تركيا الوقحة…
وليد جولي-
عادة تتفق الدول والمجتمعات حول أعراف ومواثيق محددة، لضبط الأفعال الخارجة عن المألوف الإنساني، وفق قوانين ناظمة تحمي تلك القيم المشتركة بينها. وكل فعل يكون خارج تلك النظم والقوانين، أو الأعراف المجتمعية والدولية، يجلب الاستنكار أو حتى الإدانة لذلك الفعل الشنيع.
أما إذا كان هذا الشجب والاستنكار من قِبل جهة مشبوهة ومشككة في سلوكياتها تجاه محيطها الاجتماعي والدولي، فهذا ما يسمى “الوقاحة” أي أنك تفعل الشيء نفسه وتنعت غيرك به.
في ظل الأحداث المتسارعة في المنطقة، والتي انحصرت آخرها في غزة، بمواجهة عنيفة بين حركة حماس والجهاد الإسلامي من جهة، وإسرائيل من الجهة الأخرى، ظهرت الكثير من المواقف الشعبية والدولية المتباينة، كان أبرزها الموقف التركي الذي لم يُخل من الوقاحة السياسية. ففي أول تصريح أدلى به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بخصوص القصف الإسرائيلي لغزة، قال: “أي حرب تعتمد على قطع الماء والكهرباء والمدارس، تسمى مجازر”. جاء هذا التصريح بالتزامن مع قصف جيشه بالطائرات المسيّرة والحربية لأكثر المواقع حيوية في شمال وشرق سوريا؛ محطات توليد وتحويل الكهرباء في السويدية وقامشلي وعامودا، ومحطة الدرباسية المغذية لآبار علوك، إلى جانب محطات ضخ مياه الشرب في أماكن متفرقة، فضلاً عن مشفى كوفيد19 في منطقة ديرك (المالكية) وعشرات المراكز الحيوية ومحطات إمداد الطاقة، التي قُدرت خسائرها المالية بأكثر من 56 مليون دولار. كل ذلك من وجهة نظر تركيا تسمى (حماية الأمن القومي)، ولكن في غزة تسمى مجازر، أليست هذه وقاحة؟!
ليأتي تصريح وزير الخارجية التركية، هاكان فيدان، الأوقح من تصريح رئيسه بخصوص “الاحتلال والاستيطان”، فيقول: ” تحتلون أرض شخص وتصادرون منزله وتطردونه، وتحضرون شخصاً آخر وتضعونه مكانه، وتطلقون عليه اسم “مستوطن”هذا اسمه سرقة”. هذه التصريحات لدولةٍ احتلت أكثر من 9 آلاف كم مربع، من الأراضي السورية، يفعلون فيها ما يفعلون من التنكيل والتهجير القسري لشعوبها الأصيلة، ويبنون المستوطنات في ممتلكاتهم بعد قطع الأشجار، وجرف الأراضي الزراعية في #عفرين# وسري كانيي (رأس العين)، ويسكنون فيها من طاب لهم من العوائل التركمانية والعربية، تحت مسمى “الأمن القومي التركي” و”المنطقة الآمنة”، ليس هذا فحسب، بل أنها (تركيا) تعمل على إسكان أكثر من 500 ألف فلسطيني في الأماكن نفسها، أليست هذه وقاحة؟ وهل تملك تركيا الحق في التصرف بأملاك دولة أخرى، والتلاعب بديمغرافيتها؟
أعتقد لو كانت هناك حماية دولية حقيقية للمواثيق والقوانين الدولية، لما تجرأت الدولة التركية وغيرها على الاستهتار بها، فما قامت به في شمال وشرق سوريا كان انتهاكاً صارخاً لمبادئ القانون الدولي الإنساني العرفي والاتفاقي معاً، ناهيك عن خروقات أنقرة لاتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 والبروتوكولان الإضافيان لعام 1977 والتي قد ترقى إلى جرائم حرب، فهي (الدولة التركية) تنتهك -وفي تحدٍ واضحٍ للمجتمع الدولي- المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني العرفي، وخاصة القاعدة السابعة من قواعد اللجنة الدولية للصليب الأحمر. فهذه القاعدة الأخيرة تلزم الدول في حالة نزاع ما، على وجوب التمييز في جميع الأوقات بين الأهداف العسكرية والمدنية، ولا يجوز أن توجه الهجمات إلى الأعيان المدنية.
من جهة أخرى تندرج الاعتداءات التركية الأخيرة على مناطق شمال وشرق سوريا، ضمن خانة “الانتهاكات الجسيمة” للقانون الدولي في سياق حرمان ملايين السكان المدنيين من الكهرباء والغاز الطبيعي ومياه الشرب، فوفقاً للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فأن هذه المصادر الحياتية حق طبيعي ومتأصلة في جميع البشر، بغض النظر عن لونهم، أو جنسيتهم، أو دينهم، أو لغتهم.
صحيح أن الدولة التركية تتذرع بالمادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة التي تكرس الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم، إذا اعتدت قوة مسلحة على إحدى الدول الأعضاء في “الأمم المتحدة”، لكن هذا يتنافى مع سلوكيات قوات سوريا الديمقراطية، المنشغلة منذ تأسيسها بقتال تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” بالشراكة التحالف الدولي، ولم تظهر يوماً موقفاً معادياً لتركيا، إلا في حالات الدفاع المشروع، سواء في حالة الغزو التركي لعفرين، أو سري كانيي ( رأس العين).
ومن جهة أخرى ننوه أيضاً إلى أن هذا الحق في الدفاع عن النفس -إن صح- فأنه يبقى مقيداً بضرورة إخطار وتدخل مجلس الأمن واتخاذ التدابير اللازمة، لحفظ السلم
والأمن الدوليين، بحسب المادة (51) وبمقتضى سلطته ومسؤولياته المستمدة من أحكام ميثاق الأمم المتحدة – من الحق في أن يتخذ مجلس الأمن الدولي في أي وقت ما يرى ضرورة لاتخاذه، من الاعمال والتدابير لحفظ السلم والأمن الدوليين، أو إعادته إلى نصابه الصحيح.
بالنهاية، فإن السياسة التي تنتهجها الدولة التركية في المنطقة، بعيدة كل البعد عن الضوابط والأعراف الأخلاقية، والقانونية، والإنسانية، ولا يمكن إدراجها في السياقات الدولية والاجتماعية المعمولة بها، إلا في سياق “البلطجة” وعدم الاحترام للقيم والمبادئ التي اتفق عليها المجتمع الدولي، بالتالي فأن استمرارها في هذا النهج سوف تدفعها نحو العزلة الدولية أكثر مما هي عليه الآن. [1]