ما بين الرهان والارتهان؛ الحالة السورية نموذجاً
تغيرت نظرة المجتمع للعديد من المفاهيم التي كانت تعد تابوهات مقدسة تم العمل عليها من قبل الأنظمة الحاكمة في منطقة الشرق الأوسط؛ وسيقت على أنها البديل الأمثل لحالة الاحتلال المباشر في بداية القرن العشرين. ومع انسحاب الجيوش المستعمرة من المنطقة دخلت الدول التي رُسمت حدودها تماشياً مع مصالح الدول المنتدبة في حالة فراغ وتخبط نتج عنها أنظمة مستبدة وفاسدة انتشرت في المنطقة بشكل عام. ولم تستطع – تلك الدول- الوصول الى أنظمة ديمقراطية رغم أن أغلبها استخدمت هذا المصطلح لكنها لم تعمل به. ومن أبرز المفاهيم التي تم النسج عليه واستغلاله هو “مفهوم الدولة القومية” الذي تم البناء عليه والتمترس خلفه من خلال إيجاد عدو مختلف قوميا. ولم تقف الأمور عند هذا الحد بل تنوع التمترس ليشمل الدين والطائفة ويتعداها الى المذاهب داخل كل طائفة؛ أي تم إيجاد صيغ تفرز حالة عدم استقرار لدى جمهور كل ملّة ومذهب وقوم؛ والتوجس من الآخر المختلف. وبات الوصول إلى السلطة هدفاً لكل طرف للحفاظ على الذات المتوهمة التي تم إنتاجها في ظل الدولة القوموية، وبات الاختلاف الذي من المفترض أن يعني التنوع؛ الخلاف بعينه. فلون البشرة واللسان والزّي يدق لدى الآخر ناقوس الخطر والاحتراس، هذا الداء أقصى لعقود طويلة الجانب الإنساني والعوامل المشتركة بين شعوب المنطقة كبشر يعيشون على كوكب واحد.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هل لازال ذلك المفهوم محافظاً على مكانته ويمكنه جذب الشعوب حوله؟.
إن التشخيص الدقيق لهذه الحالة يستوجب الفصل بين أمرين، أولهما الآثار التي تركها غائرة في فكر ووجدان الشعوب التي عانت من الاستعمار وأرادت الخلاص من خلال دولة وطنية؛ ولا زالت تمثل هدفاً يشد الألباب. والأمر الثاني هو الأثر الذي تركته الأنظمة المستبدة والفاسدة في وجدان شعوبها التي باتت تتوق إلى الخلاص منها. وعليه نرى بأن أزمة النظام العالمي الذي يتجه إلى التغيير مع استعصاء الأنظمة القوموية وعدم قدرتها على التماشي مع متطلبات التغيير، بالإضافة الى توق الشعوب للعيش في ظل أنظمة ديمقراطية وعادلة كلها أسباب أدت إلى تصدع مفهوم الدولة القوموية وبشكل خاص مع وجود أقوام لم تستطع إيجاد صيغ توحيدية رغم عيشهم في دولة متقاربة جغرافياً وثقافياً كالدول العربية، وبدأ التضخم في الذات القومية بالفتور والهبوط في ظل أنظمة فاسدة ومستبدة لتترك للعقل بدل العاطفة تقييم مدى صوابية هذا المفهوم. فلم يعد مثلاً الصراع العربي الإسرائيلي من أولويات المواطن العربي الذي أنهكته الأوضاع المزرية التي يعيشها ويبحث عن مخرج لأزماته، فالاعتراف بالقدس الغربية عاصمة لإسرائيل، واعترف ترامب بسيادة إسرائيل على الجولان لم يكن مطروحاً سابقاً بينما الآن يتم وبلا رد فعل قوي، والسبب يعود لحالة الانهاك التي تعيشها الشعوب وسعيها للخلاص من حالة الفوضى التي وصلت لها بعد أن كانت تحلم بتغييرٍ ينقلها للأفضل؛ فيما كشفت أيضاً مدى الاستغلال الذي كانت تقوم به الأنظمة تحت ستار مشاريع قومية لم تستطع الحفاظ على خطوط حمراء رسمتها باتت تُنتهك بين الحين والحين.
ففي سوريا التي دخلت نفقاً مظلماً ولم تستطع إلى الآن الخروج منه، يعود السبب الرئيسي إلى ذلك رهان النظام على سقوط شعبه وبقائه هو، ولأجل ذلك ارتهن للخارج وأفرغ مفهوم السيادة من محتواه؛ فلم يعد صاحب القرار في سوريا وأصبح للنفوذ الإيراني والروسي القول الفصل، وباتت دَفَّة القيادة خارجة عن السيطرة، وكِلا البلدين يصرحونها علنا “لولا تدخلنا لانهار النظام”. هذه المقولة مكلفة جداً بالنسبة للنظام ولسوريا بحيث لا يستطيع الاعتراض على أي ملف سواء أكان اقتصادي أم سياسي وحتى إدارة الحرب. فالإنهاك الذي طال النظام بات يحشره في زاوية لم يعد بمقدوره المقاومة أو الرفض لأنه أضحى جزءاً مرتبطاً بحلفائه ويتأثر بهم؛ فالعقوبات الأمريكية على إيران انعكست بشكل مباشر على النظام، لماذا؟. لأن حالة الترابط بينهم وصلت لحد لم يعد من الممكن الفصل بينهما.
وفي الطرف المقابل تحت شعار المعارضة تطور على الأرض السورية مزيج رهيب من الحركات المتطرفة الإرهابية كداعش التي كانت من إفرازات الأزمة العراقية والسورية معاً، كما وَجَدت أغلب الفصائل ذات التوجه المتطرف الأرض السورية بمثابة بيئة مناسبة لكي تتكاثر عليها ويسيل لعابهم للانقضاض على الفريسة السورية بوجود حدود مفتوحة أمامهم وتسهيلات تُقدَّم من الجانب التركي؛ بذلك تحولت سوريا إلى ساحة صراع للأجندات الإقليمية والدولية ساعدت في تعميق الأزمة وضرب الآمال التي كانت معقودة على ثورة تم وأدها والالتفاف عليها، ولم تكن – المعارضة- أحسن حالاً من النظام، وخروجها على الرُّعاةِ أو ممارستها بعضاً من الاستقلالية أدت إلى فشلها في أغلب الحالات وتناثرها خارج البلاد لتفسح المجال أمام المتطرفين والإرهابيين ليتحكموا بمصير البلاد.
هذه الحالة أوجدت ارتياحاً لدى كافة الأطراف الإقليمية والدولية لكي تكون سوريا قبلة للإرهابيين وساحة للصراع والاستنزاف، ولا يبقى أي طرف قادرٌ على الصمود لوحده إلّا بمساعدة جهة أخرى، وإذا نظرنا إلى الأحداث في سوريا واليمن وليبيا نراها متشابهة من حيث انسداد آفاق الحل واستنزاف الموارد البشرية والمادية.
لم يجتمع النظام، والفصائل المتطرفة تحت ستار المعارضة إلّا على أمرٍ واحدٍ أَلَا وهو العداء للإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، لكن لماذا هذا العداء المشترك؟. السبب يعود إلى حالة الارتهان وربط المصير بالخارج، ومن هنا يمكننا معرفة سبب فشل المفاوضات بين النظام والإدارة الذاتية رغم الدعوات المتكررة والتقدم بمبادرات للوصول إلى حلول من قبل الإدارة الذاتية؛ فالإدارة الذاتية كانت دائماً حساسة تجاه المحافظة على البعد الوطني في تعاطيها مع الأزمة السورية، ووضعت هدفاً استراتيجياً لها يتمثل في مدِّ جِسُورِ التواصل مع المعارضة الديمقراطية والرافضة للعنف والتطرف؛ كما كانت مستعدة دائماً للجلوس مع النظام والتفاوض من أجل إنهاءِ حالةِ الصِّراعِ والأزمة التي تنعكس بشكل سلبي على المجتمع السوري عموماً، ولم تهمل الجانب الاجتماعي الهادف إلى التقريب بين المكونات الاجتماعية داخل مناطق الإدارة الذاتية؛ بل كانت تسعى دائماً إلى التواصل مع المكونات الاجتماعية في المناطق الأخرى من سوريا.
هذا المسار لازال قائماً إلى اليوم رغم التشويه الحاصل والهادف إلى العزف على وَتَرِ ارتباط الإدارة الذاتية بأمريكا، وإن كانَ ما يدَّعُونَ صحيحاً؛ فهلْ يمكن لإدارةٍ ذاتيةٍ مرتبطةٍ بأمريكا –”كما يدعون”- أن تتفاوض مع نظامٍ وأمريكا على عداء معه وتريد تغييره ؟؟!! والمفارقة أن الإدارة الذاتية تتقدم بمبادرات بينما النظام يتهرب، فأيهما يتراجع ويخضع للإملاءات الخارجية؟؟!!.
إن حالة التأزم وانعدام الحل يبدو أنها مرتبطة بالإرادة؛ فلا توجد إرادة للحل لدى الأطراف المتصارعة على الساحة السورية، والدلائل تشير إلى أن موجة العنف المتصاعدة ستستمر، وستكون المواجهات والميدان هما طاولة التفاوض بين الأطراف، وسيبقى الشعب السوري يدفع ثمن هذا الارتهان.
إن الراهن الوحيد الذي يمكن التعويل عليه في النموذج السوري؛ هو الاستفادة من المناخ المُهيَّأ في مناطق الإدارة الذاتية والتوجه صوب هذا الجزء من الوطن السوري من قبل كل جهة معارضة أو حركة اجتماعية ترغب في وضعِ حدٍّ لهذا الانحدار نحو الهاوية، والتأسيس لمنظومة سياسية جامعة تسعى إلى الخروج من الأزمة وليس إدامتها؛ بذلك يمكننا خلق مسار آخر يمكن له أن يثمر عن نتائج لم تستطع المؤتمرات الدولية التقدم من خلالها.
إنَّ مفهوم التعصب لقوم أو ملّة أو مذهب تجاوزه الزمن، وإنْ بقينا ننظر للخلف ونتمسك بالأحقاد لن نجني سوى المزيد من الدمار والخراب، وقد بات من الضروري تجاوز التابوهات المفروضة علينا؛ لأنه سيمثل “أي تجاوز التابوهات” ترياق لحالة الارتهان التي باتت تُشرعَن بفتاوى سلطوية قابضة على صولجان الحكم. فالأزمة أو الضياع دخل مرحلة مصيرية وتأثيراته ستمتد لعقود وأجيال إنْ لم تتم المعالجة.[1]