رسائل أمل لمنطقة ملتهبة .. وضرورة الخط الثالث
مع انهيار الاتحاد السوفياتي والدخول في أزمة بنيوية منتجة للمشاكل والقضايا خلال تسعينيات القرن المنصرم، عصفت بمنطقة الشرق الأوسط منذ أحداث #11-09-2001# أزمة لازالت مستمرة وتتصاعد حدتها بشكل متزايد؛ مُحدثة شرخاً كبيراً في البنية الاجتماعية للمنطقة تاركة إياها منهكة غير قادرة على النهوض في هذه المرحلة الحساسة التي تحدد مستقبلها، والصراع الدائر في تركيا يمثل نموذجاً لما تشهده دول المنطقة وإن كان بوتيرة أشد وطأة بسبب طبيعة الحكم والميراث السلطوي والبيئة الاجتماعية والموقع الجغرافي؛ فالصراع في تركيا يمكن تشخصيه منذ إعلان الجمهورية بأنه بين تيارات متعصبة قومياً ولكل منها لباسها الخاص، كما يمكن تقسيم حكم الجمهورية التركية إلى مرحلتين منذ نشأتها على يد مؤسسها كمال أتاتورك عام 1923. مرحلة حكم حزب الشعب الجمهوري CHP، ومرحلة حكم حزب العدالة والتنمية AKP. وما يجمع المرحلتين (الدكتاتورية البيضاء والدكتاتورية الخضراء) هو إقامة نظام دكتاتوري أوليغارشي قوموي، وتضخيم النزعة القومية التركية والعداء للكرد والشعوب الأخرى في منطقة الشرق الأوسط، ويمكن أن نرى التوافق الضمني بين أركان النظام القديم المرهق والمنهك، ونظام حزب العدالة والتنمية من خلال فتح طرق الحكم له كثمرة طبيعية للتعاون فيما بينهم. وقد شخص القائد أوجلان هذه الحالة من خلال مقارنة البدايات بين حزب الشعب الجمهوري وحزب العدالة والتنمية؛ حيث قال إن “السنوات الثمانية الأولى من سلطة AKP شبيهة للغاية بالسنوات الثمانية الأولى من سلطة CHP (1923 – 1931). فنظام الحزب الواحد طاغٍ في كليهما. هذا وترجح كفة احتمال تكثيف AKP أيضاً من طابعه الديكتاتوري وتعزيزه بدستوره اعتباراً من انتخابات 2011، وهو أمر شديد الشبه بوضع هتلر بعد انتخابات 1933”.
لفهم واقعنا اليوم يجب أن نعود إلى التاريخ لنستخلص منه العِبر هذه هي الرسالة التي أراد القائد أوجلان ايصالها من خلال رسالته الأخيرة في 18 حزيران، والتي فسرت من قبل كل طرفٍ حسب هواه، وحسب حاجتهم لمكانة ودور القائد أوجلان فالكل بات يعلم هذا الدور ويستشعر تأثيراته. لكن الجواب الأمثل كان من قبل الرئيس المشترك لحزب الشعوب الديمقراطية سيزاي تملي حيث قال “إن أفضل من يفهم السيد أوجلان هو الشعب الكردي وحزب الشعوب الديمقراطية HDP “. هذا التشخيص الدقيق للواقع الذي وصل إليه الكرد وحركته السياسية يشير إلى إفلاس سياسات الحرب الخاصة واللعب على الشعب الكرد من خلال جره الى حروب ومنازعات لن تجلب له ولشعوب المنطقة سوى الويلات. إن ما أكد عليه القائد اوجلان من ضرورة انتهاج الخط الثالث بالنسبة ل HDP كان يعني هويتها الأيديولوجية والسياسية لأنه يجب أن تمثل تحالفاً ديمقراطياً يعمل من أجل الديمقراطية وإيجاد الحلول للمشاكل الموجودة ضمن المجتمع من أصغر تنظيم في المجتمع إلى أعلى المستويات، وقد حدد ثلاثة مرتكزات للسياسة الديمقراطية وهي “الاتفاق الديمقراطي، السياسة الحرة والحقوق العالمية” ومن أجل الحقوق العالمية اقترح الاتفاق على الدستوري الديمقراطي. وأوضح أنه يمكن الوصول إلى الحل الدستوري الديمقراطي استناداً إلى الحقوق العالمية.
بعد أكثر من ثماني سنوات من العزلة المشددة المفروضة على القائد أوجلان، وعلى وقع مقاومة شعبية متصاعدة شارك فيها ما يقارب السبعة آلاف مضربٍ عن الطعام من بينهم 30 مناضلاً أضربوا عن الطعام حتى الموت، واستشهاد 6 مناضلين خلال تلك الحملة التي استمرت ستة أشهر؛ اُرغمت السلطات التركية على قبول إفساح المجال أمام المحامين للقاء القائد اوجلان، وفي الثاني من أيار تم اللقاء وأرسل القائد اوجلان رسالة إلى المضربين معرباً عن تقديره ومحبته الشديدة لرفاقه الذين يريدهم إلى جانبه بصحة جيدة؛ ذهنياً وبدنياً. كما أرسل برسالة تضمنت سبعة محاور رئيسية لحل القضايا المتراكمة والمتأزمة في عموم المنطقة وبشكل خاص في تركيا، ويمكن إيجازها وسردها كالاتي:
– ضرورة السعي إلى اتفاق مجتمعي جذري؛ أي اتفاق يرمي خلفه أحقاد وعداوات لم تجلب سوى الدمار والخراب، فلا تطور وتقدم مع العداوات والأحقاد.
– انتهاج أساليب الحوار الديمقراطي البعيد عن ثقافة العداء لحل القضايا؛ لأن أي حوار جاد يتطلب مناخاً مناسباً يمكن من خلاله طرح الأفكار بحرية ومسؤولية للوصول إلى حلول وليس الالتفاف على الأزمات وكسب النقاط.
– بالقوة الناعمة أي قوة العقل والسياسة والثقافة؛ بدلاً من استخدام أساليب الشدة والإكراه يمكن حل قضايا تركيا والمنطقة.
– نموذج قوات سوريا الديمقراطية يمكن أن يحمل معه الحل لقضايا سوريا وأزماتها ضمن الجغرافيا السورية من خلال الاتفاق على دستور ديمقراطي يضمن الحقوق عبر الإدارات الذاتية الديمقراطية؛ بمعنى ما كان مطرحاً سابقاً بخصوص “الكونفدرالية الديمقراطية الاجتماعية” لازال يمثل الحل لأزمات المنطقة من خلال إقامة أنظمة ديمقراطية تحترم شعوبها ضمن الحدود السياسية الحالية ويمكن أن تشكل اتحاداً اجتماعياً وكياناً اقتصادياً في حال تغلب لغة العقل والحوار.
– تقوية الجانب الفكري والروحي؛ وهو يمثل الركيزة الأساسية لحل مجمل قضايا الشرق الأوسط الذي يعاني من فراغ أيديولوجي حقيقي.
– نداء نوروز 2013 يعتبر موقفاً ثابتاً، وهو يعني تغليب الحل السياسي بعيداً عن الشدة؛ ويجب أخذه على محمل الجد.
– السلام المُشرف والحل وفق السياسة الديمقراطية؛ وهو الأساس لأي تفاوض مستقبلي.
هذه الرسالة التي كانت موجهة إلى القوى الديمقراطية بشكل أساسي حملت معها أيضا أسلوب النضال المتمثل في نهج غاندي المستند إلى الحراك المجتمعي والمعتمد على الإبداع في الفعاليات الاجتماعية التي تظهر التمسك بالحقوق والثقافة والتاريخ، وما إشارة القائد أوجلان لخطورة الابتعاد عن اللغة الأم إلّا تأكيد للحرب الممارسة على الكرد التي ترقى إلى مصاف الإبادة الثقافية من خلال سلخهم عن لغتهم الأم، ويعد هذا الخطر من أهم أساليب الحرب الخاصة التي يتبعها حزب اردوغان لتصفية الوجود الكردي وإبادته ثقافياً بالاتفاق مع الجيش التركي، حيث يقول القائد أوجلان عن هذا الاتفاق إنه “لولا هذا القبول من قبل حزب العدالة والتنمية ما كان له أن يصل إلى السلطة”، وهذا العداء يشكل نقطة تقاطع بين التيارات القوموية الرئيسية الثلاث وهي (القوموية التركية الصهيونية، القوموية التركية العنصرية، والقوموية الإسلامية التركية). ورغم الصراع بين القومويات الثلاث وانقلابها على بعضها البعض إلا إنها تتخذ دوماً مواقف مشتركة بالضد من الكرد، ويسمي القائد أوجلان هذه الظاهرة “بالقانون الفولاذي”.
من دون العودة إلى التاريخ وتلمس الحقائق سيكون تقييمنا للواقع الحالي والقوى السياسية المؤثرة في المنطقة غير دقيق وصائب، فالخط الثالث يعد نهجاً يستند الى فلسفة الأمة الديمقراطية والوفاق الاجتماعي من خلال انتهاج السياسة الديمقراطية ومرتكزاتها التي تتمثل في “الاتفاق الديمقراطي، السياسة الحرة، الحقوق العالمية” هذه المرتكزات التي ذكرها القائد أوجلان تمثل جوهر الخط الثالث فلا يمكن الوثوق بأي طرف مارس عن قصد وقناعة الإبادة الثقافية تجاه الشعب الكردي والشعوب الأخرى كالأرمن والسريان؛ هذا الحال ينطبق على جميع الأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط التي تَتَّبِع الإنكار والإقصاء منهجاً.
لذا فتطوير الإدارات الذاتية الديمقراطية والدفاع الذاتي، والدفع قُدماً في المجالات الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية؛ مع الإبداع في المجال الخدمي من خلال البلديات الديمقراطية سيمثل الحل للقضايا المُعاشة في المنطقة عبر إفساح المجال أمام المجتمع للتعبير عن نفسه بحرية. بهذا الشكل ورغم الصراع والفساد والدموية التي نشهدها؛ سيبقى للأمل فسحة، ويجب أن نحيا على أمل الوصول إلى الأفضل في ظل نظام عادل يأخذ بعين الاعتبار “الاتفاق الديمقراطي، السياسة الحرة، الحقوق العالمية” منطلقاً[1]