أوجلان يستجوب سجَّانيه
محمد عيسى –
قد يكون الخوض في ماهية فلسفة القائد أوجلان وانبعاثها من بين أربعة جدران وتزايد الإيمان بها رغم المؤامرات وفشلها، يقودنا إلى القول: إنما هو من مكر التاريخ بعينه ذلك الفشل الذي أصاب، بعد ربع قرن من الزمن، مهندسو المؤامرة الدولية على حرية المفكر والقائد الأممي الفذ عبد الله اوجلان.
فأوجلان الفكرة، والرسالة، اليوم لم يكن في خارطة المتآمرين على قضيته إبان اعتقاله. أكثر من حجر. لم يكن ليشكل حجمها هماً كبيراً يصعب إزالته في طريق تقدم بلدوزر الشر والظلم والتعسف والعدوان، بل ظن الساسة الأتراك من حَمَلَةِ التفكير الشوفيني الضيق، يومها…إن تركيا الدولة القوية وذات الثقل البارز في الناتو وفي السياسة الدولية والإقليمية… لا تمارس بهذه الخطوة إلا نَذْرَاً يسيراً من مبررات استمرارها.
ومن مقومات المحافظة على موروثها المبني على صلف القوة والاستهتار بحقوق البشر وكرامة المكونات التي وقعت تحت سيطرتها… وكما هي العادة… وكما هي طريقة تفكير المستبدين والطغاة عبر التاريخ، كان في حساب الطُّغمة الحاكمة في تركيا أن أوجلان شخصٌ متمرِّدٌ على سطوة الدولة ويمارس نشاطاً سياسياً من طبيعة إرهابية ينال به من هيبة الحكومة، وأنه باعتقاله والتنكيل به وبرفاقه سيختفي أي صوت معارض، وأن حالة من اليأس والوهن ستصيب مؤيديه من #الشعب الكردي# وبين الشعوب التي يتحرك لاستنهاضها، وأن بيئة جديدة ستنشأ بعد مصادرة حريته، سيكون من شأنها تسهيل التحايل والالتفاف على شرعية القضايا التي يدعو أوجلان للنضال من أجلها.
وبمعنى من المعاني لم يكن ليراود الجلادون أي درجة من الشك بأن إجهاضاً حتمياً لحركة التحرر الكردية ولقضايا الحق والديمقراطية سيكون في متناول السلطات الحاكمة وستفرضها التطورات اللاحقة… ليتبين بعد ذلك، وبما عكسته التجربة وكرَّسته الوقائع أن خطوة الاعتقال كانت خطأ تاريخياً مركباً، والرِّهان على نجاحها كان خاسراً…
أما لماذا كان مركباً؛ فلأنه في الحقيقة هو خطأين. الأول تقليدي وشائع… ويحصل حين يظن رمز السلطة الجائرة أن البطش والاعتقال والإرهاب سيُوقف وميض الحركة عند الشعوب الثائرة. ثم تأتي في الغالب بعد ذلك تدفقات الطاقة الثورية عند الشعوب الواعية والمعبأة بالقيم الثورية لتكذب المراهنين على تغافل حقائق التاريخ وقوانين الحياة… هو خطأ بالمجمل قائم ومكرر، وقد وقع به الأتراك وغيرهم ويدفعون ثمنه وفقاً لقوانين العدل التاريخية أيضاً.
فحركة الشعوب وكما هي السدود وخزانات الطاقة، تنفجر لا محالة عندما تنضج شروطها، في لحظة سماها الدارسون والفلاسفة بنقطة الوضع الثوري.
أما الخطأ الثاني، فهو خطأ أرعن غير مسبوق ومن نوع جد أخلاقي يتعلق هذه المرة باعتقال مفكر وفيلسوف ومُنَظِّر يعني بتحليل الواقع وتفسير التاريخ، ويهتم بقضايا الإنسان وتطوير المعرفة، لا تمس قضيته شعب بعينه، بل تستهدف كل شعوب الأرض وجميع الحالمين بمجتمع الحق والعدل والديمقراطية.
وهكذا يستطيع اي متتبع حصيف لملابسات المؤامرة الدولية التي تضافرت جهودها من أجل السطو على حرية القائد اوجلان أن يتيقن بأنه، لم يكن ليدور في خلد المتورطين فيها قبل نحو ربع قرن، أنهم يحيكون جريمة من نوع خاص، جريمة بحق العقل، بحق من لم يكن ضيفاً على المعرفة أو صديق الفلسفة. لم يكن ليخطر ببال رجل من نموذج “توركت أوزال” أو “مسعود يلمظ” أن الأجيال ستسجل، وصُنَّاع المعرفة ونقادها سيقولون يوماً، إنه باعتقال أوجلان يكون قد جرى الاعتداء على تاريخ الفلسفة كلها، وستلحقهم هم أنفسهم وجميع المتورطين الدوليين لعنة التاريخ.
ولأن الفكرة لا تقاوم إلا بفكرة من مثلها، فلا شك بأن أعداء الديموقراطية والثقافة ممن شاركوا ومازالوا يمعنون في التضييق على حق المناضل والإنسان الرمز في نيل حريته، قد خسروا الرهان، قد خسروه ليس فقط لنضوب رؤوسهم وبرامجهم من أية أفكار ذات قيمة، بل لأن القيم الأوجلانية التي يُراد وأدها قد أصبحت متجذرة في أوساط أوسع الفئات.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فمن النافل أخذ العبرة من المقولة اللينينية الشهيرة التي تقول: ((حينما تنتشر للأفكار في أذهان الجماهير تتحول إلى قوة مادية))، وإلى ذلك تقول أية مقاربة موضوعية للمسألة الأوجلانية… إنها لم تعد شعاراً سياسياً أو هدفاً نضالياً يأخذ حيزاً في عواطف الجماهير كما يحلم خصومها، بل طريقة في التفكير ومهماز لحركة الحالمين بالخروج من دائرة التهميش والظلم والاغتراب…على مساحة الاقليم وربما إلى ما يتعداه.
وعلى ضوء هذا الفهم يمكن القطع بأن أوجلان والتنظير الأوجلاني في مسائل “الأمة الديمقراطية” المرتكزة على أخوة الشعوب الحرة، وفي السعي إلى إنشاء مجتمع الأخلاق السياسي الذي من مقوماته تعزيز الحريات الديمقراطية والارتقاء بدور المرأة… يصبح هو في موقع من يستجوب سجَّانِيه أمام شعوبهم بِتُهم عديدة.
ليس هذا وحسب، بل صار اسمه يَقضُّ مضجعهم، ويوقظ كوابيس نومهم… وليس أدَلُّ على ذلك، من استحكام الفكرة الواحدة والموضوع الواحد المتمثل بِهَوَسِ تهديدِ ال PKK ومزاعم الخطر القادم من جبال قنديل…في عقل النسق الأردغاني الحاكم طِيلة أكثر من عقدين من الزمن، هذا الهوس الأردغاني الإخواني الحاقد والذي يرجع في قاموسه إلى ال PKK حتى احتباس المطر.
وللوقوف على مسوغات هذه اللعنة، يكفي أن يتخيل المرء الآن، أن الحكومة البريطانية اليوم، أو أية حكومة في دول الاتحاد الأوروبي، تُقدِم على اعتقال شكسبير، أو هيغل، أو فولتير، أو على نمط “فيورباخ” أو “ماركس”. عندها ستكون الصورة أوضح وتصبح تداعيات هذه الجريمة الفظيعة على الذوق والضمير الإنساني أشد وقعاً. [1]