هل تنعكس الخطوات التركية للمصالحة مع الكرد على الساحة السورية؟
مع دعوة زعيم حزب الحركة القومية اليميني المتشدد في تركيا، دولت باهتشيلي، للزعيم التاريخي لحزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا، عبد الله أوجلان، “لإلقاء خطاب أمام البرلمان وإعلان انتهاء الإرهاب”، تركّزت الأنظار مجدداً إلى شمال وشرق سوريا، التي تعتبر أحد بؤر التوتر بين أنقرة والكرد في المنطقة.
في المقابل، جدد قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، القوة العسكرية في منطقة الإدارة الذاتية المعلنة من طرف واحد في المنطقة، مواقفه السابقة، الداعية إلى حوار بين السلطة السياسية والإدارية الفعلية في المنطقة، وأنقرة التي أعلنت مؤخراً سعيها إلى إحلال السلام.
أما سورياً، فقد بقيت قنوات التواصل بين “قسد” ودمشق في أدنى مستوى دون إحراز أي تقدّم يشير إلى إمكانية التعويل على الظروف الإقليمية من أجل انشاء مشروع وطني سوري، في ظل كثرة وثقل الأطراف الأجنبية المنخرطة في الملف السوري.
كيف تنظر دمشق لحوار محتمل بين “قسد” وأنقرة؟
تحيي التصريحات التركية مؤخراً، والتي تشير إلى رغبة في تجديد مسار السلام المتعثر منذ العام 2015، الآمال في إمكانية إحداث خرق في العلاقة التركية-الكردية المتّسمة بالتوترات السياسية والصراعات المسلّحة في كل من تركيا وشمالي سوريا والعراق.
وإن كانت الدعوة الرئيسية موجّهة إلى زعيم “العمال الكردستاني” المعزول في سجن إمريلي عبد الله أوجلان، بوساطة من حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب الموالي للكرد في تركيا، فإن نجاح هذه المفاوضات، في حال إطلاقها، يفترض تلازماً في ثلاثة مسارات، وإن تفاوتت في ظروفها وسياقها الزمني، أولها داخل تركيا وثانيها في شمالي العراق وثالثها في شمال وشرق سوريا.
وإن كان تأثير المسارين الأول والثاني يقتصر على التحوّل الإقليمي في تعامل أنقرة مع المسألة الكردية، إلا أن المسار الثالث (حوار أنقرة مع قسد) يعتبر في صميم الملف السوري، وبالتالي يستحوذ على القدر الأكبر من اهتمام دمشق وحلفائها في كل من طهران وموسكو.
وتأتي الخطوة التركية بعد تعثّر محاولات أنقرة للتطبيع مع دمشق على الرغم من الترتيبات الأمنية والسياسية بين الجانبين برعاية روسية وعربية أيضاً، وهو ما يكسبها أهمية مضاعفة لنسفها أحد أبرز الأسس التي بنت تركيا رغبتها وخطابها الإعلامي للمصالحة مع الحكومة السورية، وهي مواجهة “حزب العمال الكردستاني وذراعه في سوريا”.
وكما هو الحال بالنسبة لتصوّر “قسد” للمحاولات التركية للتطبيع مع دمشق كاتّفاق لمواجهتها وإلغاء مشروعها، فإن رؤية الحكومة السورية للتقارب بين أنقرة و”قسد” سيكون مشابهاً لجهة اعتبار أحد أركان هذه الخطوة زيادة الضغوط على دمشق، خاصة وأنها ترى في الإدارة الذاتية مشروعاً انفصالياً يهدد وحدة الأراضي السورية وسيادتها.
وبالمثل، فإن علاقة “قسد” مع التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتّحدة من جهة، والعلاقات التركية-الأميركية المتنامية خلال السنوات الأخيرة، ستزيد من شكوك موسكو، التي كانت ولا تزال ترى في تقارب أنقرة مع دمشق تعزيزاً لإستراتيجية جذب تركيا إلى المسار الأوراسي وزيادة مساحات الاختلاف بينها وواشنطن.
ولطالما رأت طهران في الإدارة الذاتية مشروعاً يستهدف نفوذها داخل سوريا، ويهدد الخط الإستراتيجي الذي يربطها مع جنوب لبنان وحتى “حماس” الفلسطينية عبر الأراضي العراقية والسورية.
وفي حين تحتفظ روسيا بمراكز ونقاط عسكرية في مناطق سيطرة “قسد” في شمال وشرق سوريا، فقد فضّلت إيران تكثيف وجودها في الطرف الآخر من سرير نهر الفرات الفاصل بين مناطق الحكومة السورية ومناطق الإدارة الذاتية التي تحتضن القواعد العسكرية الأميركية.
وإلى جانب مخاوفها حول مستقبل الطريق الاستراتيجي، فإن أي تقارب بين “قسد” وأنقرة سينظر إليه إيرانياً كتهديد متنامٍ لأمنها القومي، بالنظر إلى الديناميات الداخلية للمجتمع الإيراني وقدرة الخطاب الديني في ضمان استمرارية “نظام الثورة الإسلامية”، والذي يتعارض كلياً مع أي توجّه آخر قومياً كان أم ليبرالياً.
موقف الأطراف السورية
وبالنظر إلى خارطة السيطرة، يمكن تقسيم سوريا إلى 4 مناطق رئيسية، فبالإضافة إلى مناطق سيطرة كل من الحكومة السورية و”قسد”، هناك المناطق الواقعة تحت الاحتلال التركي، والتي تديرها أنقرة من خلال “الجيش الوطني”، وهو مظلة أسستها أنقرة تنضوي تحتها الفصائل المسلّحة التي يديرها جهاز المخابرات الوطنية التركية “ميت” في الشمال السوري، ومنطقة سيطرة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) والفصائل الراديكالية المتحالفة معها في إدلب.
وبما أن “الجيش الوطني” يعمل بتعليمات مباشرة من المخابرات التركية، فمن الطبيعي أن يتبع في مواقفه لها، فإن صعّدت أنقرة وهددت “قسد” ستقوم فصائل “الجيش الوطني” بالمزايدة في عدائها لها، وإن هادنت وتصالحت معها، فإنها ستجد نفسها مجبرة على المضي في خارطة الطريق التركية للحل.
ويتطابق الخطاب الحالي للميلشيات والهيئات التابعة لتركيا في مناطق الاحتلال التركي شمالاً، مع خطاب أنقرة، الذي يعبّر عن مخاوف تركية من المكوّن الكردي في “قسد” بشكل خاص، والمعروف بوحدات حماية الشعب (YPG)، والتي تعتبرها أنقرة امتداداً لحزب العمال الكردستاني.
هذا التصور المعادي لأعداء تركيا، أفقد المكوّنات التابعة لأنقرة في المعارضة السورية بشكل عام، وميليشات “الجيش الوطني” خاصة، اللغة والخطاب الوطنيين، حتى بات المشروع المقترح بديلاً للحكومة السورية والإدارة الذاتية هو القتال فقط، دون وجود طروحات سياسية قابلة للتحقيق، إلى جانب استحالة فرضية القتال في ظل تفاهمات أستانا وسوتشي من جهة، وغياب الضوء الأخضر الأميركي لتركيا لتنفيذ أي عملية برية داخل سوريا من جهة أخرى.
وفي المقابل، قد يحفز الحوار الكردي-التركي المحتمل مؤيدي “الجيش الحر” السياسيين والعسكريين للتقارب أكثر مع الإدارة الذاتية وصولاً إلى الانصهار في مشروع قادر على ضمان إبعاد شبح وصول الجيش السوري إلى مناطقهم السكنية الأصيلة منها أو الحديثة.
فيما تبدو “هيئة تحرير الشام” الأبعد في انخراط في أي مشروع سياسي تقوده الإدارة الذاتية بسب التناقض الإيديولوجي والإداري بين الطرفين، حتى وإن أدّى الموقف المذكور إلى صدام مباشر أو غير مباشر مع أنقرة.
الحوار بين “قسد” ودمشق
ترفض دمشق حتى الساعة اعتبار الإدارة الذاتية هيكلاً سياسياً ذا تمثيل شعبي، وتتعامل معه كقوة أمر واقع عسكرية تسيطر على مناطق إستراتيجية من الجغرافيا السورية، مع تفادي الاصطدام المباشر معها. كما تعتبرها عامل ضغط كبير جداً على أنقرة لإجبارها على تقديم تنازلات حيال السقف العالي للمطالب التركية.
وعلى الرغم من التقاء كل من دمشق و”قسد” في العديد من الرؤى والملفات، كما هو الحال بالنسبة لرفض الاحتلال التركي للشمال السوري، ورفض الإملاءات التركية الخاصة بتسوية الأزمة السورية، الموقف المعادي للتنظيمات الراديكالية والرجعية، التي تحاول فرض نهج ونمط حياة يتعارض مع طبيعة المجتمع السوري بكل مكوّناته، إلا أن غياب الحوار بين الطرفين بقي سيّد الموقف، ليقتصر التعاون على ملفات آنية وإدارية وخدمية وذلك عبر قنوات عسكرية وأمنية فقط.
التحدّي الثاني في التقارب بين دمشق و”قسد” يكمن في علاقة الأخيرة مع الولايات المتّحدة، والتي تُعتبر دمشق محرّك السياسات العدائية ضدها في الداخل وعلى المستوى الدولي. وإن كانت العداء التركي ل”قسد” ورقة بيد دمشق ضد أنقرة، فإن تحالف “قسد” مع واشنطن يعتبر ورقة سورية في رص صفوف حلفائها من الروس والإيرانيين خلف مواقفها السياسية والعسكرية ضد الإدارة الذاتية.
وعلى عكس الرفض الأميركي لمحاولات التطبيع بين أنقرة ودمشق، فلم تبد واشنطن معارضة عالية للنداءات المتكررة من جانب الإدارة الذاتية للحوار مع دمشق. لم تدعم الولايات المتحدة جهود تطبيع العلاقات التركية-السورية، لأنها تعتبره تهديداً مزدوجاً لوجودها العسكري في شرق سوريا ولمشروع الإدارة الذاتية الذي تمثله “قسد”.
ومع تصاعد التوترات بين إسرائيل وإيران، زادت الولايات المتحدة من وجودها العسكري في شمال وشرق سوريا، ما يشير إلى الأهمية الإستراتيجية للمنطقة في السياسة الأميركية لموازنة النفوذ الإيراني وتعزيز العمليات العسكرية في العراق، خصوصاً وأن الوجود الأميركي في سوريا لا تقتصر أهدافه على الوضع السوري أو المنافسة مع إيران وروسيا؛ بل تتخطاها إلى حماية المصالح الأميركية الأوسع، بما في ذلك ضمان أمن إسرائيل وحماية الأفراد العسكريين الأمريكيين في الشرق الأوسط.
وقد يلعب الحوار الكردي-التركي دوراً محفزاً لدمشق للتوجّه نحو حوار جدي مع الإدارة الذاتية، لكن المشهد الجيوسياسي الأوسع، وتعقيدات العلاقات الكردية-الأميركية والسورية-الروسية- الإيرانية ستفرمل مثل هذه الرغبة إن وجدت، وبالتالي، فإن أي تقارب كردي-تركي في سوريا سيقدّم للجمهور السوري كشكل جديد من أشكال الاحتلال التركي للشمال السوري وأطماع أنقرة التوسّعية.
ويبقى المعيار والفصل في طبيعة العلاقات المعقّدة بين “قسد” وأنقرة ودمشق، مدى جدّية الحكومة التركية في حل المسألة الكردية داخلها ومن ثمّ المنطقة على أسس ديمقراطية وحقوقية، مع عدم إغفال الجانب المناوراتي والتكتيكي لمثل هذا الإعلان الذي لم يتعدّ على أرض الواقع حدود التصريحات الإعلامية.[1]