فرص وتحديات تعميم اتفاقية منبج في شرق الفرات
لزكين إبراهيم – القامشلي
تعد عودة تركيا إلى مفاوضات السلام مع الكرد، سواء داخل حدودها أو مع قوات سوريا الديمقراطية في سوريا، خطوة متوقعة ومدفوعة بظروف معقدة تشهدها المنطقة، بما في ذلك تصاعد الصراع بين إسرائيل وإيران. ومع حاجة الولايات المتحدة إلى استقرار شمال شرق سوريا لتحجيم النفوذ الإيراني، يزداد الضغط الأميركي على تركيا للقبول بتفاهمات مماثلة لاتفاقية منبج التي سبق أن أسهمت في تهدئة التوترات في منطقة محدودة.
ويبدو أن تركيا بدأت تشعر بأن الوضع قد يحمل سيناريوهات ذات تداعيات خطيرة على أمنها القومي، ربما يكون من بينها الخشية من خرائط أو توازنات جديدة في المنطقة، ما جعلها تشير لتوجهها لقبول حوار مع الكرد.
ويدفع استمرار الهجمات التركية لمناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، واعتبار أنقرة كل ما يرتبط بالكرد خطراً على أمنها القومي، للتساؤل حول المسارات المحتملة لهكذا حوار بين خصمين لطالما اعتبر كل منهما الآخر عدواً له.
وكانت مفاوضات سابقة بين الجانبين قد سارت لتفاهمات مرحلية في مساحات جغرافية محدودة خلال سنوات الحرب في سوريا، لكن لم يتمّ استكمالها بأي اتفاق سلام مستدام.
وقد يكون التفاهم حول منبج بوساطة أميركية في العامين 2016 و2018 أبرز صيغة ممكنة للتفاهم بين الجانبين، لتطمئن تركيا حيال مخاوفها الأمنية وتحصل قوات سوريا الديمقراطية على الاستقرار في مناطق سيطرتها.
فهل يمكن توسيع نطاق هذا النموذج ليشمل مناطق أخرى في شمال شرق سوريا، بحيث يتم الاتفاق على تنظيم تواجد القوات العسكرية وتحديد مناطق النفوذ والتأثير وترتيبات أخرى أمنية واقتصادية مشتركة بين تركيا وقسد بوساطة أميركية؟
اتفاق إنجرليك
شهدت منطقة شمال سوريا منذ بداية الحرب الأهلية السورية صراعاً معقداً ومتشابكاً نتيجة تداخل المصالح الإقليمية والدولية في هذا الجزء من البلاد.
وكانت مدينة منبج إحدى النقاط المحورية التي دار حولها صراع طويل بين مختلف القوى، بما في ذلك تركيا وقوات سوريا الديمقراطية، لكن عدة عوامل أبرزها سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أبرزت حاجة ماسة للاتفاق الذي تم على مرحلتين.
ويعود التفاهم الأول حول إدارة منبج إلى ما قبل طرد قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من التحالف الدولي مسلحي تنظيم “داعش” من المنطقة، وكان مجلس منبج العسكري (ضمن قسد) يستعد للدخول إلى المدينة.
وجرى التواصل بين الجانبين الأميركي الداعم لتحرير المدينة والتركي المعارض لتحريرها على يد قسد، وبعد سلسلة زيارات واجتماعات عدة عقد الاجتماع بتنسيق من التحالف الدولي والجيش التركي في قاعدة إنجرليك التركية.
وضم الاجتماع ما يقارب 65 من ضباط التحالف الدولي وعلى رأسهم مبعوث الرئاسة الأميركية في التحالف الدولي ضد داعش، بريت ماكورك، وما يقارب 30 ضابطاً من الجيش التركي، بالإضافة إلى وفد من مجلس منبج العسكري ضم فيصل أبو ليلى، وعدنان أبو أمجد، وأبو جاسم البكاري، وإبراهيم البناوي.
وأفضى الاجتماع للتوقيع على “اتفاقية إنجرليك” التي تضمنت جملة من البنود المتّفق عليها، وهي” الاعتماد في تحرير منبج وريفها على مجلس منبج العسكري بالتعاون مع قوات سوريا الديمقراطية، ووعد الجانب التركي بتقديم الدعم اللوجستي والعسكري للعملية، وتسليم إدارة المدينة إلى مجلس وإدارة مدنية وقوات أمنية للحفاظ على أمن واستقرار المدينة، مقابل انسحاب الوحدات الكردية (وحدات حماية الشعب والمرأة) إلى شرق الفرات بعد تحرير المدينة “.
وبالفعل تم تحرير منبج من تنظيم “داعش” منتصف آب/ أغسطس عام 2016 على يد مجلس منبج العسكري وقوات سوريا الديمقراطية بدعم من التحالف الدولي لكن دون أن تفي تركيا بوعودها حول تقديم دعم لوجستي وعسكري للعمليات العسكرية.
اتفاق منبج
وجاء التفاهم الثاني حول منبج حين هدّدت تركيا عام 2018 بشن عملية عسكرية واجتياح منبج كما فعلت في عفرين شمال غربي سوريا، ذلك وسط تشكيكها في التزام واشنطن بإبقاء الوحدات العسكرية الكردية خارج المدينة.
وفي 25 أيار/مايو 2018، توجه وفد أميركي إلى تركيا لبحث الوضع في منبج، لتعلن وزارة الخارجية التركية والسفارة الأميركية في أنقرة في اليوم نفسه أن الطرفين وقعا “اتفاقية منبج”، التي حدّدت الخطوط العريضة لخارطة طريق تضمن تعاونهما بهدف ضمان الأمن والاستقرار في منبج.
وفي 4 حزيران/ يونيو عام 2018، أعلنت تركيا والولايات المتحدة أنهما توصلتا إلى اتفاق حول الوضع في منبج، وبحسب الأتراك فإن “خارطة الطريق” الخاصة بالاتفاق نصّت على “انسحاب وحدات حماية الشعب من المدينة ومنطقتها خلال 30 يوماً، وتسيير دوريات أميركية تركية مشتركة خلال 45 يوماً، وإنشاء إدارة محلية خلال 60 يوماً”.
وفي 5 يونيو 2018، أعلنت وحدات حماية الشعب أن مقاتليها ومستشاريها العسكريين انسحبوا من منبج، لكن الخارجية التركية أعلنت، في اليوم نفسه، أن الانسحاب من منبج يجب أن يكون مجرد مقدمة لانسحاب الوحدات من كوباني والرقة والمدن الأخرى شمالي سوريا.
وفي 2 تموز/ يوليو، قام اثنان من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، الجمهوري ليندسي جراهام والديمقراطية جين شاهين، بزيارة مدينة منبج برفقة أعضاء مجلس منبج العسكري من أجل تقييم الوضع الأمني.
وفي 15 من الشهر نفسه، أعلن مجلس منبج العسكري أن آخر أعضاء وحدات حماية الشعب قد غادروا المدينة، ومع بداية10-2018 بدأ الجنود الأميركيون والأتراك تدريبات لتسيير دوريات مشتركة في منبج وريفها.
وفي الأول من تشرين الثاني/نوفمبر، انطلقت أولى الدوريات الأميركية التركية المشتركة في منبج لضمان وجود إدارة مدنية غير مرتبطة بقوات سوريا الديمقراطية.
وخلال السنوات التي أعقبت تحريرها من تنظيم “داعش”، تحولت منبج إلى عقدة تجارية هامة ومنفذاً للعبور بين مناطق سيطرة كل من الحكومة وقوات سوريا الديمقراطية والجيش الوطني المدعوم من تركيا.
عوامل نجاح
أثبت الواقع الميداني في شمال سوريا أن اتفاقية منبج يمكن أن تمثل أرضية للحل في وقت فشلت فيه الحلول الأخرى بما فيها العسكرية في تحقيق استقرار طويل الأمد، لكن ذلك تم وسط توفّر عوامل جرّت الأطراف لحل تفاوضي يمكن تلخيصها بالمقومات الآتية:
التوافق الدولي والإقليمي: تمثل اتفاقية منبج نموذجاً لتوافق بين الولايات المتحدة وتركيا بشأن إدارة مدينة حيوية، رغم أن فشل الطرفين نفسهما في التفاهم حول المناطق الأخرى جرّ الويلات على سكانها.
ولا شك أن هذا التوافق، إذا ما تم توسيعه ليشمل أطرافاً أخرى مثل روسيا وحكومة دمشق، يمكن أن يشكل قاعدة لتحقيق الاستقرار في الشمال السوري، مثلاً عبر نشر المزيد من القوات الحكومية على الحدود تحت إشراف روسي بالتنسيق مع تركيا.
إدارة مدنية مشتركة: أحد بنود اتفاقية منبج كان تشكيل مجلس مدني من كافة مكونات المدينة، وهو ما يمكن البناء عليه لتعزيز إدارة مدنية مستقلة في عموم مناطق شمال شرق سوريا، بحيث يدير أبناء كل منطقة مناطقهم بعيداً عن سيطرة مباشرى لأي قوة عسكرية.
ويحتاج تعزيز دور الإدارة المدنية لإعادة هيكلة المجالس والإدارات المحلية في مناطق النفوذ المختلفة، وإجراء انتخابات محلية نزيهة تسمح لكافة الأطراف والقوى السياسية والمجتمعية المشاركة فيها.
لكن انتخابات البلديات والمجالس المحلية التي عزمت الإدارة الذاتية إجراءها خلال العام الجاري 2024 عرقلتها التهديدات التركية، رغم ذلك يمكن الحوار حول شكل الانتخابات والمراقبين الذين يضمن إشرافهم عليها نتائج نزيهة وتمثيلاً حقيقياً للمجتمعات المحلية.
استمرار دور التحالف الدولي: لعب التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة دوراً حاسماً في التوسط بين الأطراف في اتفاقية منبج، ويمكن لهذا التحالف أن يستمر في أداء هذا الدور عبر تقديم ضمانات أمنية لتركيا وفي الوقت نفسه ضمانات لشركائه المحليين في قوات سوريا الديمقراطية.
ويمثل العمل على استقرار المنطقة من خلال دعم الإدارات المحلية المستقلة التي ستتشكل بعد الانتخابات من أهداف التحالف الدولي الذي يسعى لضمان مجتمعات مستقرة بعيدة عن تنظيم “داعش”.
إذاً فالتفاهمات المستقبلية تحتاج لوجود قوات دولية تساهم في تخفيض التصعيد بين تركيا وقوات سوريا الديمقراطية لحين الوصول إلى حل سياسي شامل للأزمة السورية، لأن أي انسحاب للولايات المتحدة وقوات التحالف في موعد غير مناسب قد يدفع تركيا إلى نسف الاتفاقيات وشن هجمات جديدة.
مكاسب مشتركة
إن تطبيق نموذج اتفاقية منبج على مناطق أخرى في شمال شرق سوريا يمكن أن يُنتج مكاسب مختلفة لكل من تركيا وقوات سوريا الديمقراطية بشكل رئيسي.
وقد يسهم تطبيق اتفاقيات مشابهة لنموذج منبج في تقليل المخاوف الأمنية لتركيا من وحدات حماية الشعب التي تعتبرها امتداداً لحزب العمال الكردستاني، إذ يمكن للتفاهمات أن توفّر مثلاً ابتعاد الوحدات العسكرية عن الحدود التركية.
كما أن اتفاق تركيا مع “قسد”، شريك واشنطن في محاربة تنظيم “داعش”، يحدّ من عوامل توتر العلاقات بين واشنطن وأنقرة، ويعزز مكانة تركيا كشريك استراتيجي للقوى الدولية في المنطقة.
ومن جانب آخر، ستفتح التفاهمات آفاقاً من المكاسب الاقتصادية لتركيا إذا ما استقرّت المنطقة المجاورة لها والغنية بالموارد الزراعية والنفطية.
في المقابل، يمكن للتفاهمات أن تساعد قوات سوريا الديمقراطية في الحفاظ على استقلاليتها السياسية والعسكرية، وإبعاد مخاطر المعارك والعمليات العسكرية العنيفة، ما يعزز دورها كقوة فاعلة في السلام والاستقرار الإقليمي، وتركيز جهودها العسكرية في مكافحة خلايا تنظيم “داعش” لتحقيق استقرار داخلي.
الدور نفسه سيعزّز موقف “قسد” كقوة مؤثرة في الساحة السورية، مع إبقاء مساحة للتحرك السياسي والعسكري دون الخضوع المباشر لأي طرف.
وتؤمن الحلول التفاوضية تأثيراً إيجابياً على استقرار المجتمعات التي عانت بسبب الحرب وتوقف التنمية الاقتصادية، بما فيها المشاريع الصغيرة والمتوسطة للاقتصاد المحلي التي يمكنها تحقيق النمو مع تخفيف التوترات السياسية والأمنية ودعم استقرار طويل الأمد.
توازنات وتحديات
وبالنسبة لحكومة دمشق، قد يشكل تطبيق نموذج اتفاقية منبج فرصة لاستعادة السيطرة على كامل الحدود، ما يمكّنها من فرض سيادتها على هذه المناطق وربطها بالحكومة المركزية، وبالتالي الاستفادة أيضاً من الموارد الاقتصادية والتجارية داخل البلاد، لتخفيف آثار العقوبات التي قيّدت الحركة التجارية عبر الحدود.
كما يشكل إعادة تفعيل المعابر بين سوريا وتركيا، مثل معبر القامشلي الذي تسيطر عليه الحكومة السورية، خياراً مناسباً لدمشق وكذلك لأنقرة التي تواجه عقبات حقيقية أمام تشغيل معبر أبو الزندين بين حلب ومدينة الباب الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني.
وإن نجاح أي اتفاق بين تركيا وقوات سوريا الديمقراطية من شأنه تعزيز دور الولايات المتحدة كوسيط لتخفيض التصعيد والحفاظ على علاقاتها الاستراتيجية مع كل من حليفها في الناتو وشريك التحالف الدولي لمحاربة تنظيم “داعش”.
كما أن ترسيخ الاستقرار في المنطقة يقلل من عوامل عودة تنظيم “داعش” وتقليل النفوذ الإيراني في سوريا، ما يُعزز موقف الولايات المتحدة في المحادثات السياسية حول مستقبل سوريا، ويتيح لها فرصة تعزيز استراتيجياتها الإقليمية وتثبيت دورها كمحور فعّال في رسم مسار الحل السوري.
أما بالنسبة لروسيا، فالتفاهمات تتيح لها لعب دور مركزي في الشمال السوري عبر دورها التفاوضي بين الأطراف المتنازعة، خصوصاً أنها الداعم الرئيسي لحكومة دمشق وتتمتع بعلاقات جيدة مع كل من تركيا وقوات سوريا الديمقراطية.
وفي النهاية، من شأن نجاح تعميم نموذج منبج ودعم الاستقرار في شمال وشرق سوريا أن يسرّع جهود التوصل إلى حل سياسي شامل للأزمة السورية، وهو ما قد يؤدي إلى تحقيق رغبة روسيا في انسحاب القوات الأميركية من سوريا بشكل أسرع.
لكن رغم الفرص التي يقدمها نموذج اتفاقية منبج، إلا أن عدة تحديات قد تقف أمام محاولات تسوية النزاع بين تركيا وقسد، كغياب الثقة بين تركيا والولايات المتحدة الأميركية، وسعي روسيا لدفع أنقرة لصدام مع واشنطن، رغم أنها سارعت لدخول منبج بعد الانسحاب الأميركي، ما يعني أنها كانت مستفيدة من الاتفاق.
ومن المتوقع أن تواجه أي مشاريع للتفاهم بين تركيا وقسد رفضاً من النظام السوري الذي يخشى أي خطوة تعزز نجاح الإدارة الذاتية، بالإضافة إلى موقف إيران التي سترفض أي استقرار يقلّل نفوذها.
في النهاية، تُظهر اتفاقية منبج أن هناك إمكانية للتوصل إلى حلول توافقية بين تركيا وقسد، لكن هذه الحلول تتطلب تنازلات متبادلة وإرادة سياسية حقيقية من الأطراف المعنية. إذا تم البناء على هذه الاتفاقية وتوسيعها لتشمل مناطق أخرى، فقد يكون هناك أمل في إنهاء الصراع المستمر في شمال سوريا.[1]