مقاومة العصر مقاومة المرأة الحرة… مقاومة العصر مقاومة من أجل الإنسانية
عفرين إلهة بتول حافظت على عذريتها طيلة أعوام مؤلفة، وكما أتى في سرد المحور السابق أسباب اتخاذ تركيا قرار اجتياح عفرين واحتلالها، لذلك لن نتطرق إلى ماهية الأسباب بل سنحاول الوقوف عند مقاومة العصر التي استمدت قوتها من جذور شجرة الزيتون، تلك الشجرة المُعمِّرة التي لطالما كانت ملتحمة مع تراب عفرين، بل نستطيع أن نقول كانت جسداً متكاملاً لا ينفصل عن بعضه البعض، وخير ما نبدأ به كلامنا عن تلك المقاومة التي تم اتخاذ قرارها من قِبل القوى العسكرية للإدارة الذاتية والشعب الذي أكد على أنه قلباً وقالَباً مع هذه القوى التي تحارب وتقف أمام داعش.
تلك القوى الظلامية السلفية التي اتخذت القرار بترسيخ مفاهيم وبناء دولتها في الشرق الأوسط وخاصة من خلال استغلال الوضع في سوريا، هذه القوى التي كانت داعمتها الأساسية “تركيا” والتي اتخذت من احتلال عفرين قرار الانتقام لداعش تزامناً مع اسقاط عاصمة الخلافة الداعشية في الرقة.
حلقت فوق سماء عفرين التي لا تتجاوز جغرافيتها 3800 كم²- 72 طائرة حربية، من هنا نؤكد على أن ملحمة عفرين التي خاضها شعبها وأبناءها هي حرب ومقاومة العصر، حيث أثرت هذه الحرب بشكل كبير على #الشعب الكردي# خصوصاً والشعوب التواقة للحرية فقوّت روح اليقظة وأكسبتها الروح الوطنية المتمددة، وساهمت في تطور الحرب الثورية للشعب.
قرار الدفاع الذاتي المشروع الذي نبع من روح المقاومة والحرية، وأعلنوا للجميع بأنه ليس من السهولة فرض الاستسلام، لأنها عاشت الحرية، فكان هناك حالة انسجام متين ومترابط بين مكونات الشعب.
حامت فوق سماء عفرين طائرات من أكثر الأنواع تطوراً؛ عندما نعود بالذاكرة إلى تلك اللحظات يخطر ببال المرء بأنه من الوهلة الأولى تركيا كانت مصرَّة على تدمير تلك المدينة الحسناء المخملية على البقعة التي لطالما ارتوت وروت أرضها من /عرق الكدح/. كانت الأصوات مدوية وألسنة اللهب والنيران تتصاعد، وكانت تتجاوز كل معاني الكلمات في وحشيتها لدرجة أن براعم الحياة “الأطفال” الذين لم تنمو أظافرهم بعد كانوا في صعقة وكان هناك سُباتٌ في المحيط.
القرار المصيري الواحد؛ ولكن ذو جوانب متفرعة “القوة العسكرية، الشعب، قرار الدفاع والمقاومة التي أذهلت العالم الأصم والأبكم طيلة ثمانية وخمسين يوماً، كانت تُسطّر بأحرف من دماء زكية على الأرض المقدسة، هامات تنحني أمامها جبال العالم قاطبة، مقاومةٌ يَعجَزُ اليراعُ أو أوراق الدنيا إعطاءها حقها.
يقوم معنى المقاومة على فرق القوة وتعريفها، هو مواجهة الخطر أو العدو والثبات وعدم الاستسلام له، رغم السيطرة الجزئية أو الكلية على ميدان القتال في الثماني والخمسين يوماً، ظهرت القوة المكنونة داخل المجتمع العفريني بل استطاع أن يحقق مفهوم الشعب الثوري الذي يناضل على كافة الأصعدة.
الساحة العسكرية التي كانت تتصدى للغزو الذي كان مدعوماً بأكثر الأسلحة تطوراً عالمياً، فأسلحة الناتو التي لم تستخدم في أي حرب تم استخدامها.
أفستا فتاة عين دارة ابنة الوجود والبقاء التي تصدت بجسدها المدرعات التركية المدججة بالسلاح أعادت الروح إلى آلهات الدنيا ولقنت العدو المتربص بها درساً في ذاكرتهم المتشرذمة.
من هنا ظهرت فيديوهات لهم في التمثيل بجثة القديسة “بارين كوباني” التي كانت قد ناضلت حتى الرمق الأخير، فهم أرادوا الانتقام من سابقتها أفستا وبارين اللتان بأبدانهن فجَّرتا في الإنسانية معادلة البقاء.
ما هو الجدير بالذكر أيضاً عمل الكومينات التي كانت على قدم وساق لاستقبال الوفود من القرى الحدودية التي كانت قد دُمرت من قِبل مرتزقة الاحتلال التركي.
بالفعل في تلك المقاومة استطعنا فهم ماهية الكومينات ودورها الفعال في العمل البنّاء، فلا تستطيع ذاكرة الجسد نسيان دورها في إرساء الأمن والأمان وتوطين من كانوا قد لجأوا إلى مركز المدينة هيهات.
في شخصية “الشهيدة مزكين” قوات الحماية الجوهرية تلك اللبوات اللواتي كنَّ فدائيات للدفاع عن الأرض والوطن, لم يكن أقل وجود وتواجد في ساحات القتال صيحاتهم وأصواتهم التي تخترق الروح، لا يستطيع المرء نسيانهم، عندما كانت الطائرات التركية تقصف المدنيين وترتكب أفظع الجرائم في الإنسانية، فهنَّ كنَّ المسعفات وملائكة الرحمة على الأرض المقدسة، “صور المشفى والأسرّة الملطخة بدماء الأطفال والأمهات لا تفارق الأذهان ولو لبرهة.
ذاك المشفى الذي لم يُستثنَ من القصف التركي الهمجي فهو أيضاً كان هدف لطائراته الحربية، وهذا إن دل على شيء؛ فإنه يدل على قرار تركيا في إبادة المجتمع العفريني؛ رغم ذلك كانت عفرين مكان يقصده كل شعوب شمال وشرق سوريا، وحتى وفود لبنان وفلسطين ونساء باشور كردستان؛ باشور التي التزمت حكومتها الصمت أمام إرضاء الطرف التركي على حساب الشعب الكردي، لذلك عفرين كانت الصورة المتلاحمة لفلسفة أخوة الشعوب، فالوفد الذي تم استهدافه في ناحية شيراوا عند قدومه لم يكن إلّا لكسر عزيمة الشعوب التي أصرّت حتى وصلت إلى قلب عفرين، بعدما قدَّم شهيداً عربياً وجرحى من كافة الأعمار.
ربما يعجز حبر قلمي وتهجرني أفكاري في لحظة الكتابة، لكن اختلاجات الروح ومصطبة الذاكرة تعج بالهواجس والأحداث.
عفرين يا من كنتِ إلهة عذراءْ، ولكن رغم الاغتصاب حافظتِ على عذريتكِ، فأنتِ عاشقة كل عاشق يبحث عن معشوقة، عشق الوجود يمر عبر عشقكِ، عفرين التي احتضنت صاحب الوجه الوسيم والروح المَرِحة الذكية، فمن عرف عفرين لا بد أن يمُرَّ في ذاكرته الشهيد (كاركر أيريش) الذي قال بأن حرب (YPG-YPJ) حرب ذهنية، حرب وجود وبقاء، لذلك طوبى لهذه الأرض المباركة وتلك الأم التي قالت في مراسيم ابنها الشهيد الثاني:
أستطيع العيش دون فلذة كبدي، ولكن لا أستطيع العيش دون كرامة؛ لذلك كنِّتي بمقاومة العصر.
بعد انتهاء شباط وبداية آذار بدأت الدولة التركية باستهداف المدينة المكتظة بالمدنيين الذين لا ذنب لهم سوى أنهم عفرينيون.
وتزامن ذلك تحديداً مع 8(آذار يوم المرأة), وتركيا كان عملها في الاجتياح الممنهج, فهي عن دراية بدأت بالقصف داخل المدينة, لكسر إرادة المرأة بالدرجة الأولى, لأن عفرين كانت مقاطعة المرأة بامتياز, فهي التي كانت تدير دفة القيادة من أكبر خلية حتى أصغرها.
وفي يومي الرابع عشر والخامس عشر من آذار تم قصف مركز المدينة دون هوادة, وارتُكبت أفظع المجازر, ومجزرة المحمودية في يوم 16 آذار خير دليل على الوحشية, ومن هنا كان قرار الإدارة الذاتية بالانسحاب المؤقت من الأرض المباركة لوقف سيلان دماء المدنيين.
في أزقة الطرق امتلأت الساحات بصرخات 8 آذار, وكانت لوحة الفسيفساء التي بلورت اتحاد المرأة الروحاني, وتحديداً عند دوار نوروز عندما انطلقت المسيرة المهيبة تعبيراً عن الإصرار في الدفاع والاستماتة لأجل البقاء بكرامة, وعنفوان المرأة التي استطاعت البحث عن ذاتها في فلسفة وأيديولوجية تشبعت منها.
وفي المساء كانت العملية الفدائية للشهيد إيلان ضد الرُّعاع من البشر, والذي وجه رسالة إلى أمِّهِ التي أرضعته حب الوطن وعشق الحرية وإصراره على البحث عن ذاته, وتلقِين الموت درس الحياة, وتعليمه سبل الحياة الحرة, هنا تكمن الديمومة الأبدية, فهم من كانوا ملاحم لم تُعش أبداً.
للتوكيد أكرر: إن بحور الكلمات والمفردات والمعاجم ومصطلحات اللغات, تقف عاجزة عن إعطاء حق التعبير عن أيام اُضنيت واُتعبت كاهلها بثقل صمتٍ عم العالم أمام هكذا انتهاكات.
والرحيل لعودة متأكدين منها إلى مقاطعة الشهباء التي كانت قد نالت نصيبها من رجس المرتزقة, وكانت قد حُررت من قِبل وحدات حماية المرأة والشعب, هو قرار كان صعباً على الإدارة الذاتية التي استطاعت طيلة أعوام عملها إثبات نفسها وبجدارة أنها قيادة تعمل على الاكتفاء الذاتي رغم الحصار الخانق على إقليم عفرين, وكانت النموذج الحي للتطور العمراني والصناعي والتجاري, ناهيك عن أنها كانت منطقة زراعية بامتياز.
قبل الانتهاء من سردنا الذي لطالما سيبقى قليل الإفادة عن إعطاء المعنى لتلك الملحمة التي طالما كنا قد سمعنا عن أساطير سواء كانت خَيَال أو واقع, ولكن تلك الملحمة المُغنَّاة على شِفَاهِ الشعوب التي ترسخت في داخلها مفهوم المشروع الديمقراطي الذي تُعتبر تركيا العدو الأول له.
لذلك عفرين لها أصحابها, فالمقاومة التي دخلت المرحلة الثانية مستمرة وبإصرار, والآن عفرين باتت كابوساً على من دخلها عُنوة وانتهكها.
لماذا نحن أكدنا على أن الشعب تلاحم مع أبنائه في الجبهات؟
فالشعب الذي حوّل نفسه إلى دروع بشرية ووقف خلف أبنائه كأشجار سنديان صلبة راسخة جذورها في باطن الأرض, وتلك الأمهات اللواتي كُنَّ مستنفرات في بيوتٍ حوَّلنَها إلى مطابخ كي يُطعمنَ أبناءهُنَّ في الجبهات الأمامية وهُنَّ يُغنينَ بأنين بأسماء أبنائهن وهنّ على قناعة وإدراك بأنهم على طريق الشهادة, لأن كافة النساء توَحَّدن كعائلة لدرجة لم نعد نميز مَن ابنَ مَن وهي أمٌ لِمَن؟.
في نهاية المطاف لا يسعُنِي القول سوى بأن أنشودة المطر (هيلين قره جوخ) التي أيضاً كانت من عظيمات المقاومة في عفرين واحدة بين نساء العالم قاطبة لتؤكد بأن المرأة الحرة استطاعت أن تتواجد في أية جغرافيا فقط للدفاع عن وجودها كجنس والوقوف أمام المشاريع التي تستهدف المرأة ككيان.
كما انتصرت كوباني وقاومت شنكال, عفرين تم اغتصابها من الناحية الجغرافية, ولكنها استطاعت قلب الموازين, فمقاومتها فاقت التوقعات, فهي التي جعلت تركيا تُستنزف في اقتصادها, واستخدمت السياسة الترقيعية في الانتخابات المبكرة, وما زالت المقاومة الداخلية مستمرة على يد وحدات حماية الشعب والمرأة, والشعب الذي نزح بضع عشرات الكيلومترات عن الوطن الأم, ونظّم نفسه وصفوفه وإدارته مرة أخرى في مخيمات المقاومة رغم الظروف المعيشية الصعبة, بل ربما تتجاوز في معناها كلمة الصعبة من الناحية الحياتية, لكنهم مفعمون بإرادة المقاومة المستمرة التي ستحرر عفرين بروح كونفرانس تحرير عفرين, وما تمخض عنه من قرارات.
نعم أول ما دخلت جحافلهم عفرين كانوا قد أسقطوا تمثال كاوا الذي هو رمز الوجود الكردي المُقاوم أمام سلطة الاضطهاد والقمع؛ فَهُمُ الذين تم مقايضتهم من قبل الدولة التركية دائماً كما تم مقايضتهم في حلب والغوطة سيتم مقايضتهم مرة أخرى وستعود عفرين عاجلاً أم آجلاً إلى أصحابها الذين عشقوها حتى الهُيام.
إن مدينة عفرين وعبر تاريخها الطويل كانت دائماً أيقونة المقاومة التي بلغت أوجها في المقاومة التي استبسلتها أمام المحتل التركي.
المرء لا يستطيع نسيان تلك الصورة التي تقشعر لها الأبدان ولم تُحرك وجدان العالم الذي لبِسَ العُهرَ ولزم السكون أمام طوابير البشر التي صعدت عبر جبل الأحلام، ذاك الجبل الذي لطالما عُرِفَ بمكان الاستجمام بل أصبح طريق اللانهاية لأحلام شعب اختار النضال وعدم الخنوع، شعب استنبطَ قوتَهُ من عمق أرضه وطَورِ فكرِهِ، وخلق حياة من جديد على أرض الشهباء الذي خلق العشق الأزلي لعودة الوطن وترابها وحجارتها التي طهرتها حكايات دماء على مذبح الحرية.
ربما هنا وفي هذا التاريخ تحديداً وهذا اليوم بداية النزوح وقرار الخروج، منعاً لإبادات ممنهجة تركيا خططت لها.
عفرين قلب روج آفا وشريان سوريا الذي يضخ الدم والذي نبض مع دقات قلب العم يوسف فوق صخور بلبله التي لطالما احتضنت السباع التي لا تنحني.
من المسلمات أن نقول هي الآن محتلة ولكن هي لها أصحابها الذين يستمرون في نضال تحر يرها وعودتها إلى شعبها فهي لنا ونحن لها ولن نقبل بغير ذلك.
طوبى لكِ يا أرضَ الحريةِ طُوبى لأمهاتكِ اللواتي أرضعنَ أبناءهُنَّ عشق الوطن طوبى لفتياتٍ صنَعنَ من جدائلهنَّ قِلاعاً محصنةً طوبى لشعبٍ خلقَ من العدمِ حياةْ
طوبى اسم /سردم/ لكِ
عاشت مقاومة العصر.[1]