عرفته قبل ما يزيد على عشرين عاماً من خلال كتاباته، التي كان ينشرها في بعض الدوريات، ثم التقيت به في بيته في #هولير# يوم 14. 08. 2015 أثناء زيارة لي إلى اقليم كردستان، حيث عرفته عن قرب، و تلقيت منه هدية هي كتابه #الكردلوجيا# / موسوعة موجزة، الذي يمكنني القول إنه من أهم الهدايا التي عدت بها من اقليم كردستان في زيارتي الأخيرة صيف هذا العام.
إنه الكاتب و الناقد و الباحث و الشاعر جلال زنكابادي، الذي تطارده و أسرته أمراض متعددة ألقت بثقلها على ستة من أفراد أسرته بمن فيهم هو نفسه، إلا أنها رغم شراستها لم تستطع أن تنال من عزيمته في الإبداع و الترجمة و التأليف و مراجعة كتب الآخرين، فقد دخل ميدان الكتابة منذ عام 1963، و هو ينشرفي الصحف منذ عام 1967، و صدر له بين عامي 2004 و 2014 عشر ون كتاباً توزَّعت بين القصة و الشعر و التأليف و الترجمة التي تعينه فيها معرفته باللغات الفارسية و الانكليزية و الاسبانية و التركية فضلاً عن اللغة العربية و الكردية بلهجاتها الرئيسية. و لم يفقده فقدانُه السمعَ التواصلَ مع الآخرين، كما لم يقعده عن البحث و الترجمة و الإبداع.
كتابه الموسوم أعلاه صادرعن مطبعة جامعة صلاح الدين في هولير باقليم كردستان عام 2014، يقع في 422 صفحة من القطع الكبير، و ينتهي بملحق للخرائط و صور شخصية لعدد كبير من الكردلوجيين بلغ تعدادها 58 صورة.
يستهلُّ الباحث كتابه بتعريف الكردلوجيا بأنها حقل من حقول الاستشراق يتشعَّب مشتملاً على كل كتابة (مقالة، تقرير، بحث، دراسة)، تتناول ما يتعلق بالكرد و كردستان من جغرافيا، تاريخ، لغة، فولكلور، أدب، فنون، ديانة، عادات، تقاليد، عمارة، آثار، سياسة، اقتصاد و أزياء في الماضي و الحاضرص7. و يرى أنه من الصواب أن تتوسَّع دائرة الكردلوجيا لتضم كل المعنيين بالشؤون الكردستانية من الأجانب الغربيين و الشرقيين، و ضمنهم حتى المنحدرون من الأرومة الكردستانية. ص7. ثم يتتبَّع جذور الاستشراق، فيراها ضاربة في عصور التاريخ القديم، إبان الحروب الناشبة بين الامبراطوريتين اليونانية و الفارسية، حيث طالما كانت كردستان مسرح حرب هوجاء، و يرى أن بالإمكان اعتبار زينوفون (؟ 430 / ؟ 354 ق.م) مع المؤرخيْن هيرودوت (؟ 484 / ؟ 425 ق.م) و سترابون (؟ 64 / ؟ 23 ق.م) من أقدم المستشرقين بشكل من الأشكال. و يرى أن الاستشراق يتصف بتعددية تياراته العلمية و الفكرية و السياسية، و من هنا كانت له مذاهبه و مدارسه، فمدرسة الاستشراق الفرنسي، حسب الدكتور نوري شاكر، خطت لنفسها طريقاً خاصاً بها إذ حوَّلت الاستشراق إلى أداة معرفية قادرة على استشراف المستقبل، حتى لو رافقته محاولات كان هدفها كولونيالياً ص8، و ارتبطت بمؤسسات المجتمع المدني و بمراكز الأبحاث الجامعية المستقلة عن السلطة السياسية ص8. و من هنا فهي تختلف عن المدرسة الاستشراقية الأنغلوسكسونية المرتبطة بمراكز القرار السياسي و العسكري و بجماعات الضغط و اللوبيات المختلفة ص8. و من هنا كان المستشرقون الفرنسيون أقرب إلى الثقافات المحلية للمجتمعات الإسلامية التي عايشوهاص8.
و إذا كان كلٌّ من (التبشير) و (الاستعمار)، متواشجين أحياناً، دافعين للاستشراق، و بضمنه الكردلوجيا، فإن للكردلوجيا منذ نشأتها غايات سياسية و اقتصادية و دينية و علميةص8،و من هنا يعزو الباحث الكردلوجيا إلى الموقع الجيوبوليتيكي لكردستان باعتباره من أبرز الدوافع لنشأتها في بلدان الغرب إبان تطلعها لاحتلال الشرق، و بضمنه كردستان المقسَّمة عصرئذٍ بين السلطنة العثمانية و الدولة الفارسية (ثم القاجارية) لحاجتها إلى معرفة الكرد على الصعد كافة بغية إقامة العلاقات معهم، و تعبئتهم لتحقيق غاياتها على الصعيد الاقتصادي بحيث كانت تسعى إلى إيجاد سوق لتصريف بضائعها و الحصول على المواد الخام إبان الثورة الصناعية، و على الصعيد الديني، حيث كانت تسعى إلى نشر الديانة المسيحية في أرجاء السلطنة العثمانية و بلاد فارس بحجة الاهتمام بالمسيحيين القاطنين فيهما، و على الصعيد العسكري و السياسي، حيث كانت كل من بريطانيا و بروسيا (ألمانيا) و فرنسا تدعم السلطنة العثمانية عسكرياً و مالياً و سياسياً ضد توسُّع روسيا القيصرية، و لذلك كانت تبتغي استمالة الكرد إليها و تسخيرهم عسكرياً، في حين كانت تساهم في قمع انتفاضاتهم و ثوراتهم لصالح حليفتها السلطنة العثمانية، بينما كانت روسيا القيصرية تسعى أيضاً إلى استمالة الكرد المتواجدين فيها و في أرجاء الامبراطوريتين العثمانية و الفارسية، و كانت في الوقت نفسه تشارك في معاداة الكرد و قمع حركاتهم التحررية، كما حصل في ثورة الشيخ عبيدالله نهري.ص9.
و يرى الباحث أن الكردلوجيا، حسب الدكتور خليل جندي، مرَّت في ثلاث مراحل: الأولي هي مرحلة تنافس الدول الأوروبية، إثر الثورة الصناعية، للاستيلاء على سوق كردستان، و استمرت حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى. و الثانية هي المرحلة الكولونيالية – الامبريالية، و ابتدأت مع الحرب العالمية الأولى و مازالت مستمرَّة، للاستيلاء على ثروات كردستان، و لاسيما البترول. و أما المرحلة الثالثة، فقد بدأت في عصر التكنولوجيا و العولمة بعد 11 أيلول سبتمبر عام 2001، و هي تشمل العالم كله وليست كردستان فقط . ص9.
يرى الباحث، بالاستناد إلى ما مرَّ أعلاه، أن للاستشراق، و بضمنه الكردلوجيا، دور كبير في رسم و تنفيذ سياسات البلدان الغربية الكولونيالية، فقد كان أكثر المستشرقين مستشارين بصورة مباشرة أو غير مباشرة لسلطات بلدانهم، التي استندت إلى أبحاث و دراسات و تقارير القناصلة و المبشرين و الجواسيس و غيرهم، من أمثال الميجر سون و مس بيل، في خططها السياسية و الاقتصادية تجاه السلطنة العثمانية و الدولة الفارسية ثم القاجارية، بل في رسم خارطة الشرق الأوسط إبان الحرب العالمية الأولى، لتوزيع ميراث (الباب العالي العليل) حسب اتفاقية (سايكس بيكو)، حيث حُرِّمت الأمة الكردية من أي كيان سياسي قومي خاص بها، بل جرى تمزيق وطنها التاريخي (كردستان) و توزيع أشلائها على أربع دول.... فأصبحت، حسب الكردلوجي الكبير اسماعيل بيشكجي مستعمرة دولية.... ص9.
و ينتهي الباحث هنا إلى أن ثلاثة عوامل تواشجت و حرَّمت الكرد من حق تأسيس دولة كردستان.... هي العامل الجيوبوليتيكي و العامل الاقتصادي (النفط خاصة) و العامل الديني (الإسلامي)، فبالرغم من أن الكرد كانوا في أغلب العهود محكومين من قِبَل حكام عرب و فرس و ترك باسم الإسلام، و أن العرب و الترك و الفرس يدينون بالإسلام، فقد ظلت ذكرى إحباط الحروب الصليبية على أيدي القائد صلاح الدين الأيوبي و الأيوبيين الكرد عالقة بأذهان المستعمرين الأوروبيين، و لمّا تزل.ص10.
و يرى الباحث أن عجز الحروب الصليبية عن تحقيق غاياتها، حدا بالاستشراق إلى أن يهدف إلى النيل من الإسلام في بادئ الأمر، لكنه، حسب الدكتور كمال مظهر أحمد تحوَّل بالتدريج إلى علم قائم بذاته، قدَّم أجلَّ الخدمات في مضمار دراسة التاريخ و آداب شعوب الشرق بصورة خاصة. و قد ألَّف الاستشراق حلة متميزة بالنسبة للكرد، ففي الوقت الذي شوَّه الأقربون، يقصد العرب و الفرس و الترك، أهمَّ و أجلَّ صفحات تاريخهم، نرى المستشرقين يعالجون العديد من صفحات ذلك التاريخ بروح علمية منصفة من خلال قراءة صحيحة غير متحيزة لأحداثه و وقائعه على شتى الصعد القديم و الوسيط و الحديث و المعاصر منه....ص10.
ولكن الباحث يرى أنه من الخطأ تعميم هذا الحكم بشكل مطلق، فبعض ما تركه المستشرقون هزيل مليئ بالأغلاط و التلفيقات و الأضاليل، و بعضها لا بأس به، و بعضها الأقلَّ راق يمكن التعويل عليه، و يستحق أجلَّ تثمين ص10.
و قد قدّم الاستشراق العديد من الكتب و البحوث و الدراسات، منها الغث و منها السمين، و فيها الكثير من الاختلاف في الرؤى تبعاً لدوافع مؤلفيها و تكويناتهم العلمية و الأيديولوجية.... و أكثرها تجافي الواقع و الحقيقة، و تشوبها الأخطاء و الأغاليط، و لذا تستوجب الاستقراء و النقد ص10. و هذا ينسحب على الكردلوجيا أيضاً بصفتها شعبة من شُعَب الاستشراق ص10.
و في ختام تتبُّعه لنشأة و تطوُّر الاستشراق، يذهب الباحث إلى أن أهم مغنم في مضمار الاستشراق بما فيه الكردلوجيا هو علمي سياسي، حيث استقلت الكردلوجيا عن الإيرانلوجيا، فاعترفت باستقلالية الكرد كقومية لها تاريخها و هويتها الثقافية عبر الاعتراف باستقلالية لغتها الكردية عن اللغة الفارسية و تدريسها في الجامعات الأوروبية، و الاهتمام بها من قِبَل أساطين الكردلوجيا من شتى الشعوب و الأمم. ص11.
و نظراً للدور الذي تلعبه الكردلوجيا في رسم السياسات الأوروبية و الأمريكية، يقدم الباحث مقترحات يرى الكردَ أحوج ما يكونون إلى ترجمتها عملياً، و هي:
1.قراءة طروحات الكردلوجيين و الكردلوجيات قراءة نقدية موضوعية من أجل استنتاج ما يجدي أمتنا الكردية...
2.قيام المختصين الكرد بالأبحاث و الدراسات المعمَّقة في الشؤون الكردية و ترجمتها إلى اللغات الأخرى..
3.تأسيس مركز خاص في كردستان يُعنى بترجمة الأعمال الكردلوجية من اللغات الأوروبية و نشرها.
4.فتح معاهد و مراكز أبحاث تُعنى بالكردلوجيا في البلدان الأوروبية و أمريكا و غيرها، و تشجيع الراغبين من أبناء الجالية الكردية و أبناء تلك البلدان على الدراسة فيها.
5.تأسيس جمعية أو رابطة لكردلوجيي العالم و عقد مؤتمر سنوي لشؤون الكردلوجيا و إطلاق جوائز سنوية لأفضل أعمال منشورة في كردستان و خارجها..
بعد ذلك يعرَّف الباحث موسوعته بأنها موسوعة هجينة ( ترجمة و تأليف و إعداد) حاول ما وسعته المحاولة أن يقدّم ما في مقدوره ممن كرَّسوا أكثر حراكهم الثقافي للكردلوجيا، فهي موسوعة موجزة قدّم فيها ثلاثة، أبحاث أحدها للكردلوجية الإيطالية ميريلا كاليتي (19492012م) و تعريب الدكتور يوسف حبي، ص 15 40، تتبّع فيها الكردلوجيا الإيطالية ما بين القرنين الثالث عشر و التاسع عشر الميلاديين.
و الثاني يقدم فيه لمحات من تاريخ الكردلوجيا الألمانية ترجمةً و إعداداً ص 4150، فيرى أنه ربما كانت رحلة الصائغ البافاري يوهان اسكلتبرغر (الصحيح شيلتبيرغر) (13941427م) المنشورة سنة 1473 م أقدم مصدر ألماني ورد فيه ذكر الكرد. ص41، و يتتبع بعد ذلك كل ماصدر في اللغة الألمانية، سواء من قِبَل الألمان أو النمساويين أو السويديين في حقل الكردلوجيا حتى الربع الثالث من القرن العشرين. و هو إذ يرى أن رواية (عبر كردستان الموحشة) للروائي الألماني كارل ماي (18421912م) قد لعبت دوراً كبيراً في إشهار اسم الكرد ليس في ألمانيا وحدها، بل في سائر البلدان الأوروبية، فإننا يمكننا أن نلمح في الوقت نفسه دعوته إلى متابعة الكردلوجيا الألمانية بدقة و استقراء شديدين، ذلك لأنها لا تخلو من مقالات و دراسات تصف الكرد بالقسوة و اللصوصية و قطع الطرق و سفك الدماء، لاسيما ما نجده في أعمال موريتز فاكنر و نولدكة والمؤرخ النمساوي فون همر و غيرهم ممن كانوا على صلة بالدولة العثمانية عسكريين أو موظفين، فكتبوا ما يروق لها، أو ما أملته عليهم مصالحهم لدي السلطنة العثمانية.
بعد ذلك يتتبع الباحث الكردلوجيا في روسيا و الاتحاد السوفياتي السابق، من خلال بحث للدكتور عبدالرحمن معروف، يترجمه إلى اللغة العربية ص 5159، ويرى أن بداياتها تعود إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر، من خلال (القاموس المقارن لكل اللغات و اللهجات) الذي نشرته اكاديمية العلوم الروسية في بطرس بورغ عام 1787م. ثم يتتبع ما كتبه الكردلوجيون الآخرون من أمثال ف. ديتيل و خ آبوفيان و أي بيريزين و ب. ليرخ، لينتقل بعدها إلى الكردلوجيا السوفياتية، فيفصَّل فيها القول متتبعاً ما صدر في هذا الحقل في كل من يريفان و لينينكراد (بطرس بورغ) و موسكو و باكو. و هو يرى أن العهد السوفياتي يمثِّل العصر الذهبي للكردلوجيا في العالم قاطبة، و إثر انهيار الاتحاد السوفياتي اضمحلت الكردلوجيا في روسيا و أرمينيا و آذربيجان. ص 51.
ثم يقدّم اثنين و عشرين كردلوجياً و كردلوجية بمن فيهم الكرديان العلاَّمة محمد مُكري و الدكتور كريم أيوبي، معرِّفاً بهم و بآثارهم، ليشغل هذا القسم الصفحات 61 210، ثم يقدّم سبعة عشر عملاً من أعمال بعضهم الآخرين،و يشغل هذا القسم من الكتاب الصفحات 211330، أما القسم الرابع من الكتاب، فيشغل الصفحات 331390، و هو يشتمل على ترجمة ثمانية حوارات أجراها آخرون مع بعض الكردلوجيين و الكردلوجيات. ثم ملحق للخرائط و الصور ص391 418. و لا ينسى الباحث تقديم شكره لوزارة الثقافة في اقليم كردستان لتعضيد طبعها الكتاب، و كذلك لإباء الأنباري و فرساد هاجاني لِما لقي منهما من عون، كل بطريقته.
و أخيراً يثبت الباحث ما يشبه سيرته الذاتية في الصفحات 420422، عارضاً فيها أعماله التي تتنوَّع بين الإبداع و التأليف و البحث و الترجمة و مراجعة كُتُب الآخرين. و هو يعمل الآن على إعداد طبعة ثانية مزيدة و منقحة لهذا الأثر الغني، يتلافى فيها ما اعترى هذه الطبعة من نقص أشار إليه بنفسه في ص 11رغم أنها عمل غير مسبوق في أية لغة أخرى حتى الآن.
إنه كتاب جدير بالقراءة، ولاسيما من قِبًل المهتمين بالشؤون الكردستانية، و دعوة صادقة لأبناء كردستان لإيلاء هذا الجانب المعرفي حول الكرد و كردستان الاهتمام الكبير، على أن يأخذوه بالقراءة الدقيقة و النقد و الاستقراء.[1]
.
ايلاف