شنكال بين آثار الإبادة وصراع الإرادات
مقالات
تعتبر منطقة شنكال (سنجار في التسمية الرسمية) المعقل التاريخي للكرد الإيزيديين، وقد تعرّضت في زمن نظام حكم حزب البعث في العراق (1968-2003) إلى حملة تهجير وتغيير ديمغرافي ممنهجة، بسبب تأييد أهلها للثورة الكردية ورفضهم التخلي عن هويتهم القومية. وكان أكبر إجراء لمعاقبة الإيزيديين من أبناء منطقة شنكال، هو حملة التهجير الواسعة لهم إلى المجمّعات بعد مصادرة الحكومة العراقية لأراضيهم وأملاكهم وتوزيعها على عشائر عربية محلية؛ ففي عام 1975 أصدرت الحكومة في بغداد أمراً يقضي بترحيل جميع سكان القرى الإيزيدية (132 قرية) وإسكانهم قسراً في 12 مجمّعاً سكنياً بنتها خصيصاً لإيوائهم. ووفق هذا الإجراء التعسفي، أزيل الوجود الإيزيدي من تلك القرى تماماً، وتم حشر الإيزيديين قسراً في المجمعات التي حملت رسمياً تسميات عربية ذات دلالة تاريخية. وهذه المجمعات في أسمها العربي، والكردي الأصلي، هي: التأميم/ دوهولا، القادسية/ تل بنات، الوليد/ زورآفا، العروبة/ خانصور، حطين/ دووكري، البعث/ تل قصب، القحطانية/ تل عزير، اليرموك/ بورك، الأندلس: كوهبل، الجزيرة/ سيبا شيخدري، العدنانية/ كرزرك، الشمال/ سنوني” (1).
شنكال في عهدي البعث والمحاصصة
بقيت منطقة شنكال تحت سلطة الحكومة المركزية في بغداد، خارج الإطار الإداري لإقليم كردستان، ولم يشملها قرار مجلس الأمن الدولي رقم 688 في أبريل/نيسان 1991، والقاضي بفرض حظر جوي على مناطق شمال العراق وجنوبه. واضطر الإيزيديون للتعايش مع السلطة المركزية والتابعية الإدارية لمحافظة نينوى ومركزها مدينة الموصل، وظلوا على هذه الحال يعيشون في المجمعات الإثني عشر، محرومين من خيرات أراضيهم في القرى التي أخرجهم النظام البعثي منها، ومهمشين من قبل الدولة، إلى حين حدوث التدخل العسكري الأميركي عام 2003، والذي أسفر عن اسقاط نظام صدام حسين، وإطلاق العملية السياسية في العراق القائمة على المحاصصة الطائفية، والتي تمخّضت، في الشق الذي يتعلق بالإيزيديين، عن اجراء اتفاق بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة إقليم كردستان ينص على اعتبار “قضاء شنكال” من المناطق المتنازع عليها، أو ما سمي رسمياً، وفي الأدبيات السياسية: (مناطق المادة الدستورية رقم 140). وتضمن الاتفاق القائم على أساس هذه المادة الدستورية: إزالة تبعات ومظاهر عملية التعريب، ومن ثم إجراء إحصاء سكاني وتطبيع كامل، وأخيراً أجراء استفتاء على مصير وعائدية شنكال، لمعرفة هل سيتبع “القضاء” إداريا إقليم كردستان أم سيحتفظ بالوضع الذي هو عليه؟ لكنّ هذه القضية لم تُحل في حينها، وبقيت شنكال إداريا تابعة لمحافظة نينوى، وتوضحت هنا معالم معاناة كبيرة، حيث أدت الظروف الأمنية المضطربة في المحافظة، وبشكل خاص في مدينة الموصل، إلى حصار شنكال وأهلها، والحيلولة دون وصول حصة المنطقة من المخصصات المالية والخدمية، فضلاً عن ظهور المجاميع الإرهابية التي نفّذت سلسلة من أعمال القتل والتصفية والتفجير التي طالت الإيزيديين في مدينة الموصل، الأمر الذي أضطر الآلاف منهم لمغادرة المدينة وترك مصالحهم وممتلكاتهم، كما وقطع مئات الطلبة الإيزيديين دراستهم في جامعات الموصل عائدين إلى ذويهم في شنكال، هرباً من تهديدات المجموعات المتطرفة ودعوات القتل والتهجير، في الحين الذي تفاقمت فيه المشاكل والمصاعب الخدمية جراء رفض المركز إرسال مخصصات المنطقة (2).
تحوّلت شنكال إلى منطقة نزاع بين السلطة المركزية (عملياً الحكومة المصغرّة في نينوى بقيادة القوميين العرب السنة)، والحزب الديمقراطي الكردستاني الذي حاول توطيد سلطاته ومدّ نفوذه بين السكان الإيزيديين والاعتكاز عليهم في الحصول على أكبر عدد ممكن من الأصوات في الانتخابات المحلية في نينوى. وانعكس تضارب المصالح والتنازع على الإدارة بين الحكومة المركزية في بغداد والمحلية في نينوى من جهة، وبين الحزب الديمقراطي الكردستاني من جهة أخرى، سلباً على أوضاع الإيزيديين، حيث قطع المركز مخصّصات “قضاء شنكال” بحجة هيمنة الحزب الديمقراطي الكردستاني ولجوئه إلى سياسة “الأمر الواقع”، ومحاولته فرض إدارته وحضوره العسكري والأمني وإحلالهما محل مظاهر وسيادة الدولة. بينما أهمل الديمقراطي الكردستاني من جانبه النواحي الخدمية والتنموية في منطقة شنكال، بحجة إنها تابعة إدارياً لنينوى وتتسلم مخصصاتها من المركز، وإن لا أوجه صرف خاصة بها ضمن ميزانية اقليم كردستان. كان كل هم الحزب الديمقراطي الكردستاني هو ضمان الحصول على أصوات الإيزيديين في الانتخابات، وهو ما كان يحصل فعلاً، ففي انتخابات مجلس محافظة نينوى عام 2005، فازت قائمة (التآخي) التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني ب 12 مقعداً، 9 منها احتلها إيزيديون من أبناء شنكال. وكذلك في انتخابات مجلس النواب العراقي في نفس العام، حصلت (القائمة الكردستانية) على أغلبية أصوات الإيزيديين في شنكال (أكثر من 110 ألف صوت)، ومع ذلك لم تضم هذه القائمة المكونة من 54 نائباً، شخصاً إيزيدياً واحداً من أبناء شنكال، وهو ما خلق تذمراً واستياء وسط الإيزيديين الذين بدأت أصواتهم تعلو شاكية من وجود “سياسة تمييز يقوم بها الحزب الديمقراطي الكردستاني حيال المكون الإيزيدي” (3).
استهداف الإيزيديين على الهوية
جراء تعليق العمل بالمادة الدستورية رقم 140، واستفحال النزاع والاستقطاب الحاد بين الحزب الديقراطي الكردستاني والحكومة المركزية في بغداد، وظهور المجاميع الجهادية التكفيرية في مناطق عديدة من محافظة نينوى وتمدّدها ومحاولتها بسط سيطرتها على الأرض، مع بروز حالة من الفراغ الأمني الكبير، تعرض الإيزيديون إلى سلسلة من الهجمات وجرائم الاغتيالات والخطف على الهوية في الموصل وربيعة وتلعفر، كان أكثرها فتكاً وتوحشاً، قتل المجموعات الجهادية التكفيرية 24 عاملاً ايزيدياً يعملون في مصنع النسيج بالقرب من الموصل في 22 أبريل/نيسان 2007، ومن ثم الهجوم الإرهابي الكبير، باستخدام صهاريج مفخخة بمواد شديدة الانفجار، على أهالي مجمعّي تل عزير وسيبا شيخدري في 14 أغسطس/آب 2007، والذي أسفر عن مقتل أكثر من 400 مدني وجرح الآلاف. ذلك الهجوم الذي وصفه الصحفي الأميركي يوجين روبنسون في مقال له نشرته صحيفة الواشنطن بوست بأنه “أسوأ ثاني هجوم إرهابي في العصر الحديث، بعد هجمات 11 سبتمبر 2001” (4).
واستمر الوضع الأمني في التدهور جراء حالة الاحتقان والتنافس الحاد بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والحكومة المركزية في بغداد على السلطة والنفوذ في شنكال، فيما بقيت المنطقة دون رعاية ومستثناة من المشاريع التنموية والخدمية، في ظل تهرب كل من أربيل والموصل (وتالياً بغداد) عن رعايتها وإدراجها ضمن برامج وخطط التنمية والتأهيل، وكل ذلك بحجة أن شنكال لا تدخل في نطاق سلطاتها ومسؤولياتها، وأن مصيرها لم يحسم بعد بين المركز وإقليم كردستان. وانعكست هذه السياسة، بشكل سلبي للغاية على المواطنين، والذين بات همهم الوحيد هو تأمين احتياجاتهم الأولية وخبز يومهم، نتيجة انعدام فرص الكسب وانقطاعهم عن العمل والدراسة في مدينة الموصل، جراء انتشار الفكر المتطرف، وهيمنة الجماعات التكفيرية هناك. وبدأت بعض القوى الإيزيدية المحلية تطالب كل من بغداد وأربيل بوضع حد لواقع التهميش والإهمال، ومنح “قضاء شنكال” وضعاً سياسياً مميزاً يتيح للأهالي إدارة شؤونهم بأنفسهم، ومنحهم الدعم اللازم لتشكيل قوة أمنية دفاعية قادرة على حماية المواطنين الإيزيديين من هجمات واعتداءات الجماعات التكفيرية. لكن هذه المطالب لم تلقَ أي اهتمام من بغداد وأربيل، وبقيت المنطقة مهملة ومهمشة ومحرومة من الرعاية والمشاريع الخدمية والانمائية، فيما ساهم الانفلات والتراخي الأمني في انكشاف واضح للمجمعات الإيزيدية، واستمرار تعرض الطرق والمعابر التي يستخدمها العمال والكسبة الإيزيديون إلى هجمات الجماعات الجهادية التكفيرية، وعصابات السلب والخطف.
ظهور “داعش” وإرهاصات الإبادة
برز تنظيم “داعش” بقوة في المشهد العراقي، مستفيداً من حالة الاحتقان والتجاذبات السياسية بين القوى والمكونات العراقية، وبدأ عناصره يتمددون في العديد من المناطق ذات الأغلبية السنيّة، ويستولون على البلدات والقرى، مستغلين ضعف وتشتت قوات الجيش العراقي، والتي نخرت فيها الخلافات والتجاذبات الطائفية، وأثرت على جهوزية ومعنويات الجنود العراقيين في القتال وحماية المدن والمنشآت. وفي 6 يونيو/حزيران 2014 تمكن بضع مئات من مقاتلي التنظيم من احتلال مدينة الموصل المليونية، وفي 15 يونيو/حزيران 2014 استولى التنظيم على مدينة تلعفر ذات الأغلبية التركمانية، وفي كلا العمليتين حدث انهيار كبير وسريع لقوات الجيش العراقي أمام الهجمات الخاطفة العنيفة التي شنها مقاتلو التنظيم الجهادي، ولم تكتفِ قوات الجيش العراقي بالتقهقر والانهزام، بل تركت كميات كبيرة من الأسلحة الثقيلة النوعية والذخائر ورائها. وكان للمشاهد التي بثها التنظيم، وأظهرت إعدام مقاتليه لمئات من الجنود العراقيين الأسرى في ما عرفت بمجزرة قاعدة سبايكر الجوية ( 12 يونيو/حزيران 2014) الأثر الكبير في هبوط وتدني معنويات أفراد الجيش العراقي، والذين كان من المفروض أن يواجهوا تنظيم “داعش” ويمنعوه من احتلال المنطقة والتمدد فيها. وفي ظل الإنهيار الأمني والتداعي السريع لقوات الجيش العراقي، باتت شنكال وأهلها مهددين مباشرة، سيما بعد استيلاء “داعش” على مدينة تلعفر بعد مرور أيام قليلة من احتلاله للموصل، وبدأ الناس يتحدثون علانيّة عن أن الهدف القادم لمقاتلي “داعش” بعد احتلالهم الموصل وتلعفر سيكون شنكال لامحالة. دفع انهيار الجيش العراقي أمام تقدم الجهاديين، وفرار الضباط والجنود وتركهم مخازن الأسلحة ورائهم، إلى حدوث ارتباك كبير وظهور حالة من الذعر والفوضى في كل العراق وخاصة مناطق الوسط والشمال. في شنكال كان يتمركز أكثر من 11.000 مقاتل من قوات البيشمركة التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني، التي يشرف عليها سربست بابيري مسؤول الفرع 17 في الديمقراطي الكردستاني، والذي صرح في 2 أغسطس/آب 2014، أي قبل يوم واحد من وقوع هجوم “داعش” على شنكال، بأن قواته على أتم الاستعداد للدفاع عن شنكال وأهلها في وجه أي هجوم محتمل للجهاديين، وأن الوضع مستقر وقوات البيشمركة تسيطر على المعابر والحدود الإدارية (5).
من الواضح أن قوات البيشمركة كانت تتابع ما يجري على الأرض، وتراقب تمدد تنظيم “داعش” في كل من الموصل وتلعفر، وانهيار فرق الجيش العراقي واستحواذ مقاتلي التنظيم على أسلحة نوعية ثقيلة من مخازنها، وقبل ذلك سماع أصداء العملية المروّعة في تصفية الجنود العراقيين الأسرى في قاعدة سبايكر. وكانت تأكيدات القادة الميدانيين في البيشمركة تذهب إلى استعداد وجهوزية هذه القوّات للتصدي لمقاتلي التنظيم في حال هجومهم على مناطق إقليم كردستان، أو حتى على المناطق المتنازع عليها مع السلطة المركزية (مناطق المادة 140)، وأهم وأقوى تصريح كان ذلك الذي أدلى به مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان في 27 يونيو/حزيران 2014 خلال لقائه وزير الخارجية البريطاني، والذي قال فيه بأن قوات البيشمركة دخلت المناطق المتنازع عليها مع الحكومة المركزية بعد احتلال “داعش” للموصل وانسحاب قوات الجيش العراقي، لحمايتها ومنع سقوطها بيد الإرهابيين. وإن المادة 140 من الدستور العراقي قد أُنجزت بعد دخول قوات البيشمركة إلى المناطق المتنازع عليها. وكان البرزاني يتحدث عن مناطق متنازع عليها مع المركز في كركوك ونينوى وديالى وصلاح الدين (6).
هجوم “داعش” وفتح الممر الآمن
في فجر 3 أغسطس/آب 2014، شن مقاتلو تنظيم “داعش” هجوماً واسعاً على مجمعات شنكال، وتوغلوا فيها بدون أي مقاومة تذكر من جانب قوات بيشمركة الديمقراطي الكردستاني، والتي انسحبت بشكل مفاجئ وسريع، وهو الأمر الذي ساهم في بث الذعر والفزع بين الأهالي، الذين خرجوا بشكل عشوائي للنجاة بأرواحهم من عمليات التصفية على أيدي مقاتلي التنظيم. توجّه عشرات الآلاف من مجمعات شنكال الشمالية Herema Şemal) ) إلى السلسلة الجبلية باتجاه الحدود السورية، في الحين الذي لم يتمكن فيه الآلاف من أهالي المجمعات الشرقية (Herema Quble) من الذين باغتهم الهجوم فجراً من الفرار، وبقوا محاصرين في المجمعات والأودية. وفي اليوم الأول للهجوم وتوارد الأنباء عن توجه الآلاف نحو الحدود السورية لدخول مناطق الإدارة الذاتية/ مقاطعة الجزيرة، تدخلت وحدات حماية الشعبYPG) ) ووحدات حماية المرأةYPJ) ) بشكل سريع، وأرسلت المئات من مقاتليها للمناطق الحدودية بهدف فتح ممر إنساني آمن يتمكن من خلاله أكثر من 150 ألف إيزيدي من العبور/النجاة ودخول مناطق الإدارة الذاتية (تمكن 120 ألفاً منهم من عبور الممر في الأيام الثمانية الأولى من الهجوم). كما وجرت مواجهات عنيفة مع مقاتلي تنظيم”داعش” المسلحين بالأسلحة الثقيلة وعربات الهامر التي غنموها من الجيش العراقي، والذين استماتوا في القتال لإغلاق الممر الآمن ومنع الإيزيديين من الفرار. في الوقت الذي قاتلت فيه كل من وحدات حماية الشعب والمرأة بكل بسالة لكسر هجمات “داعش” والحيلولة دون تمكنه من إغلاق الممر. وجراء تلك المواجهات فقدت وحدات حماية الشعبYPG) ) ووحدات حماية المرأة (YPJ) ما يقارب من 300 من مقاتلاتها ومقاتليها في المواجهات مع “داعش” في سبيل إبقاء الممر الآمن مفتوحاً، ومواصلة عمليات إنقاذ المدنيين الإيزيديين (7).
كما توجهت قوات الدفاع الشعبي الكردستاني (HPG)، الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني، بشكل سريع إلى شنكال للدفاع عنها. وكانت مجموعة صغيرة من مقاتلي الحزب متمركزين في شنكال قبل بدء هجوم “داعش”، وهم من أشرفوا على إدارة عمليات المقاومة التي قام بها الأهالي، وكذلك تنظيم صفوف الشباب الإيزيدي للتصدي للجهاديين والمساهمة في إنقاذ المدنيين. وساعدت هذه القوات لاحقاً، بقيادة القائد الميداني عكيد جفيان، أهالي شنكال في تنظيم صفوفهم وتشكيل وحدات مقاومة شنكال(YBŞ) (8).
إنسحاب بيشمركة الديمقراطي الكردستاني
أثار انسحاب قوات البيشمركة التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني بشكل مفاجئ وسريع بعد هجوم “داعش” على شنكال، رغم التأكيدات السابقة بالقتال بضراوة والدفاع عن المنطقة وأهلها حتى النهاية، العديد من الأسئلة والتكهنات، منها: إن قوات البيشمركة تفاجأت بتقدم “داعش” السريع وبقوته النارية الكبيرة، بعد استيلاءه على الأسلحة النوعية والثقيلة من مخازن الجيش العراقي، وأن قيادة الديمقراطي الكردستاني طلبت من البيشمركة الانسحاب فوراً وعدم الدخول في مواجهة مع مقاتلي “داعش”، بل التوجه بكامل الأسلحة والعتاد صوب مناطق أخرى أكثر أهمية في دهوك وأربيل، وبالتالي التخلي عن شنكال وأهلها. وثمّة حديث آخر عن حدوث خطأ في “حسابات” الديمقراطي الكردستاني الذي ظن بأن “داعش” لن يقدم على مهاجمة شنكال، بل سيتوجه إلى المناطق الوسطى من العراق، ويزحف بإتجاه العاصمة العراقية بغداد لاحتلاها. وقدم مسرور البرزاني، قائد الأمن الوطني في إقليم كردستان في ذلك الحين، هذا التفسير في حديثه لصحيفة (دير شبيغل) الألمانية، عندما قال بأنهم لم يستعدوا بالشكل الكافي لمواجهة مقاتلي التنظيم بسبب اعتقادهم أن “داعش”، وبعد أن انضم إليه الكثير من المجموعات الجهادية السنيّة منذ يونيو/حزيران 2014، سيقرر استغلال الزخم السنيّ المؤيد ويزحف باتجاه بغداد لإسقاط حكومة نوري المالكي بسبب سياساتها الطائفية، وهو من هذا المنطلق لن يهاجم كردستان. ” تفاجئنا بهجوم [داعش] على كردستان، والذي لم نكن مستعدين له” (9).
من جانبه، وعلى خلفية الهجوم على شنكال وانسحاب قوات البيشمركة، أصدر رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني بياناً، قال فيه: “بعد أحداث شنكال والكارثة التي حلت بالأخوات والأخوة الإيزيديين، تم إبعاد المسؤولين الأمنيين والعسكريين والحزبيين الذين على على عاتقهم حماية منطقة شنكال. وتم تشكيل لجنة تقصي حقائق، لتقرر بدورها معاقبة المسؤولين المقصرين في الدفاع عن الشعب والبيشمركة”. ولكن المرحلة اللاحقة أثبتت بأن قيادة الديمقراطي الكردستاني لم تفي بوعودها، ولم تقم بفتح أي تحقيق في عملية انسحاب البيشمركة، أو اللجوء إلى تقديم المسؤولين عن عملية الانسحاب للمحاكمة، كما لم يتم استبعاد أي مسؤول حزبي أو عسكري كان في عداد “المنسحبين” من شنكال (10).
الإبادة أو “الفرمان رقم 74”
أسفرت كارثة هجوم “داعش” على شنكال عن مقتل الآلاف من الإيزيديين ( فقط في مذبحة قرية كوجو قُتل أكثر من 500 رجل)، وسبي آلاف الفتيات اللواتي استرقهم التنظيم، وباع أعداد كبيرة منهن في أسواق النخاسة في الموصل وتلعفر والرقة. وفي حصيلة لهجوم واحتلال “داعش” لشنكال، في ما سمي إيزيدياً بالفرمان/الإبادة رقم 74، وثقّ الباحث الإيزيدي مراد ختاري 7400 اسماً قتلوا على أيدي مقاتلي التنظيم. وذكر ختاري في موسوعة توثيقية ضخمة تقع في ثمانية أجزاء، ألفها حول الإبادة وحملت عنوان (جينوسايد الإيزيدية)، بأن أعداد المفقودين والأسرى والسبايا بلغ 1835، وأن عدد المقابر الجماعية بلغ 76 مقبرة جماعية، بينما فجّر التنظيم الإرهابي عشرات المزارات الدينية الإيزيدية. وتم تحرير 1207 إمرأة و339 رجل و2008 طفل من عام 2014 وحتى الآن. هناك ما يقارب من 320 ألف مهجر ما يزالون يعيشون في مخيمات إقليم كردستان العراق، بينما تُرك 100 ألف إيزيدي العراق وهاجروا إلى بلدان مختلفة (11).
في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017 تمكنت وحدات مقاومة شنكال (YBŞ) بالتعاون مع قوات الدفاع الشعبي الكردستاني(HPG) ووحدات حماية الشعب(YPG) من تحرير مدينة شنكال من احتلال “داعش”. وكانت عملية تحرير وتطهير مجمعات منطقة شنكال من تواجد عناصر التنظيم الإرهابي قد بدأت عام 2015، وشاركت فيها إلى جانب قوات الجيش العراقي والحشد الشعبي كل من وحدات مقاومة شنكال وقوات الدفاع الشعبي الكردستاني وقوات البيشمركة التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني (12) .
الإدارة الذاتية والهجمات التركية
يعاني “قضاء شنكال”، ورغم مرور أكثر من 9 أعوام على هجوم تنظيم “داعش”، من مشاكل كبيرة، لعل أهمها وجود أغلبية سكانه من الإيزيديين في خارجه، وخاصة في المخيمات داخل إقليم كردستان، وهجرة عشرات الآلاف منهم إلى دول العالم المختلفة، وحالة النزاع وتصارع الإرادات بين القوى المختلفة، بالاضافة إلى هجمات الدولة التركية واستهدافاتها للعاملين في الإدارة الذاتية المحلية وللمسؤولين والمقاتلين في وحدات مقاومة شنكال. وقد اسفرت هجمات الدولة التركية سواء بالطائرات الحربية أو المسيّرات، أو باستخدام العبوات الناسفة وعمليات التفجير والاغتيال، عن فقدان عشرات الكوادر الإدارية والعسكرية الإيزيدية في الإدارة الذاتية المحلية لحياتهم (13).
تتوزع خارطة النفوذ في شنكال حالياً بين الحكومة المركزية، والتي تمثلها المظاهر الإدارية وقطاعات الجيش والحشد الشعبي، والإدارة الذاتية التي أسسها الأهالي في شنكال في 15 يناير/كانون الثاني 2015، والتي تشرف على مناطق عديدة، خاصة في الشمال، وتحميها وحدات مقاومة شنكال وقوات أمن محلية (أسايش إيزديخان). وتحاول الإدارة الذاتية المحلية في شنكال ووحدات مقاومة شنكال، بالإضافة إلى الممثل السياسي حزب الحرية والديمقراطية الإيزيدي (فاز بمقعد في انتخابات مجلس محافظة نينوى التي جرت في 18 ديسمبر/كانون الأول 2023)، تقديم الخدمات للأهالي والاهتمام بالجوانب التنظيمية ورعاية قطاعات التعليم والصحة والطفولة والمرأة، ضمن مساعيها في خدمة المجتمع الشنكالي، وتوثيق العلاقات الاجتماعية بين المكونات على أرضية التفاهم والتعاون والعيش المشترك وتمثيل إرادة الأهالي في مؤسسات وممثليات الدولة في الموصل وبغداد. وتسير عملية تطبيع الأوضاع في شنكال وإعادة الحياة إلى سابق عهدها، أي قبل الإبادة في عام 2014، بشكل صعب وبطيء، مع وجود إرادات سياسية متناحرة تحول دون تنمية المنطقة والاتفاق على برنامج وطني لإعادة المهجرين من مخيمات إقليم كردستان. كذلك تحول غياب خطط التنمية وتحديث البنية التحتية وإقامة المشاريع الاقتصادية والخدمية، بالإضافة إلى دخول الدولة التركية بكل نفوذها (عسكرياً وسياسياً) إلى المشهد، وإحداثها التخريب والفوضى، وممارستها التحريض، دون ظهور إرادة شعبية حرة وقوة تنظيمية وعسكرية تمثل إرادة جماهير شنكال بمختلف انتمائاتهم، على غرار ما هو حاصل وموجود في إقليم شمال شرق سوريا.[1]