تركيا تشهر قنبلة كركوك
مقالات /خورشيد دلي
لم يترك وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، مجالاً للقوى السياسية العراقية لانتخاب محافظ لكركوك وحكومة محلية عقب انتخابات المجالس البلدية التي فاز الاتحاد الوطني الكردستاني بالنسبة الأكبر من الأصوات فيها، فقد أشهر فيدان ورقة تركمان العراق في وجه الجميع، متحدثاً عن أحقيتهم بمنصب محافظ المدينة، محذراً في الوقت نفسه من تولي الاتحاد الوطني لهذا المنصب، محاولاً إثارة الفتنة بين مكونات المحافظة، زارعاً قنبلة إن تفجرت ستكون مقدمة لحرب أهلية مدمرة للجميع.
فيدان لم يتحدث من فراغ، بل انطلق من أيديولوجية قومية تركية تعتبر التركمان في العراق والعالم جزءاً من السياسة الخارجية التركية التي ينبغي أن تقوم بحمايتهم لأهداف قومية تركية، كما أن حديثه جاء ترجمة لتوجيهات رئيسه رجب طيب أردوغان الذي أوصاه ورئيس الاستخبارات، إبراهيم كالين، خلال اجتماع خاص قبل فترة الإهتمام بتركمان العراق ومتابعة ملف كركوك، وعلى أثره استقبل فيدان في أنقرة رئيس الجبهة التركمانية العراقية، حسن توران، ليخرج عقبه ويتحدث عن تفاهم مشترك للعمل في مرحلة ما بعد انتخابات كركوك، مشيراً إلى أن دعم تركمان العراق من العناصر الأساسية للسياسة التركية تجاه العراق.
كلام فيدان عن تركمان العراق وكركوك والتطورات الجارية حمل مؤشرات خطرة، لعل أهمها:
أولاً- التدخل المباشر في الشأن السياسي الداخلي للعراق، ومحاولة فرض المكون التركماني في سدة المشهد السياسي في كركوك، متجاوزاً بذلك النتائج التي أفرزتها الانتخابات.
ثانياً- ممارسة الضغوط على حكومة السوداني وأحزاب الإطار التنسيقي لقطع الطريق أمام المكون الكردي في قيادة إدارة كركوك بعد الانتخابات، وقد سبق أن حذر أردوغان من نتائج الاتفاق بين السوداني والبارزاني بخصوص عودة حزب الديمقراطي الكردستاني إلى كركوك والسماح له بإعادة فتح مقاره ومكاتبه هناك، في محاولة مكشوفة للتحريض ضد المكون الكردي وهوية المدينة.
ثالثاً- تحريض الكرد ضد بعضهم البعض، إذ إن تحذير فيدان من أن التعاون بين حزبي الاتحاد الوطني الكردستاني وحزب العمال الكردستاني وصل إلى حد تشكيل حلف ضد حكومة أربيل، مقابل حديثه عن تنسيق تركي مع الحزب الديمقراطي الكردستاني ضد الإرهاب في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني، كل ذلك كان بمثابة تحريض للقوى الكردية ضد بعضها البعض، ومحاولة جرها إلى حرب داخلية، وفي هذا السياق ينبغي النظر إلى تسريب ما قيل عن رسالة تركية للحزب الديمقراطي الكردستاني، مفادها التحذير من التحالف مع الاتحاد الوطني الكردستاني لانتخاب محافظ كردي لكركوك، ومع أن تركيا لا تتوانى عن القيام بمثل هذا السلوك إلا أن التسريب يصب في خانة إذكاء الخلافات الكردية – الكردية، وربما لقطع الطريق أمام الحزبين في التوصل إلى تفاهم بشأن مستقبل كركوك.
رابعاً- من دون شك، حديث فيدان عن أحقية التركمان بمنصب محافظ كركوك على اعتبار أن هوية المدينة تركمانية حسب الزعم التركي، يحمل أبعد من هذه المطالبة، خاصة إن فيدان يدرك جيداً أن طلبه هذا غير شرعي، وهو تدخل مكشوف في الشأن الداخلي العراقي. وعليه، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، ماذا أراد فيدان من كلامه السابق؟ في الواقع، شيء واحد، وهو قطع الطريق أمام خيار احتمال ضم كركوك إلى إقليم كردستان، وضرب أي جهد يمكن أن يؤدي إلى اتفاق أو تفاهم بين أربيل وبغداد على تنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي التي تنص على أجراء استفتاء في المناطق المتنازع عليها، لتحديد مصيرها سواء في البقاء تحت سيطرة الحكومة المركزية أو الانضمام إلى إقليم كردستان، وبالتالي فإن تصريحات فيدان تتجاوز قضية نتائج انتخابات كركوك إلى استراتيجية تركية تقوم على محاربة كل جهد يمكن أن يصب في الحالة القومية الكردية التي تشكل فوبيا للسياسة التركية.
استثمار ورقة التركمان
لا يخفى على المتابع، أنه منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، اتجهت تركيا إلى استثمار ورقة التركمان في العراق ولاحقا في سوريا، ومحاولة استغلال هذه الورقة في وجه القضية الكردية، إذ عندما غزت أمريكا العراق، وتوقع البعض إعلان الكرد دولة مستقلة في إقليمهم، سرعان ما أعلنت تركيا أن تركمان العراق خط أحمر، وأنها لن تسمح للكرد بدخول مدينة كركوك، وكثيراً ما هددت بقلب الحدود على أهلها إذا تعرض التركمان لظلم من قبل الكرد. وعندما تفجرت الأزمة السورية عام 2011، سرعان ما أعلنت تركيا أنها معنية بتركمان سوريا وحمايتهم وحقوقهم ودعمهم، وعليه أسست لهم كيانات سياسية وعسكرية، على رأسها فرقة “السلطان مراد”، وباتت تطلق أسماء تركمانية على مناطق تواجدهم، كما ظهرت في الداخل التركي حملات تعبئة تدعو إلى التطوع للدفاع عن الأخوة التركمان في سوريا، حيث نظم العديد من الفعاليات لهذه الغاية، ولعل الأخطر من هذه التعبئة ظهور دعوات من قبل أطراف تركية قومية متطرفة تدعو إلى مراجعة وضع مناطق تركمان سوريا على اعتبار أن الاتفاقيات التي وقعت في عام 1921 مع فرنسا ( الدولة المنتدبة على سوريا وقتها ) ألحقت هذه المناطق بسوريا، وأنها تعد جزءاً من تركيا، في تأكيد على سعي تركيا إلى تغيير الخرائط تطلعاً إلى تطبيق “الميثاق الملي” الذي يقول إن الاتفاقيات التي رسمت حدود تركيا عقب الحرب العالمية الأولى أقتطعت أجزاء تاريخية من الأراضي التركية في سوريا والعراق ..، ولعل كل ما فعلته تركيا في سوريا والعراق خلال السنوات الماضية يصب في هذا السياق.
تركيا في العراق وسوريا تدعم التركمان خدمة لمشروعها القومي، وفي الوقت نفسه تحارب الكرد بلا هوادة من أجل نفس المشروع، وهي معادلة تكشف زيف الخطاب التركي الأخلاقي في إدعاء الدفاع عن حقوق الشعوب والأقليات التي تعاني من الظلم والتهميش، إذ لا يستوي مثل هذا الخطاب مع حربها المتواصلة ضد الكرد ومحاولاتها محو هويتهم، كما يوضح مدى استخدام الأيديولوجية القومية في الصراعات الإقليمية الجارية كحال من يستخدم الطائفية لتحقيق أهداف إقليمية، باختصار تركيا تستغل التركمان والشعوب التي لها أصول تركية، من الإيغور في شمال الصين إلى أتراك قبرص، مروراً بتركمان سوريا والعراق، وصولاً إلى أتراك القوقاز والبلقان وآسيا الوسطى.. ورقة لتحقيق طموحاتها الإقليمية تطلعاً إلى مجد عثماني أصبح من الماضي.[1]