$دراسات في التاريخ الكردي القديم ( الحلقة 11 )نشأة الدولة الأخمينية$
د. أحمد الخليل
نشأة الدولة الأخمينية:
تفيد المصادر الموثوقة أن الفُرس كانوا قبائل آرية، وفدت في القرن (9 ق.م) إلى الهضبة الآريانية (سمّاها الشاه رضا بهلوي: إيران)، وسكنوا المنطقة التي كانت تسمى (پارْسُوا) Parsua، وهي تقع جنوب غربي بحيرة أُورْمِي، ثم هاجروا حوالي سنة (800 ق.م) من تلك المنطقة تحت ضغط شعب أُورارْتو (خالْدي = خَلْدي= نايْري= من أسلاف الكرد)، واتجهوا جنوباً وسكنوا حوالي سنة (700 ق.م) في السهول الممتدة على طول جبال بَخْتياري القريبة من عِيلام (إيلام)، وأسّسوا هناك دولتهم الأولى التي كانت تسمّى (پارْسُوماش).
وكانت حياة الفرس أقرب إلى البداوة، وبعد فترات من التبعية لمملكة عِيلام (إيلام)، ثم لمملكة آشور، وأخيراً لمملكة ميديا، نهضوا بقيادة أسرة ملكية يسمّى جدّها الأول (أَخْميني) أو (أَخْماني)، ويبدو أن نجم هذه الأسرة كان في صعود، فقد تزوّج زعيمها قَمْبَيز الأول بن كُورش الأول من مانْدانا ابنة الملك الميدي الأخير (أَرِشْتِ ڤاجا) Arishti vaiga (رامي الرمح)، (سمّاه الفرس: أزدَهاك = أﮊدّها، وحرّفه هيرودوت إلى: أَسْتِياگ)، فولدت له كُورش الثاني، وقد مرّ في الدراسة (10) أن كورش الثاني ثار على جدّه لوالدته أَسْتِياگ سنة (553 ق.م)، وانتصر عليه (550 ق.م)، وأقام الدولة الأخمينية على قواعد مملكة ميديا.
ويبدو أن قسماً من قادة الميد كانوا رافضين للتسلط الفارسي على مملكتهم، لكنهم كانوا مغلوبين على أمرهم، بسبب تآمر الزعيم الميدي هارپاگ وفريقه المتحالف معه، وأيضاً بسبب سياسات الملك أَسْتِياگ غير الرصينة. وثار بعض أولئك الميد سنة (522 ق.م) بقيادة الأخوين الكاهنين سِميرديس(شاه مَرْد) وأخيه پيرتزيث، على الملك قَمْبَيز بن كورش الثاني، وثاروا ومرة أخرى بقيادة الزعيم الميدي فَراؤُرْت على الملك دارا الأول سنة (521 ق.م)، لكن الفرس قمعوا الثورتين بقسوة بالغة، وفرضوا سلطتهم على الميديين بالحديد والنار.
أثر الميد في الأخمين حضارياً:
بعد سقوط مملكة ميديا خضعت ميديا (كردستان) للحكم الفارسي، وظلت كذلك حتى سيطرة الإسكندر المكدوني على آريانا (كردستان وأذربيجان وفارس وبلوشستان وأفغانستان) سنة (330 ق.م)، ويبدو أن مقولة “فَتحت روما أثينا عسكرياً، وفَتحتْها أثينا حضارياً” تصحّ على الميد والفرس، فقد تربّى كورش الثاني الأخميني في كنف الثقافة الميدية، وعدا هذا فإن الأخمين اتخذوا في البداية عاصمة الميد أَگْباتانا (آمَدان= هَمَذان) عاصمةً لهم قبل بناء عاصمتهم پِرْسُوپوليس.
ويرىوِل ديورانت أن قِصر عمر مملكة ميديا لم يُتِح لها “أن تُسهم في الحضارة بقسط كبير“، وما لم يقله ديورانت هو أن التعتيم على منجزات ميديا الحضارية كان شاملاً، وهذا أمر أثار انتباه معظم من بحثوا في التاريخ الميدي، ومنهم دياكونوف إذ يقول:
“رغم أنّ عِلم التاريخ أصبح يملك أدلّةً أثرية ومصادر قديمة في هذا القرن، إلا أن أحداث تاريخ ميديا لم تستفد من هذه المنجزات العلمية، بعكس الدول والبلدان الأخرى المعاصرة لميديا. إنّ ما تَقدّم كافٍ لنقول: إن آثار المدن والحضارة الميدية القديمة لا زالت كامنة تحت الأنقاض، وليس لدينا أيّة نصوص عن سلطة الميديين لمعرفة أحداث ميديا ودولتها“.
وأورد وِل ديورانت كثيراً من الإنجازات الحضارية التي قام بها الميديون، وأخذها عنهم الفرس الأخمينيون، وهي دليل على أن ما أنجزه الميد لم يكن قليلاً؛ إنه قال:
“فقد أخذ الفرس عن الميديين لغتَهم الآرية، وحروفَهم الهجائية التي تبلغ عِدّتُها ستةً وثلاثين حرفاً، وهم الذين جعلوا الفرسَ يستبدلون في الكتابة الرَّقَّ[جلد خاص بالكتابة]والأقلامَ بألواح الطين، ويستخدمون في العمارة العَمَدَ على نطاق واسع، وعنهم أخذوا قانونَهم الأخلاقي الذي يوصيهم بالاقتصاد وحُسنِ التدبير ما أمكنهم وقتَ السِّلم، وبالشجاعة التي لا حدَّ لها في زمن الحرب، ودين زَرْدَشت وإلهَيه أَهُورامَزْدا وأهرِمان، ونظامَ الأسرة الأبوي، وتعدّدَ الزوجات، وطائفةً من القوانين“.
وذكر المؤرخون أن الفرس اقتبسوا الخطّ المسماري من الميد، كما أن اللغة الأدبية الفارسية تأثّرت كثيراً باللغة الميدية، ويبدو أن الزيّ الميدي كان في الغاية من الأناقة بمقاييس ذلك العصر، إلى درجة أنه كان معروفاً على النطاق الإقليمي والعالمي، وكان معظم الفرس يلبسون الملابس الميدية، ويتحلّون بالحُلِيّ الميدية، بل كان من باب التشريف أن يتلقّى أحدُ الأشراف من ملك الفرس بِزّةً ميدية، قالهيرودوت: “وليس هناك كالفرس شعبٌ يَنْزِع إلى الأخذ بمناهج من هو غريب عنه، فهم يرتدون أزياءَ الميديين مثلاً؛ لاعتقادهم بأن تلك الأزياءَ أكثرُ أناقة من أزيائهم“.
وكان الميديون متقدّمين على الفرس حضارياً، وكان الملك الأخميني كورش الثاني نفسه ربيب الثقافة الميدية، وكان من العاملين في المؤسسة الإدارية الميدية، ويدرك أهمية استثمار قدرات الميديين الإدارية والحضارية بشكل عامّ في دولته الناشئة، فجعل الميدَ شركاءَ الفرس في المناصب الهامة، للإفادة من قدراتهم ولإرضائهم وتهدئتهم، وهذا ما جعل المؤرخ أنطون مورتكارت يقول:
“إن الشعب الميدي شقيق الشعب الفارسي، إنه احتل مكاناً رفيعاً بين هذه الشعوب المحكومة، وشارك في القيادة السياسية للإمبراطورية مشاركة أتت في الدرجة الثانية بعد الشعب الفارسي“.
ووصف هيرودوت لباس الفرس وعَتادهم في الجيش الذي قاده أَحْشَوِيرش (حكم بين 486 – 464ق.م) لمهاجمة اليونان، فذكر أنهم كانوا يرتدون “القُبَّعةَ المثلّثة وهي من اللَّبّاد الناعم، والقميصَ المطرَّز مع أكمامه، وفوقَه الدِّرعُ الذي يبدو كحَراشِف السمك، والسِّروال، وأمّا عَتادهم فهو التُّرس المصنوع من قضبان الصَّفْصاف، وتحته المِقْلاعُ والرمحُ القصير، والقوسُ القوية، والسهامُ المصنوعة من الخَيْزُران، والخنجرُ المربوط بالنطاق على الفخذ اليمنى“. وأضاف هيرودوت أن الفرقة الميدية في جيش أَحْشَوِيرَش كانت ترتدي الزيّ نفسه، وتتسلّح بالعتاد ذاته، وأكّد أن “ﮪذا النمط من اللباس ميدي الأصل، وليس زيّاً فارسيّاً بأيّ شكل“.
المراجع:
– طه باقر وآخران، تاريخ إيران القديم، ص 45.
– هيرودوت: تاريخ هيرودوت ص 82 – 90. دياكونوف: ميديا، ص 392 – 393. محمد بيومي مهران: تاريخ العراق القديم، ص 461.
– هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 246- 256. ول ديورانت: قصة الحضارة، 2/406. دياكونوف: ميديا، ص 410.
– دياكونوف: ميديا، ص 17.
– ول ديورانت: قصة الحضارة، 2/401. وانظر هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 35، 62 – 63. ديلابورت: بلاد ما بين النهرين، ص 70. جيمس هنري برستد: انتصار الحضارة، ص 247، 256.
– هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 96.
– أنطون مورتكارت: تاريخ الشرق الأدنى القديم، ص 374 – 375.
– هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 515 – 516.
توضيح:
هذه الدراسة مقتبسة من كتابنا “تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية”.
07-04-2013
[1]