في ضرورة عدم تخلي واشنطن عن قسد
تواجه الولايات المتحدة معضلة معقدة في علاقتها مع كل من تركيا والكرد في شمال وشرق سوريا، في ظل التصاعد المستمر للتوترات بين الطرفين.
ويعد الكرد، من خلال قيادتهم للإدارة الذاتية، حليفاً رئيسياً للتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة للحرب ضد تنظيم “داعش”، وركيزة مهمة لتحقيق الاستقرار في المنطقة، بينما تمثل تركيا، الحليف الأطلسي، مصالح أخرى عسكرية واقتصادية لواشنطن.
لكن التهديدات التركية المستمرة ل”لمشروع الكردي” في المنطقة تضع واشنطن أمام خيار صعب بين الحفاظ على تحالفها مع أنقرة، ودعم الكرد الشريك الوحيد على الأرض الذي يمتلك نفوذاً واسعاً ومتماسكاً في سوريا.
اضطراب في التوازن
أثبتت التجربة، منذ حرب كوباني 2014 وحتى الآن، أن الوجود الأميركي في شمال شرق سوريا لم يكن مجرد دعم عسكري لقوات سوريا الديمقراطية، بل امتد ليشمل مشاريع تنموية وسياسية لتعزيز الاستقرار.
إلا أن الحديث حول نية الولايات المتحدة الانسحاب من سوريا، يضع هذا النموذج أمام تحدٍّ جديد هو استغلال كل من تركيا وإيران الفراغ الحاصل لتعزيز نفوذيهما، وهو ما يتناقض مع أهداف واشنطن في منع التمدد الإيراني والحد من النفوذ التركي في المنطقة.
وبالالتفات إلى التطورات الأخيرة في الشرق الأوسط، وتصاعد الحرب في كل من قطاع غزة بفلسطين وبيروت والجنوب اللبناني، نجد أن انسحاب الولايات المتحدة من شمال شرق سوريا دون توفير بديل حقيقي لتحقيق الاستقرار، سيؤدي إلى نتائج تزيد تعقيد الأوضاع وقد تجلب نتائج كارثية على المنطقة وسكانها.
وفي الجانب الآخر، سيعتبر الكرد أن التخلي عنهم هو خيانة من حليفهم، مما يُضعف مصداقية واشنطن لدى باقي حلفائها، ويعطي رسالة سلبية مفادها أن الشراكات مع الولايات المتحدة غير مضمونة.
وبالنسبة لواشنطن التي كررت مراراً أن أولويتها في سوريا هي منع تنظيم “داعش” من الظهور مجدداً، فإن الانسحاب يفتح الباب على مصراعيه أمام عودة الجماعات المتطرفة للظهور.
وسيدفع تعزيز نفوذ القوى الإقليمية في غياب الدور الأميركي مباشرة نحو تدهور الاستقرار المحلي، فلا يمكن للبلاد تحمّل موجات نزوح جديدة، وسط أزمة لاجئين عالمية، وانسداد طرق الفرار من البلاد بعد التصعيد في لبنان والقيود التي تفرضها تركيا والدول المجاورة لسوريا على عبور اللاجئين.
كما أن انهيار التجربة الإدارية في شمال وشرق سوريا يضعف جهود بناء حل شامل في البلاد بعد تقويض تجربة حكم تعددي يضم مكونات مختلفة.
شروط نجاح
إن دعم واشنطن للحوار بين الكرد وتركيا ليس مجرد مسألة استراتيجية لحماية حلفائها، بل ضرورة لتحقيق استقرار إقليمي أوسع يضمن عدم الحاجة لتدخل جديد في المستقبل القريب.
وتمثل الظروف الحالية والتصريحات التركية حول الرغبة في حل ملف الصراع مع الكرد، ودعوات قائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، للحوار دون شروط مسبقة، مؤشرات على وجود فرصة حقيقية لتحقيق تفاهمات.
ولا شك أن دفع الطرفين لطاولة الحوار سيكون أسهل من ضمان اتفاقهما الذي سيحتاج رعاية دولية قد تكون واشنطن الخيار الأنسب لقيادتها وتوفير عوامل نجاحها.
فتركيا التي تصرّ أن الإدارة الذاتية التي يقودها الكرد تشكل خطراً على أمنها القومي، تحتاج ضمانات تطمئنها من عدم وجود تهديد لحدودها وأمنها، بينما يحتاج الكرد لأن تكون الشروط التركية منطقية وبعيدة عن فرض خيارات تعجيزية وتعسفية كتهجير الكرد أو إبقائه تحت قمع جهة لا تعترف بالحقوق والحريات.
ومن شأن تحفيز التعاون الاقتصادي والتجاري، كما حدث في العلاقة بين تركيا وإقليم كردستان العراق، أن يخلق آليات تعاون اقتصادي تساهم في بناء الثقة بين الطرفين.
كما أن إيجاد صيغة سياسية تحافظ على وحدة الأراضي السورية، وإشراك الفاعلين الإقليميين الآخرين، خاصةً روسيا وإيران، سيوفّر ضمانات لعدم عرقلة النظام في دمشق وداعميه أي اتفاق يتم التوصل إليه، إذ يمكن لتركيا توفير هذه العوامل عبر طاولة “أستانا”.
مصالح ما بعد الصراع
إذا كانت واشنطن جادة في تحقيق الاستقرار في سوريا، فإن دعمها للحوار الكردي-التركي يجب أن يكون جزءاً من رؤية أوسع للحل السياسي في سوريا. فالتجربة الكردية في شمال شرق سوريا، التي تعتمد على التعددية، تمثل حجر الأساس لنظام سياسي مستقر في سوريا بعد انتهاء الصراع. وعليه، فإن إقناع تركيا بقبول وجود هذا النموذج كجزء من الحل الشامل هو المفتاح.
في المقابل، إن أي دعم غير مشروط لتركيا في عملياتها العسكرية ضد الكرد لن يؤدي إلا إلى زعزعة الاستقرار على طول الحدود السورية-التركية، ما يفتح الباب أمام مزيد من الفوضى قد تمتد نتائجها إلى مناطق أخرى في الشرق الأوسط.
وتحتاج الولايات المتحدة إلى رؤية شاملة للحوار بين الكرد وتركيا، تستند إلى مصالح استراتيجية طويلة الأمد، تأخذ في الاعتبار حقوق الكرد، وتُقنع تركيا بأن الحوار هو الحل الأمثل لتحقيق أمنها القومي.
ومن مصلحة واشنطن تبني نهج متوازن يعزز شراكتها مع الكرد، ويُطمئن أنقرة بأن مشروع شمال شرق سوريا ليس تهديداً، بل فرصة لتحقيق استقرار دائم يخدم مصالح جميع الأطراف، ويجنّب المنطقة صراعاً آخر، ما سيضيف عامل استقرار في الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد الصراع السوري مع الحفاظ على مصالح واشنطن عبر حلفائها المتصالحين.[1]