سياسات الدول العظمى بين التوافق والتنافر
حول النقاش المتعلق بالدستور السوري
منذ أن وُجِدَتْ نزعة احتكار السلطة والثروة في المجتمع البشري ترافقت بطبيعة هذه النزعة أشكال الصراع أيضاً بين قوى الاحتكار بأشكال مختلفة، فقد كان ساخناً على شكل حروب طاحنة، أو بارداً أحياناً أخرى على شكل تنافس اقتصادي أو مناطق نفوذ لتأمين أو ترسيخ احتكاراتها. فاحتكار السلطة الذي بدأ باستعباد المرأة توسع ليشمل مجتمعاً بالكامل، ونظراً لنزعة الاحتكار التي لا تعرف الحدود، بدأ المتسلطون على مجتمع ما يحاولون توسيع احتكاراتهم إلى المجتمعات المجاورة، وهكذا بدأت الحروب بين احتكارات السلطة المتحكمة في المجتمعات المختلفة منذ العصر السومري ودويلات المدن، بالإضافة إلى الغزوات والهجرات لأسباب كثيرة.
ما يجدر ملاحظته هو أن النزاعات والتنافس حاصل بين الاحتكارات المتحكمة بالمجتمعات، وليس المجتمعات والشعوب نفسها، فالزمرة أو النخبة المحتكرة للسلطة والثروة في أي مجتمع تحاول توسيع احتكارها فتخوض النزاعات والحروب لهذه الغاية ولا شك أن المجتمعات والشعوب هي المتضررة من كل ذلك، فأبناؤهم هم الجنود ووقود حروب احتكارات السلطة والثروة، وإذا اندلعت الحروب فمنازل ومنشآت المجتمع هي التي تتعرض للدمار. هذا ما جرى في عصور الإقطاعية ثم في العصر الرأسمالي، وبقيت هذه القاعدة صحيحة سارية حتى تأسيس الدولة القومية المستمرة إلى يومنا الراهن.
مع تطور العلوم ووسائل الإنتاج تطورت أدوات ووسائل الحروب أيضاً، وكل طرف يخوض حرباً يتعرض للخسائر سواء أكان غالباً أو مغلوباً، وللبشرية دروس من تاريخ حروبها المدمرة وخاصة الحربان المدمرتان الأولى والثانية، حيث عشرات الملايين من الضحايا، ومع تطور أسلحة الدمار الشامل بات مصير البشرية مهدداً، ولهذا أصبحت الأطراف المتنازعة تتجنب الانزلاق إلى الحروب قدر الإمكان لِمَا لها من أبعاد كارثية على أهل الاحتكارات وعلى المجتمعات، ولهذا يبقى على القوى المتنافسة إمَّا أن تخوض حروباً بالوكالة وعلى نطاق ضيق تستطيع الأطراف التحكم بها كما يحدث في الشرق الأوسط حالياً، أو تمارس سياسات الشدِّ والجذبِ في حسابات استراتيجية طويلة المدى أو تكتيكية قصيرة الأمد، فتتوافق أحياناً أو تتنافر أحياناً أخرى في حساب توازنات ومعادلات معقَّدة وربما مقايضات تتقاسم بموجبها مناطق النفوذ والموارد.
في عصرنا الراهن حيث تتحكم قوى الحداثة الرأسمالية واحتكاراتها ووسائلها المتمثلة في الرأسمال المالي وأدواتها المتمثلة في البنوك والصناديق المالية، باتت الأمور أكثر تعقيداً؛ فحتى الاحتكارات لم تَعُدْ ذات ملامح وهوية واضحة في شكل دولة أو شركات عابرة للقارات، بل حتى الدول بجيوشها ومنظماتها باتت أدوات لتحقيق أهداف قوى الهيمنة. ولنأخذ قطاع أو احتكارات الصناعات الحربية مثلاً، شركات معدودة تتبنى هذه الصناعات ولكن تلك الشركات عالمية وكبيرة فطائرة إف 35 التي يكثر الحديث عنها في يومنا تُصنَّع قِطَعُها في عَشْرِ دُول. وكذلك الدول الإسكندنافية الأكثر سلمية والأكثر ديموقراطية تَصنَعُ أفتك أنواع الأسلحة. وحتى تتمكن تلك الاحتكارات من تشغيل منشآتها ومصانعها هي تحتاج إلى نزاعات وحروب لتكون أسواقاً لترويج وبيع منتجاتها، وهذا الأمر يسري على شركات البترول والطاقة النووية ومختلف القطاعات الأخرى من أدوات إلكترونية وكهربائية وكثير من الصناعات الأخرى.
للأسباب الآنفة الذكر يجب أن لا نستغرب عندما تقول حكومة الولايات المتحدة : نحن موجودون في المنطقة من أجل الحفاظ على أمننا القومي أو الوطني بينما تلك البقعة تبتعد عنها عشرات الآلاف من الكيلومترات، وفي الحقيقة هي أنهم يحمُونَ مصالح احتكاراتهم سواء كمواد خام أو لتسويق منتجاتهم، وبما أن لكل دولة عُظمى احتكاراتها ومنظوماتها الاحتكارية ولا تريد الدخول في حروب تقضي على الأخضر واليابس، فلا بد أن تدخل في مساومات ومقايضات أو حتى في حروب بالوكالة للحفاظ على احتكاراتها. وآخر ما تفكر فيه تلك القوى هو مصالح الشعوب وأمنها القومي.[1]