ملامح الدور الروسي في أي حوار تركي كردي في سوريا
ضرغام أحمد – موسكو
رغم انشغالها منذ فبراير 2022 بالحرب مع أوكرانيا، بقيت روسيا واحدة من أبرز اللاعبين الدوليين والمؤثرين في الملف السوري ورقماً لا يمكن تجاوزه في أي تسوية للحرب الدائرة في هذا البلد منذ العام 2011.
ودعم التدخل العسكري الروسي منذ العام 2015 استعادة سيطرة الحكومة السورية كلياً أو جزئياً في عدة مناطق سورية، كما برز دور موسكو التفاوضي بين الحكومة والأطراف الأخرى، خصوصاً في جنوب وشمال البلاد.
ومع احتمال ظهور بوادر إطلاق حوار بين الكرد السوريين وتركيا، يبرز مجدداً السؤال المتعلق بالدور الذي يمكن أن تلعبه موسكو للوصول إلى نتائج لهذا الحوار، لا سيما أن الكرملين لا يتوقف عن تأكيد مواقفه التي أعلنها منذ بداية الأزمة السورية والداعية إلى لحوار السياسي كخيار وحيد لوقف العنف وإعادة الاستقرار إلى البلد الحليف.
ويكاد يسود إجماع لدى كافة المراقبين الروس بأن العلاقات التي تتمتع بها روسيا مع مكونات أساسية في المشهد السوري تشكل عنصراً بالغ الأهمية لدفع العملية السياسية في سوريا إلى الأمام، إلى جانب المصالح التي ينبغي أن تكون مشتركة في النهاية.
ويشكل المكون الكردي في سوريا واحداً من أبرز “الأعمدة” التي تقوم عليها شبكة العلاقات الروسية في سوريا والمنطقة عموماً، ليس فقط بسبب أهمية هذا المكون من النواحي التاريخية والثقافية والسياسية والعسكرية، بل كون العلاقة بين الطرفين تمتد إلى عقود كثيرة تعود إلى بداية الحقبة السوفياتية، ما يعطي هذه العلاقات بعداً خاصاً يرى مراقبون روس أنه سيكون حاضراً في مقاربة روسيا لتسوية الأزمة السورية.
شدّ وجذب
ورغم أن التواصل لم ينقطع بين روسيا والإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، تأتي غالبية تصريحات الخارجية الروسية من نافذتي موقف موسكو من الولايات المتحدة الأميركية وما يصب في صالح تقوية حليفها الحاكم في دمشق.
ويلخص تصريح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، مطلع أيلول/سبتمبر الماضي لموقع روسيا اليوم، الموقف المعلن للإعلام، حين حذّر الكرد من مصير مشابه لأفغانستان، في إشارة لتخلي واشنطن عن حلفائها.
وقال لافروف إن “على الكرد أن يدركوا أن مستقبلهم سيكون دائماً في إطار وحدة سوريا وليس الاعتماد على إنقاذ الأميركيين لهم، بل عليهم التوجه نحو التفاوض مع الحكومة السورية والاتفاق بشأن الحقوق التي يستحقونها كأقلية قومية”.
لكن الرئيسة المشتركة لدائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية، إلهام أحمد، أوضحت في مقابلة على قناة العربية في اليوم نفسه، إن لافروف يعلم نوايا الكرد ورغبتهم في الحل السياسي الشامل في سوريا، وهو على اطلاع بكافة الوثائق التي تم التوصل لها سابقاً، ومجريات جولات الحوار مع الحكومة، التي “ترفض الانفتاح على الحوار كطريق للحل”.
ونفت أحمد خضوعهم لقرارات أميركية، “نحن حرّاس شعبنا ولسنا حرّاساً لمصالح أي دولة”.
واعتبرت بأن اللغة التي استخدمها لافروف لا تساعد في التوصل لحلول، فنحن نرى مصلحتنا والحل مع السوريين وكل وثيقة تفاهم سابقة بدأت بوحدة الأراضي السورية.
وكشفت أن الجانب الروسي أثناء الحوار يعطي رسائل إيجابية حول تأييدهم للحوار والضغط على دمشق للقبول بالحوار.
وتكشف عدة حوادث عن وجود تواصل فعّال ومنتج بين القوات الروسية العاملة في سوريا وقوات سوريا الديمقراطية، من بينها انتشار نقاط عسكرية حكومية في منطقة تل تمر عقب الهجمات التركية عام 2019 وفك حصار قوى الأمن الداخلي التابعة للإدارة الذاتية عن المربعين الأمنيين في الحسكة والقامشلي رداً على هجمات القوات الحكومية في ريف دير الزور في آب/ أغسطس الماضي.
جذور عميقة
ويمكن فهم التعاون الحالي بين روسيا والكرد عموماً بشكل أفضل من خلال منظور العلاقات التاريخية الوثيقة بينهما. فعلى مدى قرنين من الزمن، خلال الحقبتين القيصرية والسوفيتية، تفاعلت روسيا مع الكرد، مدركة لأهميتهم الاستراتيجية في سياستها الإقليمية، ويتضح ذلك، على سبيل المثال، من خلال دعمها للحركات الوطنية الكردية وإنشاء “كردستان الحمراء” في القوقاز أو جمهورية مهاباد قصيرة العمر في إيران. ولكن في الوقت نفسه، سعت روسيا بشكل عملي إلى تحقيق مصالحها الخاصة، ورفضت دعم الاستقلال الكردي عندما تطلب الوضع السائد ذلك.
ومن عوامل التقارب ما يتحدث عنه المؤرخون وغيرهم من المختصين، بما في ذلك في علم اللغات، عن أوجه تشابه كثيرة بين الشعبين الكردي والروسي في الفولكلور والتاريخ، ويقول هؤلاء أن هناك أكثر من ألفي كلمة مشتركة في اللغتين الروسية والكردية.
ومنذ نهاية الحرب الباردة، أقامت روسيا علاقات مع إقليم كردستان العراق الذي يتمتع بالحكم الذاتي، ورغم أن هذه العلاقة توصف بالغامضة والمتناقضة، لكن موسكو ظلت متعاطفة مع حركة استقلال كردستان لعقود من الزمن، والتي تضمنت أيضاً الدعم العسكري للأكراد.
إلى جانب ذلك حافظت موسكو في تلك المرحلة على تعاون محدود مع الكرد للحفاظ على نفوذها المتبقي في المنطقة، وفي الوقت ذاته سعت لاحتواء ما اعتبرته دعم أنقرة للمسلحين الشيشان.
وفي أعقاب إسقاط تركيا لطائرة حربية روسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، أجرت روسيا تغييرات على سياستها تجاه الكرد السوريين لتظهر بوضوح دورها المهم في القضية الكردية. وفي فبراير/شباط 2016، سمحت روسيا للإدارة المعلنة ذاتياً في مناطق شمال وشرق سوريا، والمعروفة أيضاً باسم روج آفا أو كردستان سوريا، بفتح أول مكتب خارجي لها في موسكو. وعلى الرغم من أن حفل الافتتاح لم يحضره ممثلو الحكومة أو الدبلوماسيون أو السياسيون الروس، فمن الواضح أن ذلك كان خطوة انتقامية لموسكو.
ومن الناحية القانونية، يعمل “المكتب التمثيلي لكردستان سوريا” كمنظمة غير حكومية، ولا يعترف به رسمياً كبعثة دبلوماسية من قبل وزارة الخارجية الروسية، التي اعتبرت أن مصالح الكرد السوريين في روسيا يجب أن تمثلها بعثة دبلوماسية ممثلة بالسفارة السورية في موسكو.
ومع ذلك، اعتبرت هذه الخطوة في العديد من الدوائر علامة على الدعم الروسي الضمني لهدف تقرير المصير الكردي. وفي وقت لاحق، افتتح الكرد السوريون بعثاتهم في براغ وستوكهولم وبرلين وباريس ولاهاي.
وفي المرحلة الراهنة، يُنظر في روسيا إلى الكرد السوريين على أنهم أحد أكثر الأطراف تأثيراً في الصراع الدائر في سوريا، ويرجع ذلك أساساً إلى مشاركتهم المباشرة ونجاحهم في القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).
ويشار في هذا السياق إلى حديث الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أمام الدورة السبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول 2015 عشية التدخل العسكري الروسي في سوريا، حيث أوضح أن بلاده ستزيد دعمها للأكراد السوريين.
وقال حينها أنه “علينا أن نعترف أنه باستثناء القوات الحكومية للرئيس الأسد، وكذلك الميليشيات الكردية في سوريا، لا أحد يقاتل تنظيم الدولة الإسلامية والمنظمات الإرهابية الأخرى بشكل جدي”.
ولا يغيب عن بال موسكو أن الكرد يسيطرون حالياً على جزء كبير من شمالي سوريا ويأملون في إضفاء الشرعية على هذا الحكم الذاتي الفعلي أو حتى السعي للحصول على وضع مستقل كجزء من تسوية سياسية مستقبلية يتم التوصل إليها بعد نهاية الحرب الأهلية، وهو ما يجري الحديث عنه حالياً.
مثلث التشابكات
ويرى المحلل الاستراتيجي لشؤون الشرق الأوسط، أندريه أونتيكوف، أن حقيقة الدور الكردي تدخل ضمن محاور المقاربة الروسية التي تقودها وزارة الخارجية وغيرها من أجهزة الدولة للتسوية المفترضة للأزمة السورية، وتشكل ورقة ضغط على الأطراف التي ترفض التعامل مع العامل الكردي كأمر واقع أو كقضية يجب وضع حل تاريخي لها.
ويوضح في حديثه ل DeFacto أن العلاقة مع الحكومة المركزية في دمشق تبقى نقطة انطلاق محورية في أي تحرك دبلوماسي وسياسي روسي على هذا الخط، لكن علاقات موسكو التاريخية مع المكون الكردي من شأنها، في الوقت ذاته، تقريب وجهات النظر بين الطرفين من جهة، ومن جهة ثانية تقليل حجم أية تأثيرات “سلبية” يمكن أن تبرز من الجانب التركي أو غيره من القوى، والتي يمكن أن تعطل الحل السياسي الشامل في البلاد.
ويركز أونتيكوف في حديثه على الجزئية المتعلقة بالشروط التي يرفعها الطرفان الحكوميان في سوريا وتركيا، فدمشق تشترط انسحاب كامل للقوات التركية من الأراضي السورية، بينما تشترط أنقرة وضع دستور شامل في سوريا، وإجراء انتخابات حرة، واستعادة العلاقات بشكل كامل ومعالجة الملفات الأمنية.
ويرجّح المحلل الاستراتيجي أونتيكوف أن ترفض دمشق هذه الشروط كونها تمس قضايا سيادية، بينما ستبدي مرونة فيما يخص الملفات الأمنية، إلى جانب القضايا المتعلقة بإعادة اللاجئين السوريين واعادة دمجهم في المجتمع السوري.
ويزيد بأن الدور الروسي سيبرز في كافة البنود تقريباً لهدف تدوير الزواية بين كافة الفرقاء، لا سيما على ضوء استمرار حالة الشكوك وانعدام الثقة بين الجانبين السوري والتركي.
ومن جانبه، يرى مدير مركز التنبؤات السياسية، دينيس كركودينوف، أن روسيا تريد قطع الطريق على أية احتمالات لعودة التصعيد مستقبلاً في سوريا، لذلك هي معنية بالمحافظة على إيجابية المؤشرات التي برزت حول احتمالية عقد قمة بين الرئيسين السوري بشار الأسد، والتركي رجب طيب أردوغان.
ويعتبر كركودينوف أن ثمة علاقة تبادلية بين التقدم على خط العلاقات السورية التركية من جهة، ومحور الحوار السوري الداخلي من جهة أخرى.
وتصب مبادرة إحياء الحوار بين الحكومة المركزية والإدارة الذاتية الكردية في هذا الاتجاه، لأن أي تقدم ملموس على هذا الخط يعزز من فرص موسكو لإيصال هذه العملية إلى نهايتها المرجوة، وفقاً له.
ويضيف كركودينوف خلال حديث ل DeFacto أنه في أجواء الحديث عن ظهور مبادرات احتمال بدء حوار تركي كردي، فإن منطلقات هذه الحوارات ستتمحور حول ضمان وحدة الأراضي السورية وتطهيرها من العناصر الإرهابية، وضمان وضع سياسي وديمغرافي يقبل به المكون الكردي، وفي الوقت ذاته تقديم تطمينات لأنقرة بخصوص عدم وجود قوات حزب العمال الكردستاني في شمالي سوريا.
ويختم مدير مركز التنبؤات السياسية بأنه على الرغم من ذوبان الجليد في العلاقات بين موسكو وأنقرة، إلا أن موسكو ستكون أمام استحقاق معالجة المخاوف التركية في الملف المتعلق بإمدادات الأسلحة الروسية المحتملة إلى الكرد السوريين، رغم إصرار الرئيس بوتين على أن روسيا ليس لديها أي نية في هذا الاتجاه.[1]