ملاحظات في جدوى “المنطقة الآمنة”
إن انهيار مشروع “المنطقة الآمنة” عام 2019 لم يكن مجرد فشل دبلوماسي، بل يُعد نقطة تحول في مسار العلاقات بين الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا وتركيا، ما أثار تساؤلات حول إمكانية فتح قنوات حوار جديدة في المستقبل. في هذا القسم، سنقوم بتحليل المعطيات الحالية بناءً على التجارب السابقة، مع استشراف السيناريوهات المستقبلية لإمكانية الحوار بين الطرفين، ومدى جدواه في ظل التعقيدات الإقليمية والدولية.
أولاً: العوامل التي أدت إلى فشل الحوار السابق
غياب الثقة المتبادلة: كانت ولا تزال قضية الثقة بين الإدارة الذاتية وتركيا حجر عثرة أمام أي محاولة للحوار. فأنقرة تنظر إلى قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على أنها امتداد لحزب العمال الكردستاني (PKK)، الذي تعتبره تهديداً أمنياً مباشراً. هذا التصور التركي أدى إلى رفض أنقرة لأي وجود كردي منظم على طول حدودها، حتى لو كان تحت ضمانات دولية.
التغيرات في المواقف الأمريكية: تُظهر تجربة 2019 أن الولايات المتحدة لم تكن قادرة على الحفاظ على التزاماتها تجاه حلفائها الكرد. فقد قدمت وعوداً بحماية مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، لكنها تراجعت بسرعة تحت الضغط التركي، مما أدى إلى شعور قادة الإدارة الذاتية بخيانة واضحة. هذا التغير السريع في الموقف الأمريكي جعل الإدارة الذاتية تدرك أن الاعتماد على ضمانات دولية دون وجود ضمانات مكتوبة هو رهان محفوف بالمخاطر.
تدخل الفاعلين الدوليين والإقليميين: لا يمكن إغفال تأثير روسيا وإيران على مجريات الحوار. فعلى الرغم من أن موسكو كانت تحاول الظهور كوسيط، إلا أن مصالحها كانت تتماشى مع تعزيز سلطة دمشق، ما قلل من فرص التوصل إلى حل مستدام بين الأكراد وتركيا. أما إيران، فقد رأت في أي ترتيب أمني في شمال شرقي سوريا تهديداً محتملاً لمصالحها، نظراً لتواجدها العسكري في أجزاء أخرى من البلاد.
ثانياً: أدوار داعمة ومعيقة
التغيرات السياسية في تركيا: يمكن أن تلعب التغيرات السياسية الداخلية في تركيا دوراً مهماً في تحديد مستقبل الحوار. فحكومة أردوغان تعتمد حالياً على خطاب قومي معادٍ للأكراد لكسب التأييد الداخلي. لكن في حال حدوث تغير في القيادة التركية، قد تنفتح أنقرة على الحوار مع الإدارة الذاتية إذا رأت في ذلك فرصة لتخفيف الضغط العسكري على حدودها وتجنب استنزاف مواردها.
موقف الإدارة الذاتية: في السنوات التي تلت فشل “المنطقة الآمنة”، أصبحت الإدارة الذاتية أكثر انفتاحاً على فكرة الحوار، بشرط وجود ضمانات دولية حقيقية. ومع ذلك، فإن الاستعداد لتقديم تنازلات حقيقية، مثل الموافقة على إدارة مشتركة لبعض المناطق، سيظل موضع اختبار صعب.
الدور الأمريكي: عودة الولايات المتحدة للعب دور أكثر نشاطاً في سوريا قد يشكل فرصة لإعادة إحياء الحوار. لكن على واشنطن أن تتعلم من أخطاء الماضي، وتبني آليات مراقبة وضمانات قوية تحول دون انهيار أي اتفاق في المستقبل.
التنافس الروسي-الأمريكي: استمرار التنافس بين موسكو وواشنطن على النفوذ في شمال شرقي سوريا قد يعرقل أي جهود للحوار. فإذا شعرت روسيا أن أي اتفاق سيفضي إلى تعزيز النفوذ الأمريكي في المنطقة، فقد تعمد إلى تخريب المحادثات، من خلال دعم مواقف تركيا المتشددة.
ثالثاً: سيناريوهات مستقبلية؟
سيناريو الحوار التدريجي: يقوم هذا السيناريو على فكرة أن الطرفين (تركيا والإدارة الذاتية) قد يدركان بعد سنوات من الصراع أن الحل العسكري ليس مستداماً. في هذه الحالة، قد يبدأ الحوار على مستوى منخفض، عبر وساطة دولية أو إقليمية، ربما من قبل روسيا أو حتى دول أوروبية، بهدف التوصل إلى ترتيبات أمنية محدودة مثل وقف إطلاق النار، ثم الانتقال لاحقاً إلى محادثات حول الإدارة الذاتية والحقوق السياسية.
سيناريو التصعيد المستمر: في حال استمرت تركيا في نهجها الحالي، مع استمرار الدعم العسكري للفصائل السورية الموالية لها، قد نشهد موجات أخرى من التصعيد العسكري. هذا السيناريو قد يفضي إلى مزيد من الانهيار الأمني، وربما حتى تدهور الوضع إلى مواجهة شاملة على طول الحدود.
سيناريو الانهيار الكامل للحوارات: هذا السيناريو يتوقع أنه في حال عدم توفر إرادة سياسية حقيقية من الطرفين، واستمرار الضغوط الدولية المتضاربة، فإن أي محاولة جديدة للحوار ستفشل بسرعة، ما يؤدي إلى تعزيز الفوضى الإقليمية وتزايد النفوذ الإيراني والروسي في شمال شرقي سوريا.
رابعاً: الجدوى الاستراتيجية للحوار؟
من الناحية الاستراتيجية، الحوار بين الإدارة الذاتية وتركيا يمكن أن ينجح فقط إذا توافرت الشروط التالية:
وجود وسيط دولي قوي: أي حوار مستقبلي يجب أن يتم تحت إشراف وسيط دولي يحظى بثقة الطرفين، ويفضل أن يكون هذا الوسيط جهة محايدة قادرة على تقديم ضمانات أمنية ملموسة.
ضمانات أمنية متبادلة: تركيا تريد ضمانات بعدم استخدام الأراضي السورية لشن عمليات ضدها، بينما تسعى الإدارة الذاتية لضمانات بعدم تعرض مناطقها لهجمات جديدة. تحقيق هذه الضمانات يمكن أن يكون حجر الأساس لنجاح الحوار.
مشاركة جميع الأطراف: من الضروري أن يتم إشراك جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك الحكومة السورية وروسيا والولايات المتحدة. أي محاولة لتهميش أحد الفاعلين ستؤدي إلى تقويض جهود الحوار.
هل من أمل لحوار مستدام؟
بالرغم من التعقيدات الكبيرة، فإن الأمل في الوصول إلى حوار حقيقي بين الإدارة الذاتية وتركيا ليس معدوماً. لكن النجاح يعتمد بشكل أساسي على مدى استعداد الطرفين لتقديم تنازلات حقيقية، وعلى قدرة القوى الدولية على لعب دور الوسيط بشكل فعّال. في نهاية المطاف، لا يمكن حل النزاع عبر الحوار وحده، بل يحتاج إلى إطار أوسع يضمن الاستقرار طويل الأمد في المنطقة، ويعالج مخاوف جميع الأطراف بشكل عادل ومتوازن.[1]