في قلق الهوية #الإيزيد# ية
مقالات/هوشنك بروكا
الهستيريا والهستيريا المضادة التي اشتعلت في الآونة الأخيرة على جانبي الهوية الإيزيدية، هي هستيريا سياسية بإمتياز، سواء تلك المشحونة من “البطاريات القومجية” في بغداد، أو تلك المشحونة من “البطاريات القومجية” في أربيل.
“الشحن القومجي” على طرفي الهوية الإيزيدية، هو شحن أقل ما يمكن أن يقال فيه، شحن سياسي، له علاقة بالأزمة البنيوية في العلاقة بين شيوخ العاصمتين، أكثر من أن يكون له علاقة بالهوية الإيزيدية.
الإيزيديون وهويتهم، ههنا، في ظل هذا الشحن والشحن المضاد، ليسوا أكثر من “أداة” لإبتكار حجج وأزمات جديدة لإلهاء الإيزيديين بها أولاً، وشعوب المكانيَن بها تالياً. والنتيجة هي تفريخ المزيد من الأزمات و”تفريغ” مظلومية الإيزيديين كشعب يعيش تحت خطر الزوال، من محتواها الأساسي، والتي تعتبر الأفظع حتى الآن في هذا القرن.
سياسة “تصفير” الإيزيديين وتصفير وجودهم في العراق وحواليه، كما تمّ من قبل تصفير أقليات دينية وإثنية أخرى، هي سياسة قديمة جديدة، تشكل الأيديولوجيا القومية ظاهرها والآيديولوجيا الدينية باطنها.
عوداً إلى أصل المشكلة.
أصل الأزمة الأخيرة، أزمة الوجود الإيزيدي في العراقَين: عراق بغداد، وعراق أربيل، ظهر إلى العلن بعد الثالث من أغسطس 2014، إثر تعرض الإيزيديين لأبشع جينوسايد شهده القرن.
الجينوسايد حصل داخل حصون القومية الكردية، وتحت راية العلَم الكردي، والجيش الكردي، الذي تجاوز عدده ال12 ألفا بحسب المصادر الكردية نفسها.
حتى الثالث من أغسطس 2014، كانت الأغلبية الساحقة من الإيزيديين في العراق إيزيديون داخل “القومية الكردية” ومعها في السرّاء والضرّاء، من كردستان وإليها، لا بل أن الإيزيديين إلى حينه، كانوا الصندوق الأضمن لجميع انتخابات كردستان وأحزابها الحاكمة.
العرف الأممي يقول: حدوث اي كارثة طبيعية، أو غير طبيعية في ظل أي حكومة، في حال تقصيرها، تتحمّل الأخيرة تبعاتها.
حكومة كردستان، التي تركت الإيزيديين لمصيرهم في يد “داعش” وعدت بعد انسحاب كامل منظومتها الدفاعية، أكثر من مرّة، وعلى لسان أكثر من “مسؤول درجة أولى”، قائم على رأس هرمها الحاكم، الإيزيديين والعالم على الإعلام في حينه، ب”محاسبة جميع المسؤولين عن سقوط شنكال والمقصرّين وإحالتهم إلى المحاكم” لتحقيق العدالة. والسؤال المستمرّ ههنا، هو: ماذا كانت النتيجة بعد مرور ما يقارب عقد من الزمن على الجينوسايد: الجواب بالطبع، كما هو معروف لكردستان والعالم، هو صفر محاكمة وصفر اعتذار حتى الآن.
لا بل أن جميع المسؤولين عن حماية أمن ومال وأرض وعرض شنكال في حينه، تمّ ترقيتهم إلى مناصب أعلى.
مرّ الجينوسايد الإيزيدي وكأنه “كارثة طبيعية” من فعل الله: قضاء وقدر. إذن دعش قضاء من الله وقدره!
لا بل والأنكى، أن مسؤولين عن شنكال إبان سقوطها في قبضة “داعش”، محسوبين على دولة بارزاني، هم في النهار “قوميون أكراد”، وفي الليل داعشيون بإمتياز.
التاريخ يقول: الأخطاء توّلد في أحيان كثيرة، أخطاء مضادة، لتصبح الأخيرة “حقائق أمر واقع”.
هنا سأضرب مثالاً من التاريخ القريب، استشهدت به بُعيد الجينوسايد، قبل حوالي عشر سنوات، لتقريب الحالة الإيزيدية إلى فهم العقل الكردي وأهله في كردستان.
الزعيم الروحي للهند المهاتما غاندي (1869 1948) والذي يسمى بين قومه ب”القائد الأعظم”، وصديقه الزعيم الباكستاني محمد علي جناح (1876 1948)، الأب الروحي للأمة الباكستانية، كلاهما هنديان من قلب شبه القارة الهندية، ولدا على قلب هند واحدة.
كلاهما ينتميان إلى إقليم راجكوت الهندي؛ لغتهما واحدة: هي الكوجارتية؛ وقضيتهما إبان الإستعمار البريطاني كانت واحدة: تحرير الهند؛ وسياستهما لأجل القضية ذاتها، في حينها كانت سياسة واحدة: حزب المؤتمر.
ما الذي حوّل شريك غاندي في الهند الكبرى وقضيتها، محمد علي جناح من “زعيم هندي” مع غاندي إلى “زعيم باكستاني” بعكسه؟
الجواب على قضية معقدة كقضية باكستان الهندية بسيط جداً: الدين.
التيار القومي الهندوسي في أربعينيات القرن الماضي أعلن صراحةً أن “الهندوس هم ملاك الهند، والبارثيون واليهود هم ضيوفها، أما المسلمون والمسيحيون فهم لصوصها”.
التطرف الديني للأغلبية الهندوسية في الهند التي همّشت وجود الأقلية المسلمة كشريك لها في الهند ذاتها، والوجود ذاته، والأرض ذاتها، والتاريخ ذاته، والثقافة ذاتها، هو الذي أدى إلى بروز زعيم مسلم من قامة محمد علي جناح، كأب روحي ل”أمة جديدة”، لم تكن موجودة من قبل، جارة للأمة الهندية، هي الأمة الباكستانية.
تكاد باكستان تتشابه مع أمها الهند في كل شيء: في الأرض، في الثقافة، في التاريخ، في الإجتماع، في الإقتصاد والموارد. الإختلاف الأساس، الذي أدى إلى ولادة باكستان وإدارة ظهرها لأمها الهند، هو الدين.
تأسيس جناح ل”حزب الرابطة الإسلامية لعموم الهنديين” في الهند جاء رداً على تطرف الأغلبية الهندوسية ونزعة القومييين الهندوس للمساواة بين الهوية الهندية كأمة والهندوسية كدين، للدفاع عن الأقلية المسلمة في إطار الهند الواحدة. لكن النتيجة انتهت إلى “هندين”، أي تقسيم الهند وتأسيس دولة باكستان الوليدة عام 1947.
المقاربة ههنا، هي فقط، للإشارة إلى أنّ التاريخ شهد ولادة أقوام ودول، خارجة على “التعاريف السابقة”، على أساس الدين فقط، بسبب “تطرف الأغلبيات الدينية” من حولها.
قبل أربعينيات القرن الماضي، لم يكن هناك شيء اسمه “قومية” أو أمة باكستانية”.
قبل هذا التاريخ، لم يكن هناك “تعريف سابق” تُفصّل على مقاسه دولة اسمها باكستان، تجمع أمة اسمها “أمة باكستانية”.
على الرغم من تبني غاندي، كقائد للحركة القومية الهندية منذ عام 1920 وحتى الاستقلال، ل”مبدأ اللاعنف” طيلة تاريخه السياسي، ومحاولاته الدؤوبة لسد “الفجوة القومية” بين الهندوس والمسلمين؛ إلا أن النخب المسلمة في الهند شككت في سلوك غاندي القومي، الذي كان في نظر قادة “حزب الرابطة الإسلامية” في الهند، “قوميا هندوسياً”، يساوي، في قيامه وقعوده وسلوكياته السياسية، بين الهندوسية كدين والقومية الهندية كهوية جامعة لعموم الهند.
قامة فكرية وسياسية بحجم غاندي فشلت في إقناع الأغلبية الهندوسية التي ينتمي اليها، باحتواء الأقلية المسلمة كشريكة لها في الهند المكان والزمان والثقافة والإجتماع.
الدين، ههنا، كان له الكلمة الفصل في ولادة الأمة الباكستانية، وانفصال باكستان عن الهند.
في عام 1944 أرسل جناح رسالة إلى غاندي، يقول فيها بوضوح: “نحن نصر ونتمسك بأن يكون المسلمون والهندوس أمتين كبيرتين، وذلك طبقا لأي تعريف أو معيار للأمة”.
لم يؤسس جناح “الأمة الباكستانية” قياساً على أي تعريف سابق لها، وإنما أسس الأمة، وترك “التعريف” لأهل النظر، لتفصيله “طبقاً لأي معيار”.
جينوسايد الإيزيديين في شنكال، لم يكن سببه “داعش” كدولة إسلامية متحركة فقط، ولا الصراعات الإقليمية بين المحورين السني والشيعي فقط، ولا الصراع القومي والطائفي ما بين بغداد وأربيل فقط، وإنما الفضاء العمومي في شنكال وما حولها من الحواضن العربية والكردية المسلمة، لعب دوراً إضافياً كبيراً في فتح الطريق أمام داعش لتحقيق أهدافه.
الفضاء العام في كردستان العراق، في العقود الأربعة الأخيرة، تحوّل إلى فضاء ديني يعيش في الوراء أكثر من العيش في الأمام، فيه من “أمة محمد” أكثر من “أمة كردستان”، ومن دستور الله والقبيلة أكثر من دستور الشعب.
الفضاء العمومي في كردستان، هو فضاء ديني لا مدني، يخدم جماعات الإسلام السياسي و”الإسلام هو الحلّ”، ودولة الخلافة، أكثر من خدمته للدولة المدنية وثالوثها القيمي: حرية، عدالة، مساواة.
أما في بغداد، التي لم تعترف حتى اللحطة بجينوسايد الإيزيديين، لأسباب لها علاقة بالدين وبالسياسة في آن، فحدث ولا حرج. ليس الدين، بل الطائفة هي التي تحكم وتتحكم في كل مفاصل الدولة، لا بل في كلّ شيء، من البرلمان إلى غرفة النوم.
المشكلة؛ مشكلة الشعوب مع الأديان، ليست في الدين، بوصفه شأناً خاصاً، كدين للفرد، وإنما المشكلة تكمن في الدين، بوصفه شأنا عاماً، كدين للجماعة.
عندما يصبخ “كتاب الله”، أيا كان هذا الكتاب، مبدأ أساسياً للتشريع، كما يقول دستور العراقَين: عراق بغداد وعراق أربيل، حينها يصبح الله هو المشرّع الأول والأخير للقانون، وتصبح الدولة دولته، والقوم قومه، والحكومة خكومته، والبرلمان برلمانه، والقضاء قضاءه، والإعلام إعلامه.
لا شكّ أن الإيزيديين شعب قلق: هويتهم القلقة، سببها الأساس هو الإحساس بوجودهم القلق المتأرجح بين عاصمتين قلقتين أو مكانين قلقين: بغداد وأربيل.
الإيزيديون يعيشون الآن أصعب مراحل وجودهم القلق في هويتهم القلقة.
تلك هي النتيجة، ولكن ماذا عن الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة، التي أوصل بأهلها إلى ما هم عليه الآن؟
إقامة نصب تذكاري لمجرم حرب مثل ميري كوره المعروف بالأمير الأعور (1775 1836) في قلب كردستان، والإحتفاء به في التاريخ الكردي والمناهج الدراسية، ك”أمير كردستان”، و”رمز وزعيم كردي عظيم”، الذي أباد ما يقارب المئة ألف من الإيزيديين وعشرات الآلاف من المسيحيين والأقليات الأخرى، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، تخت راية الإسلام والباب العالي، يختصر تاريخاً كاملاً من القلق الهووي للإيزيديين: قلق الوجود وقلق الهوية على أرضهم التاريخية كردستان، التي ولدوا عليها كثيرا، وماتوا عليها ولأجلها كثيراً.[1]