كيف شتتت مكالمة هاتفية رأس العين إلى مخيمات
هوشنك حسن
قد تتغير حياة الكثير من البشر بين لحظة وأخرى، لكن أن تغير مكالمة هاتفية مصير وحياة عشرات الآلاف من السكان من استقرار إلى حرب ونزوح، فبلا شك تلك قصة تستحق أن تروى وتتكرر روايتها لأجيال.
ما إن وُضعت سماعة الهاتف حتى بدأ المهاجمون بتجهيز ترسانتهم العسكرية من مدرعات وطائرات وجنود مشاة. الضحايا غارقون في النوم، فعقارب الساعة تشير إلى منتصف الليل، دون أن يعلموا أن الحدث الأكثر سوءاً في حياتهم سيكون صبيحة اليوم التالي المصادف السادس من تشرين الأول/ أكتوبر عام 2019.
ليلة تلقّى الرئيس الأميركي آنذاك، دونالد ترامب، مكالمة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. يعلم مرافقو ترامب أن المكالمة حملت الكثير من عبارات الإطراء، فقد عبر لمرات عدة علانية عن إعجابه بنظيره التركي، ووافق على طلبه خلال تلك المكالمة.
وقبل ذلك، رعت الولايات المتحدة الأميركية التي تقود التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مفاوضات غير مباشرة بين شريكتها على الأرض قوات سوريا الديمقراطية، وتركيا حليفتها في الناتو.
وأفضت مفاوضات ما قبل مكالمة أردوغان- ترامب إلى اتفاق نص على تسيير دوريات أميركية تركية مشتركة في مناطق سيطرة “قسد”، وإبعاد الأخيرة لأسلحتها النوعية عن الحدود السورية التركية.
“وقت عودة الأميركيين“
احتل الجيش التركي مدينتي سري كانيه/ رأس العين وتل أبيض بالكامل جراء تلك المكالمة الهاتفية التي قرر بموجبها ترامب سحب قواته من سوريا وتسليم المنطقة للحليف في الناتو، وأدلى بتصريحات حول أن “الكرد لم يساندوا الجيش الأميركي في معركة النورماندي”، وأنه “حان الوقت لإعادة الجنود الأميركيين إلى الوطن”.
لكن ماذا عن مصير السكان المحليين الذين شاهدوا مدرعات وأعلام تركيا التي طالما هددت بغزو مناطقهم، إلا أنهم اعتبروا أن وجود الجنود الأميركيين بجانبهم كافٍ للتفاؤل والشعور بقدرٍ من الأمان؟
وفقاً لتقارير حقوقية، فر أكثر من 140 ألف من سكان رأس العين خوفاً من القصف التركي، والآن بعد مرور خمس سنوات لم يعد أكثر من 85% منهم.
تبقّى اليوم في رأس العين 42 كردياً فقط، بعدما كانوا يشكلون نحو 45% من مجمل السكان، ترك الجميع منازلهم خوفاً من الانتهاكات التي ترتكبها فصائل الجيش الوطني الموالي لتركيا، والتي ذاع صيتها في عفرين سابقاً ووثقتها تقارير حقوقية دولية، وفرضت وزارة الخزانة الأميركية نفسها عقوبات على بعض الفصائل المرتكبة لها.
وبعيداً عن التصريحات الرسمية، يكرر المسؤولون الأميركيون أن قرار الانسحاب الأميركي حينها، والتراجع عنه فيما بعد، اتُّخذ من الرئيس ترامب دون العودة لمستشاريه ولا للقادة الميدانيين في الجيش الأميركي أو المسؤولين الدبلوماسيين المتواجدين في المنطقة.
مكالمة هاتفية واحدة كانت كافية لإعادة هندسة مدينة بكاملها، وبعبارة أخرى نقلت المدينة إلى مخيم وحوّلت السكان إلى نازحين.
لا وفاء بالالتزامات
وأطلقت الولايات المتحدة تسمية “الآلية الأمنية” على الاتفاقية بين تركيا وقوات سوريا الديمقراطية، وكان المنتظر منها تأمين الحدود السورية – التركية وايقاف التهديدات التركية بغزو الشمال السوري وبالتالي إعادة تركيز جهود “قسد” بالدرجة الأولى على محاربة داعش، لكن فشل تلك الاتفاقية أفضت إلى كارثة إنسانية بتهجير عشرات الآلاف من السكان المحليين، تغيير ديمغرافي في مدينتي رأس العين وتل أبيض.
يعتبر أورهان كمال، وهو منسق رابطة تآزر للضحايا التي تركز بشكل خاص على رأس العين أن المدينة وسكانها ضحية لاتفاق أميركي – تركي يتم انتهاكه باستمرار. ويقول: بالإضافة لاحتلال أجزاء من شمالي سوريا، فإن تركيا لم تلتزم ببنود اتفاقية “وقف إطلاق النار” الذي وقّعته مع الولايات المتحدة في 17 أكتوبر 2019.
وبموجب هذه الاتفاقية، كان على تركيا القيام بحماية حقوق الإنسان وضمان سلامة السكان في المنطقة الآمنة، بحسب أورهان.
وينص البند الرابع من الاتفاقية، المؤلفة من 13 بنداً، على أن “البلدان (تركيا والولايات المتحدة) يؤكدان التزامهما بدعم الحياة الإنسانية وحقوق الإنسان وحماية المجتمعات الدينية والعرقية“.
كما جاء في البند السابع من الاتفاقية “أعرب الجانب التركي عن التزامه بضمان سلامة ورفاه السكان المقيمين في جميع المراكز السكانية في المنطقة الآمنة التي تسيطر عليها القوات التركية، وأكد مجدداً انه سيتم بذل أقصى درجات الحذر من أجل عدم إلحاق الضرر بالمدنيين والبنية التحتية المدنية“.
لكن تركيا لم تتخذ أي إجراءات جدية لضمان الأمن والسلامة في المناطق التي تحتلها. وبدلاً من ذلك، شهدت هذه المناطق سجلاً حافلاً من انتهاكات حقوق الإنسان، إلى جانب حالات من الفوضى والاقتتال الداخلي بين الفصائل المسلحة، ما أدى إلى خسائر في الأرواح والممتلكات بين المدنيين.
هذه الأحداث تُعد خرقاً واضحاً للاتفاقية، ولم تتدخل الحكومة التركية لوقف هذه الانتهاكات أو محاسبة مرتكبيها، بحسب ما وثقت تقارير حقوقية.
أزمة إنسانية
وأطلق المهجّرون من المدينة تسمية سري كانيه وواشوكاني (اسم تاريخي للمدينة نفسها) على مخيمين بريف الحسكة يقطنهما 32192 فاراً من العملية العسكرية التركية، بينما ينتشر 6914 نازحاً ضمن 40 مركزاً للإيواء في الحسكة و1447 آخرين على 29 مراكز في تل تمر، وفقاً لإحصائيات رابطة دار لضحايا التهجير القسري.
تقول شيرين إبراهيم، وهي مديرة البرامج في المنظمة ذاتها، إن منظمتها رصدت 54 حالة إصابة بمرض السرطان وحده في مخيمات نازحي رأس العين، وتعكس هذه الحالات جزءاً من معاناة مئات المرضى الآخرين.
وتضيف “آلاف الأسر تعيش في مخيمي سري كانيه وواشوكاني في خيام غير مجهزة، ويواجهون ظروف جوية قاسية مع افتقار شديد للمياه النظيفة وخدمات الصرف الصحي”.
ووفقاً لإبراهيم، فإن غالبية مرضى السرطان لا يحصلون على العلاج الكيميائي والإشعاعي بانتظام بسبب غياب الموارد الطبية والدعم المالي، وسط معاناة النازحين من تأثيرات نفسية خطيرة نتيجة التهجير القسري وفقدان منازلهم ومصادر دخلهم.
تؤكد شيرين أن المهجّرين بسبب الهجوم التركي عام 2019 يعيشون في “أزمة إنسانية حادة”.
وخلال خمسة أعوام من هذه الأزمة، تغيّر رئيس الولايات المتحدة، وها هي مقبلة على انتخابات جديدة، لكن تبقىى قضيّة رأس العين وأهاليها المهجّرين قسراَ كما قرر طرفا المكالمة الهاتفية تلك الليلة.[1]