الأنظمة القمعية تسقط، لكن الفكر القمعي يبقى إرثًا متجذرًا
خالد علي سليفاني
شاعر وكاتب ومترجم
(Khaled Ali Silevani)
الحوار المتمدن-العدد: 8186
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
سقوط الأنظمة القمعية لا يعني بالضرورة زوال الفكر القمعي الذي يغذيها. قد تتغير الأنظمة السياسية، ولكن الأفكار والممارسات القمعية التي تدعم تلك الأنظمة يمكن أن تظل قائمة وتعيد إنتاج نفسها في صيغ جديدة. تاريخياً، شهدنا كيف أن سقوط أنظمة دكتاتورية لم يضمن تغييرات جذرية في الثقافة السياسية للمجتمعات، بل أدى في بعض الأحيان إلى ظهور نظم جديدة تحمل سمات الاستبداد والقمع نفسها.
إن الفكر القمعي لا يقتصر فقط على الأنظمة السياسية، بل يمتد إلى الثقافة والمجتمع. فالأنظمة الاستبدادية تُرسخ ثقافة الخوف والامتثال، حيث يُزرع في الأفراد شعور بعدم القدرة على التغيير أو مقاومة القمع. هذه الثقافة تظل عميقة في نفوس المواطنين حتى بعد سقوط الأنظمة، مما يجعلهم في كثير من الأحيان غير قادرين على مقاومة الأنظمة الجديدة التي قد تستخدم الأساليب القمعية بعينها.
بعد سقوط الأنظمة القمعية، يواجه المجتمع تحدياً كبيراً في بناء مؤسسات ديمقراطية قادرة على ضمان حقوق الأفراد وحرياتهم. في كثير من الأحيان، تظل المؤسسات السياسية والاجتماعية ضعيفة وغير قادرة على التصدي للأزمات التي قد تطرأ، مما يتيح المجال لظهور نخب جديدة تستفيد من هذا الفراغ لإعادة إنتاج القمع. كما أن غياب العدالة الانتقالية وعدم محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات السابقة يعزز من استمرار الفكر القمعي داخل المجتمع، مما يُعيق تحقيق التغيير الجذري.
وفي النهاية، لا يمكن إغفال الدور الكبير الذي تلعبه العوامل الخارجية في مسار التجارب الديمقراطية. نجاح أي تجربة ديمقراطية حديثة يبقى رهيناً بمصالح الدول العظمى وتدخلاتها في الشؤون الداخلية للدول. هذه القوى الخارجية، التي تتحرك بناءً على مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية، قد تدعم أنظمة جديدة تحقق استقراراً ظاهرياً لكنها تبقي على الفكر القمعي لضمان مصالحها. هذا التدخل يعقد عملية بناء مؤسسات حرة وديمقراطية قادرة على العمل باستقلالية، ويُعيق التغيير الحقيقي.
لكن، ورغم هذه الضغوط الخارجية، يبقى للمجتمع دور محوري في التصدي لاستمرار الفكر القمعي. إذا كان المجتمع متقدماً فكرياً ويملك شعباً واعياً ومثقفا، فإنه يمكن أن يشكل حاجزاً أمام إعادة إنتاج القمع. الوعي السياسي والاجتماعي يمنح الأفراد القوة لرفض الأنظمة الاستبدادية ويساهم في ترسيخ قيم الديمقراطية والعدالة. لذلك، إذا كان الشعب مدركاً لأهمية استقلالية قراره الوطني، فإنه يمكن أن يحمي البلاد من التدخلات الخارجية ويضمن استمرار العملية الديمقراطية بشكل صحي.
تتطلب عملية التجديد الديمقراطي بناء ثقافة جديدة تكرس قيم الحرية والمساواة، بالإضافة إلى إصلاح المؤسسات بشكل يضمن استقلاليتها وقدرتها على مواجهة التحديات التي تطرأ بعد سقوط الأنظمة القمعية. كما أن العدالة الانتقالية ضرورة لضمان محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات السابقة، مما يساهم في بناء الثقة بين الشعب والنظام الجديد.
سقوط الأنظمة القمعية قد يفتح الباب للتغيير، لكنه لا يضمن بالضرورة زوال الفكر القمعي. التغيير الحقيقي يتطلب مواجهة ثقافية وسياسية عميقة، وإصلاحات في المؤسسات وحواراً مجتمعياً يسمح ببناء بيئة ديمقراطية حقيقية بعيداً عن القمع الداخلي والتدخلات الخارجية.
المحصلة، كيفما تكونوا يولى عليكم، فالأمم لا تتغير أنظمتها إلا بتغير ضميرها الجمعي. ما الحكام إلا مرآة لما في المجتمع من أفكار ومعتقدات، فتعبيرهم عن السلطة هو انعكاس لما تسوده النفوس من قيم.[1]