كيف حوّل الغربييون والصفوييون بعض الأكراد إلى مطايا يركبونها مجاناً، إذْ كان الكُرد فرساناً يقارعونهم؟
علي سيريني
الحوار المتمدن-العدد: 4943
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
إلى القرن الثاني عشر الميلادي كان معظم #الكُرد# غير مسلمين. هذا ما ينقله أحد الأكاديميين الكُرد، مهرداد إزَدي، أستاذ التاريخ في إحدى جامعات أمريكا، عن نظام الملك أبو منصور البغدادي وإبن أثير.
كان الإسلام محصورا بين الكُرد المتاخمين مع العرب المسلمين، في غرب وشمال كُردستان، أي الجزئين الواقعين في شمال سوريا وجنوب شرقي تركيا، المعروفَين عند العرب بجزيرة إبن عمر (جزيرة بوطان). ومن هناك، في منطقة هكاري انتشر الإسلام بين الكُرد الجنوبيين والشرقيين (في الجزئين الواقعين اليوم في العراق وإيران) عن طريق التجارة والعلاقات الإجتماعية، بحسب إزَدي. لذلك تأخر وصول الإسلام في بعض المناطق إلى القرن السادس عشر الميلادي، مثل منطقة هورامان التابعة لمدينة السليمانية، التي دخلت في الإسلام قبل حوالي خمسة قرون، لكنها منذ ذلك الحين أنتجت علماء وأدباء ومثقفين.
لذلك، دخل الكُرد الإسلام طواعية. وما يقال حول إنتشار الإسلام بالسيف في ربوع كُردستان ليس سوى أساطير المتأخرين، الذين يشحذون خيالاً لم ير رماده إلا الردى. لكنهم ما فتئوا متورمين ينفخون في الرماد، من شدة القهر الذي يلاقونه بإهمال شديد من لدن غالبية الكُرد، لأنها لا تأبه بهذه الأساطير قيد أنملة. وهذا التورم المقهور، يتطاير اليوم شرره من مغاور الأحزاب العلمانية والقومية، فوق رؤوس غالبية الشعب الكُردي المسلمة كنوع من الإنتقام. ومنشأ القهر والحقد البالغ حد الإرهاب والقتل، يعود إلى فشل هذه الشرذمة الشاذة من إقناع الشعب الكُردي بترك الإسلام.
كان الإسلام نعمة عظيمة هبت على كُردستان. فما يملكه الكُرد، من حضارة وثقافة ذات قيمة، عائدٌ إلى الإسلام. فمن حجرات المساجد نبت العلم والثقافة والوعي، وانتشر بين قبائل الكُرد ومكوناتهم فنشروا ثماره وأقاموا بها بساتين مزدهرة تجاوزت حدود كُردستان إلى غيرها بعيداً حيث الآفاق امتدت. والأكثر من هذا، قام علماء الإسلام في كُردستان، بتدوين اللغة الكُردية وأنتجوا بها أنواع العلوم والفنون منذ قرون.
وهكذا أوجد الإسلام أرضية مشتركة بين مكونات الكُرد المتنافرة والمتباعدة، وخلق لديهم وعياً بهويتهم كأمة، وثقافتهم كشعب، وأناسٍ ما عادوا أجساداً مهمّشة تشغل حيزاً جغرافياً فقط، بل جزءاً من أمة مجيدة، وهي أمة الإسلام، لها حضارتها وثقافتها وسياستها ووعيها أمام الذات وأمام الآخر المختلف. وبهذا وصل الكُرد إلى سدة عالمية فكونوا ممالك ودول، وشكلوا مع الترك الدولة العثمانية العلية، التي بلغ أوج الكُرد فيها أن امتلكوا أمور الجيش وشغلوا مواقع الباب العالي، وتعليم السلاطين والإستشارة والوزارة. وفي ظل هذه الدولة أنتج الكُرد على المستوى الثقافي أعظم إنتاج أدبي وهو ملحمة (مم و زين) للشاعر والعالم أحمدي خاني، وأعمالا أخرى نفيسة.
خارج هذا السياق الإسلامي، لم يكن لدى الكُردي أي محتوى ثقافي آخر، ولم يكن لديه وعي بشئ آخر غير هذا. ومن أجمل ما سجله أحد أبرز أعلام الكُرد، أمين زكي بك (صاحب خلاصة تاريخ الكُرد وكردستان)، وأحد قادة الجيش العثماني في البلقان هو، أنه لم يشعر يوما أنه كُردي في الدولة العثمانية، إلى أن نادى أعضاء جمعية الإتحاد والترقي، بالقومية التركية ومن ثم العربية ولاحقا الكُردية أيضا.
حين أسقط الغرب الدولة العثمانية عبر مطاياه، شعر الكُرد أنهم هم المستهدفون في الصميم، وأن أعز ما لديهم أصبح عرضة للهلاك: دينهم، وهويتهم، ومجدهم وكيانهم الذي حافظوه بدمائهم ضد الغرب الصليبي، وضد النظام الصفوي الشيعي. وبلغ قهر ونقمة هذين القطبين على الكُرد مبلغا عظيما، بسبب فشل حملات التنصير وحملات التشيُّع التي استهدفت الشعب الكُردي منذ قرون. لكن تلك الحملات تكسرت أمام أقدام الكُرد بفضل عنفوانهم ومراسهم الصعب وطيبتهم الفطرية، وتجذرهم في العلم والثقافة والإيمان الذي حافظ على هويتهم وإنتمائهم وصلابتهم.
فكان أول رد فعل إزاء أتاتورك والعلمنة، قادماً من كُردستان، من قبل عالِمين جليلين أحدهما الشيخ سعيد بيران الذي قاد أول ثورة إسلامية جهادية ضد أتاتورك، والآخر الشيخ سعيد النورسي الذي قاد ثورة علمية ثقافية دعوية أتت ثمارها بتعاقب، مكللة اليوم بنصر التيار الإسلامي بقيادة الطيب أردوغان، كتتويج لجهود من سبقه في هذا الدرب.
ما حدث بعد سقوط الدولة العثمانية هو الجهود المكثفة للغرب والشيعة ضد الشعب الكُردي على مستويين: الأول محاولة تحقير الذات الكُردية وتأريخ الكُرد وشخصيتهم عبر أدبيات رخيصة لا يتسع المجال لذكرها. والثاني دعم الأنظمة والأحزاب القومية العلمانية العنصرية المعادية للإسلام والكُرد، في كل من الدول التي تقتسم كُردستان. ولقد سعت إيران حثيثا، ومثلها دول الغرب، لزرع بذور العداوة والبغضاء بين المسلمين السُنّة، العرب والكُرد في العراق و في سوريا. وما كانت لهذه البذور أن تثمر الخبث المقصود، لولا وجود أحزاب وجماعات رخيصة وفارغة المحتوى والمسلوخة إلا من الإنحطاط، عربية وكُردية، حوّلت نفسها إلى مطايا مجانية للقطبين المعاديين للكُرد والعرب، القطب الإيراني الشيعي والقطب الغربي الصليبي.
ومما يؤسف له اليوم في تركيا، أن التيار الذي يريد أن يتودد إلى الكُرد ويحل قضيتهم، وهو تيار وليد من بساتين الحركة الثقافية والعلمية للكُرد أنفسهم، يلاقي العراقيل والصعوبات من قبل جماعات تلهج لسانا كُردياً، لكنها مسلوخة من الذات والهوية الكُردية، وبعيدة عن التأريخ الكُردي المجيد، وطوعت نفسها لعمالة بذيئة لهذين القطبين المعاديين لجوهر الكُرد وكينونتهم.
ماعدا التيار الكُردي في تركيا، هناك اليوم ثلاثة تيارات رئيسة داخل المجتمع التركي. الأول هو التيار الإسلامي. والثاني والثالث هما التيار الأتاتوركي (يقوده علوي، كمال كليجدار أوغلو) والطوراني (القومي التركي، بقيادة دولت باخجلي)، وكلاهما يرفضان ويعاديان كل ما يمت بصلة إلى ذات وهوية الكُرد. لكن المفارقة أن التيار الكُردي (اليساري القومي الذي يتزعمه تحالف بين اليسار الكُردي والطائفة العلوية)، يغازل التيارين المعاديين للشعب الكُردي (الأتاتوركي والطوراني)، ويحارب التيار الإسلامي بقيادة أردوغان الذي يريد حلا سلمياً للقضية الكُردية (صرّح صلاح دميرطاش، أحد زعماء التيار الكُردي الفائز في الإنتخابات الأخير،ة أنه وحزبه مستعدان للتحالف مع الأتاتوركيين والطورانيين لتشكيل الحكومة، ولكنهما يرفضان أي تحالف مع أردوغان وحزبه!). وهذا التيار الكُردي الصاعد منذ إعتقال عبدالله أوجلان (الكُردي السُنّي)، يحظى اليوم بدعم وتأييد القطبين الغربي والشيعي.
لماذا إنلقب الميزان، وتغير مسار الكُرد نحو المرمى الذي زحفوا باتجاهه في بداية القرن العشرين إبان سقوط الدولة العثمانية، بغية الذود عن هويته الإسلامية، واليوم باتوا ينفرون من المرمى نفسه وقد عاد إليه الإسلام برونق وزهو؟! مالذي حدث منذ ثورة الشيخين السعيدين بيران والنورسي؟
حتى لا أطيل القول، ألخّص الأسباب في ما يلي:
أولا: عانى الكُرد ظلما كبيرا وقمعا شديدا في الدول الإقليمية القومية في العراق وسوريا وتركيا (قواعد السُنّة تأريخياً)، على يد الأحزاب العلمانية القومية العنصرية. هذه الدول ظلت مدعومة من قبل الغرب ضد الشعب الكُردي. إيران، رغم قمعها الشديد للقسم الكُردي في جانبها، لكنها ظلت تلعب بالأحزاب الكُردية في العراق وتركيا.
ثانياً: هذا الأمر ولّد ردة فعل غير عقلانية لدى أوساط كُردية فبدأت تراجع التأريخ بقلّة معرفية وفقر ثقافي ويد خالية، ومن زاوية خاطئة. فبدأت تروج أنّ ما حلّ بالكُرد من ظلم وعدوان، كان نتيجة حتمية لدفاعهم عن الإسلام، ومقاومتهم للغرب في ثوراتهم، مثل ثورة الشيخ سعيد بيران والشيخ محمود الحفيد...الخ. وهكذا وجدنا صورة العلمانية القومية العنصرية العربية والتركية تنعكس في كُردستان، فتشكلت أحزابٌ من نمطها وطينتها، تروّج للأحقاد والضغينة ضد الإسلام، وضد العرب والترك سواء بسواء، ورداً للصاع بصاعين.
ثالثاً: وفي الخفاء وببطء ماكر وخبيث، عمل الغرب وإيران الشيعية على هذه الأوتار في نفخ نيران الأحقاد والعداوة بين الكُرد والترك والعرب، على أساس قومي عنصريّ. في بداية التسعينيات، أثناء كنت أعمل في المعارضة العراقية بدمشق، كنت أسمع مرارا وتكرارا من الإسلاميين الشيعة العرب مقولة أنتم الكُرد مظلومون بيد العرب ولكم الحق في إقامة دولة قومية لكم. بل كانوا يكررون أمامنا، أن الصحابة أجبروا الكُرد على إعتناق الإسلام بحد السيف عبر الفتوحات!
رابعاً: صارت لدى الأحزاب الكُردية العلمانية القومية عقدة نقص مزدوجة تجاه القوميات والدول المجاورة، وكذلك تجاه الغرب عموما وأمريكا خصوصا. فأمست هذه الأحزاب تقوم وتقعد بخفة لا متناهية لكسب ود الجميع، بغية الحصول على المال والقوة (أحياناً كثيرة ضد بعضها البعض، كما في القتال الداخلي لعقود). وهذه الأحزاب أصبحت عاجزة في التخلص من هيمنة القطبين الإيراني والغربي، بسبب ترعرعها في أحضان هاتين القوتين لآماد طويلة، جعلت من شخصيات هذه الأحزاب دمى ضعيفة لا تقوى أمام هيبة وجبروت النظامين الشيعي في إيران، والغربي في أوروبا وأمريكا. لذلك تسابقت هذه الأحزاب حثيثاً لللإنضواء تحت إحدى المظلتين الغربية أو الشيعية. وتحت المظلتين جرت على وتيرة واحدة ونسق واحد، تصرفٌ مشترك بين الغرب والشيعة تجاه هذه الأحزاب الكُردية القومية وهو: أن الغربيين والشيعة علّموا قادة هذه الأحزاب أن تفهم ماذا يريدون منها، حتى من دون النطق بالكلمات! أي أن قادة هذه الأحزاب الكُردية، أمست تفهم سياقات السعي والبغي الغربي والشيعي بالإشارة، بل وأقل من ذلك، بسبب طول الخبرة في العبودية لهؤلاء الأسياد المعادين! فتعلم قادة الأحزاب الكُردية، أن عليها أن تجهّز ظهورها منحنية كمطايا، تحت سيقان قادة وجنود إيران والغرب متى شاءوا، سواء كان ذلك ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أو ضد أردوغان، أو ضد بعضهم البعض (كالقتال في ما بينها منذ الستينيات وإلى مابعد عام 2000). وهذه الضدات لم تقرأ، بل ولم تأبه بمصالح الشعب الكُردي، بل على العكس حرصت على أن تمرغ أنوف الكُرد في أوحال مطواة، عبّدتها شدة ركض القوائم الأربعة للمطايا عليها، ركضا لتحقيق مآرب وفرمانات الغرب طوراً وإيران طوراً آخر.
تلك المطايا التي أسرجتها الصفوية حيناً والغرب حيناً آخر، ومجتمعين في كل الأحايين، ليحققا بها ما عجزا عنه ضد الشعب الكُردي عبر قرون!
والمفارقة أن المطايا تلهج بلسان كُردي، على غراراللسان العربي لأبي رغال، وما أكثر آباء الرغال بين شعوبنا اليوم![1]