إحدى أهم الواجبات الثورية التحدّث أو الكتابة عن شخصيات رفاقنا الشهداء. وبدون شك فإنّه من الصعب جدّاً الإجابة على سؤال إلى أي مدى بإمكاننا التعبير بكلماتنا عن وجودهم وحياتهم وبسالتهم كما يستحقّون؟. ومع ذلك فمن مسؤوليتنا الحفاظ على نتاجات وذكريات رفاقنا ومشاركتها، وأن نعيش ونناضل بالاهتمام بأهدافهم وجهودهم ورفاقيتهم واستشهادهم لنصل لتحقيق أحلامنا وأمانينا المشتركة. سطّر عشرات الآلاف من شهداء قضية تحرير المرأة والمجتمع الكردستاني التاريخ بالإيمان بفكر وفلسفة القائد آبو وما زالوا يسطّرون. وعلى الرغم من الأفكار والأهداف المشتركة أصبح كلّ واحدٍ منهم كاتباً لتاريخ حرية المرأة التي تنتظر من يكتبها بأسلوبٍ مختلف. وقد سطّر البعض من رفاقنا جزءاً من هذا التاريخ بحياتهم ومواقفهم وعملياتهم. وسطّره بعضهم بكلماتهم وأقلامهم، وسطّره آخرون بقصائدهم وأغنياتهم.
في ال 4 من تشرين الأول الجاري؛ ومرّةً أخرى استهدفت قناصة النظام الأبوي الفاشي إحدى قياديّات حركة حرية المرأة وعضوة أكاديمية الجنيولوجيا (علم المرأة)؛ #ناكهان آكارسال# في مدينة #السليمانية#. علينا التعرّف على حياة ونضال وشغف ورفاقية الرفيقة ناكهان لنتمكّن من الانتقام لها بطريقةٍ مثمرة ونحوّل غضبنا من هذا الفعل الوحشي لحملة جديدة في ثورة المرأة.
وُلدت الرفيقة ناكهان في قريةٍ كرديّة تُدعى خَليكان تابعة لمدينة قونيا عام 1976. ونشأت هناك على ثقافة ولغة وقصص كرد الأناضول الأوسط. ويحتوي المجتمع الكردي في الأناضول الأوسط على فسيفساءٍ من الثقافة والتاريخ والمعتقدات العريقة للعديد من المناطق الكردستانية وقد قاوم وصمد أمام سياسات الإبادة والقمع لقرون. وقد أثّرت خصائص هذه الثقافة في شخصية ونهج الرفيقة ناكهان. وربّما يكون حبّها للطبيعة واحتضانها لمعنوية المرأة والحياة الريفية متجذّراً في الجذور القوية لثقافة العصر النيولوتي التي حافظت على طبيعتها أمام تدخّل حضارة الدولة. كما يمكن أن تكون إحدى دوافع موقفها الواضح حيال جميع أنواع الظلم وجهودها العظيمة لتحقيق وحدة الشعب في كردستان مرتبط بتاريخ المجتمع في هذه المنطقة.
تمّ تهجير معظم أفراد المجتمع الكردي في الأناضول الأوسط من مواطنهم الأصليّة في المناطق الكردستانية المختلفة قسراً بأوامر وفرماناتٍ من الإمبراطورية العثمانية وقد أعادوا تأسيس حياتهم ببناء قرىً لهم في سهل الأناضول الأوسط. لقد جلبت كل قبيلة معها ثقافتها ولهجتها وطقوسها وشاركوها معاً. وربّما هذا هو سبب تميّز الرفيقة ناكهان بسرعة بناء علاقاتٍ ودّيةٍ صادقة مع النساء، الأطفال والشيوخ وكبار السن من جميع أنحاء كردستان. لقد كانت تجد جانباً يرتبط بها في ثقافة ومعتقد وكلمات كلّ منطقةٍ. ورغم أنّ الرفيقة ناكهان قد درست في المدارس التركية وباللغة التركية جميع مراحلها الدراسيّة من الابتدائيّة إلى المرحلة الجامعيّة إلّا أنّه لطالما كانت حقيقة وطنها كردستان هي نفسها في قلبها.
وقد نظرت لحقيقة المرأة بالطريقة ذاتها؛ ولهذا كان وجود وهوية المرأة مرادفاً لآلهة وخالقة المجتمع الطبيعي. كان يبدو لي هكذا أحياناً لأن ناكهان لم تكن تقبل الانقسام والاغتراب، فقد كانت تحلّل واقع المرأة والمجتمع المضطهد اللذان انفصلا عن طبيعتهما تحت تأثير سلطة الرجل والدولة بحدسها التحليلي فقط ولم تعتمد على الجانب العاطفي يوماً. ونظرتها هذه للمرأة والحياة مكّنتها من احتضان واجباتها البنّاءة كامرأةٍ ثوريّة بصدقٍ وإخلاص.
بدأت المسيرة الثوريّة للرفيقة ناكهان بشكلٍ منظّم خلال التسعينات (1990)، عندما كانت طالبةً كليّة الإعلام في جامعة غازي في أنقرة. وقد انضمّت إلى أنشطة اتحاد شبيبة كردستان (YCK) خلال المرحلة التي بلغت فيها ضغوط الدولة التركية الفاشيّة وقمعها الذروة وتمّ إحراق آلاف القرى في باكور كردستان. وقد وجدت الإجابة على بحثها كامرأة كرديّة عن الحقيقة، الحب والحرية في حقيقة القائد آبو؛ في نضال وحياة حركة الحرية. وقد كانت فلسفة وتقييمات القائد آبو المصدر الأول لقوتها وإلهامها وجميع أعمالها وتعاملها مع الحياة والنضال. ورغم تعرّضها للاعتقال من قبل النظام التركي الفاشي عام 2001 وبقائها في السجن كمعتقلةٍ سياسيّة لمدّة ست سنوات إلّا أنّ حماسها الثوريّ لم يتضاءل يوماً. وبقدر ما كانت تحبّ العمل الجماعي والروح الرفاقيّة بقدر ما كانت تعتبر نفسها مسؤولةً عن تطوير أفكار ومشاريع
بعد خروج الرفيقة ناكهان من السجن، عملت في الإعلام واتّخذت مكانها أوّلاً كمؤسّسة وقائدة وكاتبة وعاملة في عملية تأسيس أوّل وكالة أنباءٍ نسائيّة (JINHA). وقد بذلت من خلال دراساتها وأبحاثها عن اللغة وواقع المرأة جهداً في خلق أسلوبٍ إعلامي جديد من وجهة نظر المرأة وعزمت على ذلك. لقد تمكّنت من مخاطبة النساء في جميع شرائح المجتمع ليتمكّنوا من التعبير عن أصواتهم وآرائهم. وبهذه الطريقة قامت ببناء واستدامة شبكات تضامن ورفاقيّة المرأة. وقد أظهرت الرفيقة ناكهان الإبداع ذاته في تأسيس أعمال الجنيولوجيا (علم المرأة).
لقد بقي الفضول والشغف اللذان شعرت بهما عندما قرأت كلمة الجنيولوجي للمرّة الأولى في دفاع سوسيولوجيا الحرية للقائد آبو حيّين دائماً. لم تتوقّف أبحاثها ودراساتها وتساؤلاتها يوماً. وبالتحديد منذ عام 2015 فصاعداً؛ اعتبرت ناكهان نفسها مسؤولةً عن تعريف الجنيولوجيا كمفهوم، وإحيائه كنظريّة ومنهج وبنائه واستدامته كبناء حديث، برغبةٍ وشغفٍ وحبّ كبير. وإلى جانب جهود الرفيقة ناكهان؛ أصبح الجنيولوجيا خلال السنوات السبع الأخيرة معروفاً كعلمٍ للمرأة والحياة في المجتمع الكردستاني من جهة ولدى النساء المدافعات عن الحريّة من جهةٍ أخرى وأصبح مصدر أملٍ في النضال في سبيل بناء حياةٍ حرّة ومجتمعٍ حر.
لقد لعبت الرفيقة ناكهان دوراً بارزاً في تنظيم عمل مجلة الجنيولوجيا من جهة. إذ كانت تبتكر توجيهات جديدة بصفتها كاتبةً وعضوة في هيئة النشر في المجلة وطوّرت المجلّة كمدرسةٍ ومنصّةٍ للنقاشات المتعدّدة الأوجه حول علم، وحياة وثورة المرأة. وبالإضافة إلى ذلك لقد شدّدت على تطوير عملية إتاحة الفرص لتبادل البيانات النظريّة، التاريخية، الثقافية، الاجتماعية والتجارب النضاليّة لنساء كردستان والعالم بشكلٍ أكبر. وفي هذا الصدد، أجرت الرفيقة ناكهان أبحاثاً عميقة حول تطوير لغةٍ تخاطب الجميع لعلم المرأة بحيث يعزّز التفاهم والتقدير المتبادلين.
لقد عملت الرفيقة ناكهان بدقّةٍ واهتمامٍ كبير في أنشطتها التدريبيّة وأبحاثها الاجتماعية التي أجرتها في مناطق شنكال وروج آفاي كردستان. وبقدر ما كانت تشارك معرفتها وتدير نقاشاتٍ عن تاريخ المرأة وطبيعتها بقد ما كانت تعتبر التعلّم من النساء المختلفات خلال التدريب والحياة أمراً أساسيّاً بالنسبة لها. لقد كان إيمانها بالمعرفة القديمة للمرأة والذكاء العاطفي كوسيلةٍ للوصول إلى الحقيقة قويّاً. وتقول العديد من النساء اللواتي شاركن في تدريبات أو نقاشات أو محاضرات الجنيولوجيا التي أجرتها الرفيقة ناكهان ما بين عامي 2017 و2019 في مناطق عفرين، كوباني أو الجزيرة إنّهن اكتسبن قوةً وثقةً جديدة بالنفس من هذه النقاشات واتّخذن خطواتٍ جديدةً في حياتهن. فقد أدركن قيمة وجودهنّ ومعرفتهنّ اللتان تمّ تجاهلهما سابقاً.
وفي منطقة عفرين بالتحديد، زارت الرفيقة ناكهان قراها قريةً بقرية لجمع معلوماتٍ عن تاريخ وأسماء القرى والاستماع لقصص وتفسيرات النساء. وعلى وجه الخصوص، جذبت انتباهها مجموعة من النساء في قرية روتا التابعة لناحية موباتا. إذ لم تتحدّث تلك النساء عن ثقافتهنّ وأعمالهنّ بفخرٍ وحسب بل ابتكرن لغةً خاصة بالنساء تعلّمها الأمهات فقط لبناتهنّ. وبهذه الطريقة حافظت هؤلاء النساء على أسرارهنّ. وقد شاركت العديد من النساء اللواتي لم تشاركن أسرارهنّ عن الألم والسعادة مع أحد قبلاً، أسرارهنّ ومعرفتهنّ هذه مع الرفيقة ناكهان لأنّها منحتهنّ الثقة بأنّها ستقيّم تلك المعلومات بهدف تطوير أساس الجنيولوجيا ولمصلحة جميع النساء.
وبهذه الطريقة، شعرت العديد من النساء بأنّهنّ من مؤسّسي وعلماء الجنيولوجيا. أثبت اكتشاف آثار الأم الآلهة في جغرافية وطبيعة وأماكن وثقافة ومعتقدات عفرين والمقابلات التي أجرتها مع عشرات النساء، لناكهان أنّ ثورة المرأة الثانيّة ستزدهر مرّةً أخرى على جذورها الراسخة؛ جذور ثورة النيوليتيك وتنتصر.
بعد عملية تأسيس أكاديمية الجنيولوجيا ومركز أبحاث الجنيولوجيا (مركز أبحاث علم المرأة) في روج آفاي كردستان، توجّهت الرفيقة ناكهان إلى باشور كردستان. ومنذ عام 2019 أدارت الرفيقة ناكهان أعمال أكاديمية الجنيولوجيا في مدينة السليمانية إلى جانب مواصلتها لأعمالها في التدريب وإجراء أبحاثٍ عن ثقافة مقاومة المرأة في باشور وروجهلات كردستان. وشيئاً فشيئاً أقامت وطوّدت علاقاتها مع النساء السورانيات، أقامت معسكرات للفتيات الشابات، وندواتٍ بمشاركة النساء والرجال الأحرار ونظّمت معارض للرسم والفعاليات الفنيّة. وقد أصبح كل عمل وعلاقة بمثابة حجر أساسٍ وإحدى أركان المشروع التي كانت تصفها الرفيقة ناكهان ب حلمي؛ إنشاء مكتبة وأرشيف نساء كردستان. لقد جمعت ونظّمت النساء حول هذا المشروع التاريخي باهتمام وإيمان وحبّ كبير لتتمكّن المرأة بعد الآن من بحث واستكشاف ومعرفة وكتابة ثقافتها وتاريخها بناءً على مصادرها الأصليّة.
بريادة جهود الرفيقة ناكهان، ضمن الجنيولوجيا (علم المرأة) من خلال التجارب النضاليّة والحياتيّة؛ هويته كعلم لثورة المرأة، علم التعايش الحر وعلم الحداثة الديمقراطية. نرى يوميّاً أنّه في الأماكن التي يرتبط فيها واقع المرأة وثورة المرأة بمفهوم علم المرأة، يعزّز كلّ من علم ونضال حرية المرأة أحدهما الآخر وأنّها تشهد تطوّرات لافتة. هذه القوة هي قوة المرأة التي يهابها النظام الحاكم. لأنّ هذه القوة تشير إلى إمكانيّة عيش حياةٍ أخرى وبناء مجتمع حر. لذلك، فإنّ لا استهداف الرفيقة ناكهان ولا مكان وتاريخ استشهادها يعدّان من قبيل المصادفة.
بإمكاننا اعتبار استشهاد الرفيقة ناكهان استمراراً لمؤامرة 9 تشرين الأول عام 1998 التي أًحيكت ضدّ القائد آبو. وهذه الجريمة هي واحدة من سلسلة الجرائم السياسيّة للنظام التركي الفاشي ضدّ قياديات ثورة المرأة. إذ يستهدف عملاء أجهزة الاستخبارات التركية النساء اللواتي يعشن وفقاً لنهج القائد آبو ويناضلن بلا توقّف في سبيل بناء مجتمعٍ ديمقراطي، بيئي ويضمن حريّة المرأة على وجه الخصوص لمنع نجاح حلّ الأمّة الديمقراطية التي أوجدها القائد آبو. ففي شخصية كلّ واحدةٍ من هذه الرائدات والقياديات يتمّ مهاجمة عاطفة ومنطق وكرامة والمستقبل الحرّ لجميع النساء: ففي عام 2013 اغتالت القوى المتآمرة الثائرات ساكينة جانسز، فيدان دوغان وليلى شايلمز في باريس لقطع الطريق أمام عملية الحل السياسي التي بدأها القائد آبو في إمرالي.
وفي عام 2016 اغتالت قوات الدولة التركية القياديات في حركة المرأة الحرّة؛ سيفه ديمير، فاطمة أويار وباكيزة ناير في سيلوبي لمنع إقامة نظام الحكم الديمقراطي في باكور كردستان. وفي عام 2022 تمّ تنفيذ سلسلة اغتيالاتٍ متتاليّة اُستهدفت فيها القيادية في وحدات حماية المرأة؛ جيان تولهلدان والرئيسة المشتركة لهيئة العدالة الاجتماعيّة؛ زينب ساروخان في روج آفاي كردستان وعضوة أكاديمية الجنيولوجي؛ ناكهان آكارسال في باشور كردستان لتدمير بناء الأمة الديمقراطية وانتشار ثورة المرأة.
من المؤكد أنّ صواريخ الطائرات المسيّرة التي قتلت جيان تولهلدان وزينب ساروخان تم إطلاقها من قبل قياديّ الجيش التركي. وتشير تصريحات المسؤولين الأتراك، حقيقة اجتماع مسؤول أجهزة الاستخبارات التركية هاكان فيدان مع الجبهة التركمانية في هولير يوم اغتيال ناكهان آكارسال واعتقال القاتل المشتبه به على طريق هولير إلى أنّ الرصاصات ال 11 التي أُطلقت على جسد ناكهان آكارسال هي أيضاً أُطلقت بأوامر تركيّة.
كما تزامنت هذه الجريمة التي وقعت في مدينة السليمانيّة في ال 4 من تشرين الأول الجاري مع اندلاع انتفاضات؛ المرأة، الحياة، الحرية في روجهلات كردستان وإيران. إنّ ردود الفعل حيال قتل جينا أميني تحمل أهميّة تاريخية. على حدّ معرفتي، فإنّ هذه هي المرّة الأولى التي يتم فيها الردّ على قتل امرأةٍ بسبب العنف الناجم عن التعصّب الجنسي بانتفاضة جماهيرية بقيادة المرأة. لقد أظهر الرجال والنساء من جميع المكونات في إيران وللمرّة الأولى أنّ حرية المرأة هي أساس حرية المجتمع. وقد خلق استمرار الانتفاضة الشعبية في جميع أنحاء إيران وضعاً جديداً لامتداد ثورة المرأة على مستوى الشرق الأوسط والعالم. إنّ إحدى أكبر مخاوف النظام الحاكم هي ارتباط انتفاضات؛ المرأة، الحياة، الحرية بعلوم الجنيولوجيا. لذا سعت القوى الفاشية بقتلها لرائدة أكاديمية الجنيولوجيا؛ ناكهان آكارسال إلى منع انتشار علم ثورة المرأة كركيزةٍ لتأسيس نظامٍ ديمقراطي للإدارة الذاتية للمجتمع. ولكن مثلما انقلب قتل جينا أميني على النظام الأبوي والديكتاتوري في إيران، فإنّ استشهاد ناكهان آكارسال دفعت النساء في كردستان وجميع أنحاء العالم للنضال. فقد أكّدت النساء من السليمانية وحتّى أمريكا اللاتينيّة على أنّهنّ سينتقمن لناكهان بتعزيز علم المرأة (الجنيولوجيا) والنضال في سبيل الحرية.
لقد منحنا التعرّف على شخصية وحياة ومحبّة وجهود ناكهان الثقة بأنّنا سنسطّر تاريخ حرية المرأة! لكلّ واحدةٍ منّا أسلوبها في هذا لكنّنا نملك روحاً ومحبّة ونضالاً مشتركاً.
ANHA
[1]