوڤر في پاريس، ومعروض خطأ في قسم الآثار الإغريقية والإترورية والرومانية، جناح دينون، الطابق الأرضي (Ma 3441)
أحد أوجه نقش ميثراني. تمّ العثور عليها في فيانو رومانو Fiano Romano بالقرب من مدينة روما في إيطالية. وموجود اليوم في متحف اللوڤر في پاريس، ومعروض خطأ في قسم الآثار الإغريقية والإترورية والرومانية، جناح دينون، الطابق الأرضي (Ma 3441)
أمّا في الشمال فقد تطوّر عن الديانة الميتّانيّة القديمة أشكال مختلفة تبعاً لموقع أتباع الديانة ضمن التقسيمات السياسية في ذلك الزمن، وما تسبّبت به الدول المسيطرة على المنطقة من عزلة لبعض الشعوب على أطراف الحدود. بالإضافة إلى أنّ ربط بعض هذه الدول للمواطنة بالديانة واللّغة مسح بقايا الديانة الميتّانية عن المراكز الحضرية وتركها حيّة فقط حيث المناطق النائية، التي لا تهتمّ الحكومة لنشر التعليم النظامي فيها. ومع تباعد المناطق النائية وعزلتها تحوّلت المذاهب الميتّانية إلى أديان جديدة وبمسمّيات جديدة.
نشأة الطائفة اليزيديّة
تعرّض أتباع الديانة الميتّانية لاضطهاد شديد خلال حياة المملكة الساسانيّة، وكان من سنن الساسان فرض تغيير الديانة واللّغة ونمط الحياة على مواطني الدولة بما يتوافق مع وجهة نظر رأس المملكة، تماماً بما يشبه منطق الدولة القوميّة المعاصرة المؤسّسة على أسس فرنسا البوناپرتية… في الفترة الساسانيّة أطلقت الحكومة تسمية ”إيزيدي“ أو ”إيزيديان“ على من تبع الديانة الميتّانية، وهي كلمة پهلوية معناها {عبد الخالق} (الخالقيّ). وتنحدر كلمة إيزيدي من الكلمة الپهلوية ”يزد“ بمعنى البداية أو الخلق، وهي كلمة منحولة عن كلمة پهلويّة قديمة هي ”يزته“ بذات المعنى. وهذه الكلمة هي سبب ورود اسم الملّة كذلك بصيغة ”يزدانيّة“ في المراجع الفارسية والساسانيّة.
قُبيل العصر الإسلامي وخلال العهد الساساني؛ نشأت في منطقة جبل داسن شمال الموصل ملّة إيزيدية متفرّعة عن الميتّانية هي الداسنية، وانتسبت إلى اسم الجبل، فكانت بغالبيّتها من الأكراد والأشوريّين والطيايا دون أن تنتمي إلى قبيلة واحدة. ومع وصول سلطة الدولة الإسلاميّة إلى المنطقة نصّب عليهم العبّاسيّون أمراء منهم دون أن يتحوّلوا إلى الإسلام، وكان آخر أمراء الداسنيّة هو ”جعفر بن حسن الداسني“. وكان انتحر جعفر سنة 841 بعد هزيمة لحقت به إثر محاولته الاستقلال عن الدولة العبّاسيّة. ثمّ صارت الإمارة على مناطق الداسنيّة للأمراء التركمان القز حتّى العصر العثماني.
خلال حياة الدولة السلجوقيّة عاشت أسرة كرديّة يزيديّة من هكّاري في بعلبك اللّبنانية وكانت تعتبر نفسها على الإسلام الأمويّ. وُلد منها رجل اسمه مسافر بن إسماعيل. وقد يكون ”مسافر“ لقب للرجل بسبب سفره وترحاله وليس اسمه الحقيقي. المهمّ أنّ مسافر أحبّ أن يتعرّف إلى بلاد أجداده التي لم يعرفها أهله، وسافر من بعلبك ليستقرّ في هكّاري، ثمّ عاد بعدها إلى بعلبك حيث أنجبت له زوجته ولداً سمّاه {عدي}. تأثّر عديّ بن مسافر بنمط حياة أبيه فسار هو الآخر على الترحال والسفر وعاش فترة في بغداد ثمّ البصرة ثمّ الموصل، وجال كثيراً في جبال كردستان وتعلّم الكثير من الفلسفات القديمة من أتباعها الزرادشت واليزيدية والنساطرة المسيحيّين.
بسبب كثرة ترحاله جمع عديّ بن مسافر الكثير من الحكمة التي جمعت الناس من حوله متأثّرين بفصاحته وبسعة كلامه. ما نتج عنه قيام الطائفة العدويّة، التي رأت في عديّ وفكره تجديداً للديانة اليزيديّة وفلسفتها. ومن جهتي أراه قد حدّث منطق الديانة اليزيديّة وعرّبها، فجعلها بموازاة ثقافة القرن 12 العربيّة، من بعد قرن من التبعثر والإهمال التي طالت هذه الديانة بفعل غضب العبّاسيّين عليها.
توفّى {عديّ بن مسافر} سنة 1162 في لالش في نينوى العراقيّة، فخلفه على رئاسة الطائفة أخوه الشيخ صخر أبو البركات الأمويّ، وهو الرجل الذي أسّس مؤسّسة الطائفة العدويّة وشكّل تقاليدها وشعائرها بناء على الموروث عن الديانة الميتّانية القديمة والداسنيّة وأفكار أخيه عديّ.
الميراث
خلال حياة الدولة الأيّوبيّة منح سلطان حلب الأيّوبي إمارة كلّس لضابط كردي هكّاري اسمه {مند} الذي صار فيما بعد {مند شاه} حين أسّس إمارة كلّس واعزاز، وهي المنطقة التي نعرفها اليوم باسم عفرين. اعتمد مند شاه على الداسنيّة في قوّاته وتجمّع منهم الكثير في مناطق إمارته الصغيرة ما بين حلب وأنطاكية وعينتاب وشاعت بينهم جميعاً اللّغة الكرديّة، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الثقافية.
بقيت إمارة كلّس لسلالة مند طيلة العهد الأيّوبي والمملوكي ما بين القرنين 12-16 إلى أن دخلت سوريا عهد المماليك البرجية ”الجراكسة“ الذين رغبوا بإزالة سلطة الأكراد عن المنطقة فدبّ الخلاف ما بين الأسرة المنديّة والمماليك، ودام حتّى نوى السلطان سليم الأول العثماني أخذ حلب والشام من المماليك، فتحالف أمير كلّس المندي مع العثمانيّين وصار من قوّاته.
خلال القرن 16، وبعد سيطرة السلطنة العثمانيّة على المنطقة، منح السلطان سليمان الأول (القانوني) ولاية أربيل، التي ضمّت دهوك وسبران وداسن وما حولها، لأمير داسني هو {حسن الداسني} واستعان سليمان القانوني كذلك بقوّات الداسنيّة للسيطرة على وادي النصارى فنشأت قرية {الداسنيّة} قرب حمص في سوريا المعاصرة. كما ولّى العثمانيّون {ميرزا الداسني} ولاية الموصل سنة 1650 بعد مساهماته الكبيرة في فتح بغداد أمام السلطنة العثمانية… كلّ هذا ولم يكن الداسنية قد تحوّلوا إلى الإسلام.
بالخلاصة، الديانة اليزيدية بطوائفها اليوم هي الرابط الوحيد الباقي ما بين ديانات الهند والشرق الأوسط، بالرغْم من التطوّرات والتغييرات الكثيرة التي أصابت أتباعها وثقافاتهم. واليزيدية عِرقاً هم من بقايا السريان الغير متحوّلين إلى المسيحيّة خلال العهد البيزنطي، واضطرّتهم ظروفهم السياسيّة للهجرة والنزوح مرّات عديدة عن مواطنهم، مذ فقدوا مرجعيتهم الدينية خلال العهد الساساني وحتى مرحلة عديّ بن مسافر. لم يهاجر اليزيديّة من خارج الشرق الأوسط، وليسوا وافدين، بل هم محلّيّين أكثر من أغلب سكّان المنطقة.
يمكن التوسّع في مواضيع التدوينة في الكتب التالية:
شرفنامة سنة 1596م لشرف خان البدليسي.
اليزيدية لسعيد الديوه جي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
معجم البلدان، ياقوت الحموي.
مصطفى نعيمة، تاريخ نعيمة.
إمارة بهدينان، للدملوجي.
لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث، الدكتور علي الوردي.
Encyclopædia Iranica. Allison, Christine.
God and Sheikh Adi are Perfect: Sacred Poems and Religious Narratives from the Yezidi Tradition. Kreyenbroek, Philip G; Jindy Rashow, Khalil.
Enquête sur les Yézidis de Syrie et du Djebel Sindjâr. Lescot, Roger.
The Nation of the Sur: The Yezidi Identity Between Modern and Ancient Myth. Artur Rodziewicz
The Yezidis (2 ed.). Spät, Eszter.
The Truth about the Yezidis. YezidiTruth.org. 2007.
Iranian Elements in Arabic: The State of Research. Iran & the Caucasus. Mushegh Asatrian.
The Ethnically Diverse City. Eckardt, Frank; Eade, John.
“Mithra and Mithraism”. Religions of Iran: From Prehistory to the Present. Foltz, Richard.[1]