سلسلة دراسات من ذاكرة التاريخ ( الحلقة 17 ) مشروع أبلسة الكرد (التأسيس ووصية قمبيز)
د. أحمد الخليل
الزعيم
الأمة المنضبطة هي وحدها الأمة القوية.
وهي وحدها الأمة التي تترك بصماتها على الجغرافيا والتاريخ.
وكي تكون الأمة منضبطة تحتاج إلى عوامل متعدّدة، لعل أهمها ثلاثة:
– تحدّيات تَحْفِزها إلى التماسك والنهوض.
– مشروع (قومي أو ديني أو فتوحاتي) تؤمن به وتضحّي من أجله.
– زعيم ذكي وشجاع يوحّدها ويقودها بحزم وحنكة لتنفيذ المشروع.
وثمة حقيقة مثيرة للانتباه في تاريخ غربي آسيا؛ وهي أن ثلاث أمم سيطرت على غربي آسيا خلال خمسة وعشرين قرناً؛ وعلى وجه التحديد منذ سنة (550 ق.م)، وتولّت كل واحدة منها، في أوقات مختلفة، رسم مسارات شعوب هذه المنطقة سياسياً وثقافياً واقتصادياً واجتماعياً، وتلك الأمم- بحسب تواريخ بروزها- هي: الفرس، والعرب، والترك. وفي كل مرة كانت العوامل الثلاثة (التحديات، المشروع، الزعيم) متوافرة، وتقوم بدورها في تكوين الانضباط، وتأمين القوة، والتمكين من الهيمنة على الجغرافيا والتاريخ.
ودعونا نحصر البحث الآن في أمة الفرس.
فحينما يقرأ المرء التاريخ الفارسي تَبهره أخبار ملوك الفرس (كُورش، وقُمْبَيز، ودارا، وأَحْشَويرَش، وأرتَحْشَشْتا، وأَرْدَشِير، وكِسرى أَنُو شروان، وكِسرى أَبْرَوَيز)؛ وهم يقودون جيوشهم الجرّارة شرقاً باتجاه بلاد تَوران (طوران) في وسط آسيا، وغرباً باتجاه بلاد الرافدين وآسيا الصغرى واليونان وسوريا ومصر، وشمالاً باتجاه القوقاز (قَفْقاس) والبحر الأسود، وجنوباً باتجاه اليمن، فلا يجد حاجة للبحث عمّا وراء الأَكَمَة، وتفحّص البدايات؛ مع أن معرفة البدايات في تاريخ الأفراد والشعوب والدول أمر في الغاية من الأهمية.
وبالعودة إلى بدايات الشعب الفارسي يتّضح أن عوامل النهوض الثلاثة السابقة الذكر كانت قد تلاقت تفاعلت، ونقلت الفرس- بشكل مُذهِل- من دائرة الظل إلى دائرة الضوء، ومن طور الضعف والتبعية إلى طور القوة والهيمنة.
أما التحدّيات فكانت بيئية وإقليمية.
فمن الناحية البيئية كان نصف بلاد فارس صحراوياً، وكان الباقي قليل الموارد، حتى إن هارڤي بورتر قال: ” وخلاصة ما يقال في تلك البلاد أنه ما كان يُتوقّع أن تخرج منها أمة قوية كأمة الفرس، أو ينشأ فيها رجال يتسلّطون على جانب عظيم من الأرض كما وقع”. (هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، ص 153 – 153). وأكّد دياكونوف تلك الحقيقة قائلاً: ” كانت فارس دولة فقيرة متخلّفة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية كثيراً “. (دياكونوف: ميديا، ص 329). وكان هذا الشعب الذي تغلب البداوة على حياته وشخصيته، يجاور في شمالي بلاده الميديين وهم ينعمون بجغرافيا غنية بالموارد، وبدولة إمبراطورية الطابع، قطعت شوطاً متقدّماً في الحضارة ورخاء العيش.
ومن الناحية الإقليمية مرّ أن الملك الميدي فَراوُرْت Phraortes (خَشْتريت) استكمل مشروع والده دِياكو الخاص بتحرير ميديا من السيطرة الآشورية، وأنه هاجم بلاد فارس، وألحقها بدولة ميديا، تمهيداً لمواجهة الآشوريين، وصحيح أن الفكر السياسي الميدي كان يقوم على اللامركزية، وأن ملوك ميديا- قبل عهد أستياگ- لم يتعاملوا مع حكّام الأقاليم التابعة لهم على نحو تسلّطي، بعكس ملوك أكّاد وبابل وآشور، لكن مع ذلك فالتبعية انتقاص من كرامة الأمة، وسلب لحريتها، ومصادرة لقراراتها، وكان من الطبيعي أن تشكّل تبعية بلاد فارس لدولة ميديا تحدّياً خطيراً للنخب الفارسية، ولا سيما أن تلك النخب كانت شديدة الاعتزاز بهويتها، قال هيرودوت بهذا الشأن:
” والفرس شديدو الاعتزاز بأمتهم، ويضعون أنفسهم فوق أمم الأرض، ولكنهم يتركون مع ذلك بعض الفضائل للأمم الأخرى”. (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 95).
وفي خضمّ البحث عن مواجهة هذين التحديين بلورت النخب الفارسية مشروعها الستراتيجي، وكان له بُعدان رئيسان: الأول هو الانتقال من (جغرافيا الحرمان) إلى (جغرافيا الوفرة). والثاني هو الانتقال من (دائرة التبعية) إلى (دائرة الاستقلال)، وبرز القائد الذكي والشجاع الذي يقود شعبه لتحقيق المشروع، وكان ذلك الزعيم هو كورش الثاني ابن قَمبيز الأول، وإن ثقة كورش بنفسه حملته على أن يقول للنخب الفارسي في خطبة له:
” يا أبناء فارس، أعيروني سمعكم، واصغوا لنصيحتي، وستنالون حريتكم، فأنا الرجل الذي اختارته الأقدار لتحريركم، ويقيني أنكم أنداد للميديين في الحرب كما في كل أمر آخر، الحقُّ ما أقول، فهيّا ولا تتردّدوا، وانزعوا عن رقابكم نير أستياجيس حالاً “. (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 92).
وكان كورش يعرف أنه يخاطب آذاناً صاغية، وقلوباً واعية، ونفوساً متحمّسة، ويعرف أن النخب الفارسية، ومن ورائهم شعب فارس، يتطلّعون بشوق إلى التحرر من السيطرة الميدية، وأنهم مستعدون للتضحية بالأرواح في سبيل ذلك، وقد أشار هيرودوت إلى ذلك قائلاً:
” كان لحديث قورش أبلغ الوقع عند مستمعيه، فلطالما كره الفرس استعباد الميديين لهم، وها هم الآن يجدون قائداً يسير بهم إلى طريق الحرية، فما كان منهم إلا أن هلّلوا لهذا الأمل الذي لاح لهم”. (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 93).
حالة فريدة
عندما يتصادم شعبان:
الشعب الأول مجروح في كرامته القومية، ومنضبط ذاتياً، وحديث عهد بالبداوة، وصلب العود، ومعتاد على خشونة العيش، ومتمرّس في تحمّل المشقّات، ويلتفّ حول مشروع ما (قومي، ديني، فتوحاتي)، ويمتاز نُخَبه بالتفاهم والتكاتف، وينضوي الجميع تحت قيادة زعيم ذكي ومتحمّس وشجاع ومحنّك.
والشعب الآخر مغترّ بسيطرته الإمبراطورية، مفتقر إلى الانضباط الذاتي، منشغل برخاء العيش، منهمك في ترف الحضارة، ولا يلتفّ حول مشروع (قومي، ديني، فتوحاتي)، وتقوده نُخب متصارعة على المناصب والمكاسب، ويقود الجميع زعيم ينزع إلى الاستبداد المفرط، ويرتجل القرارات المصيرية، ويمارس السياسات الخاطئة، ويحوّل نخب قومه إلى أعداء له.
أقول: عندما يتصادم شعبان كهذين- في أيّ عصر كان- فلا غرابة في أن يكون النصر للشعب الأول؛ وحسبنا دليلاً على ذلك أمثلة ثلاثة:
1. انتصار العرب البداة في القرن السابع الميلادي، وتحت لواء الإسلام، على أكبر إمبراطوريتين متحضّرتين؛ إمبراطورية فارس، وإمبراطورية الروم.
2. انتصار المغول البداة، في القرن الثالث عشر الميلادي، على الإمبراطورية الصينية المتحضّرة شرقاً، وعلى الإمبراطورية العربية المتحضّرة غرباً.
3. انتصار الترك العثمانيين البداة، في القرن الخامس عشر الميلادي، على الدولة البيزنطية المتحضّرة، واحتلالهم القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية سنة (1453 م).
وكذلك كانت حال كل من الفرس والميد عندما تصادما، وكان من الطبيعي أن ينتصر الزعيم الفارسي كورش على جدّه لأمه الملك الميدي الأخير أستياگ سنة (550 ق.م)، وأن تنقلب الأدوار رأساً على عقب، ويصبح الشعب الفارسي هو السيد والشعب الميدي هو التابع.
وثمة من الأدلة والقرائن والمؤشرات ما يجعلني أقول بثقة تامة: إن دولة ميديا كانت حالة فريدة في تاريخ الكرد طوال خمسة آلاف عام، وكما أن ظهورها كان نقطة تحوّل مصيري في مستقبل الكرد، فكذلك كان سقوطها وزوالها، وأجد في نفسي من الشجاعة العلمية ما يجعلني أعتقد أنه لولا جهود الزعماء الميد العظماء (دياكو، خَشْتريت، كَيْخسرو) لما كان في غربي آسيا اليوم شعب اسمه (الكرد)، ولا جغرافيا اسمها (كردستان).
وتعود فرادة الحالة الميدية- فيما أرى- إلى المزايا الآتية:
1. إنها التكوين السياسي الوحيد الذي شمل الجغرافيا الكردية من أقصاها إلى أدناها، ففاقت بذلك الدول التي أقامها أجداد الكرد من الگوتيين واللولوبيين والكاشيين، والسوبارتو، والحوريين (الميتانيين)، هذا قبل سنة 550 ق.م)، ومعروف أنه منذ ذلك التاريخ وإلى هذا اليوم لم يقم في الجغرافيا الكردية تكوين سياسي كردي (دولة) بالمستوى الذي كانت عليه الدولة الميدية.
2. إنها الحاضنة الثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية التي استوعبت جميع شرائح المجتمع الكردي في العهود السابقة عليها، وأنجزت مشروعاً وطنياً متميّزاً، لم يقتصر على تحرير الأرض فقط، وإنما تركّز على تحرير الوعي من النرجسية القَبَلية والشرذمة المناطقية، وتحرير الهوية من التسيّب والضياع والاستلاب.
3. إنها المنصّة الثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية التي انطلق منها أجداد الكرد للمشاركة بفعّالية في الأحداث الإقليمية والعالمية في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد.
بلى، إن سقوط دولة ميديا كان يعني سقوط التكوين السياسي الجامع المانع، وسقوط الحاضنة المازجة الدامجة، وسقوط المنصّة المساعدة على التحليق إقليمياً وعالمياً، وصحيح أن أستياگ مارس سياسات خاطئة، ولم يكن بمستوى أسلافه؛ لا في قراءة المزاج الميدي الجبلي، ولا في قراءة الواقع الإقليمي، لكنه- حتى وهو أسير بين أيدي أعدائه- لم يخسر حسّه الوطني (وربما القومي بمفاهيم ذلك العصر)، ولم يفتقر إلى القراءة الستراتيجية الصائبة لسقوط ميديا في القبضة الفارسية، وقد جسّد جميع ذلك في تأنيبه للقائد الميدي المتآمر هارباگ قائلاً:
“إذنْ، فأنت لست الأشدَّ لؤماً بين البشر وحسب، بل أكثر الرجال غباء،… وإذا كان لا بد لك من أن تسلّم العرش لآخر غيرك، كان الأجدر بك أن تقدّم هذه الجائزة لميدي، بدلاً من فارسي “. (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 93).
إن أستياگ- وهو زعيم سياسي كبير في عصره- لم يطلق صفة (الغباء) على القائد الميدي هارباگ عبثاً، وإنما كان يعلم علم اليقين أن الشعب الذي يخسر مظلّته السياسية يصبح كريشة في مهبّ الريح، وأن مسألة سقوط العاصمة الملكية إكبَتانا بيد كورش الأخميني هي أبعد وأخطر بكثير من مسألة تغيير نظام سياسي غير مَرضيّ عنه، أو الإطاحة بحاكم مستبد، إن المسألة مسألة وضع مصير أمة بأكملها في أيد غريبة وناقمة، وإزاحتها من بؤرة التاريخ إلى الهامش، وسلبها القوة الوحيدة القادرة على حمايتها- وطناً وإنساناً- من مشاريع التعتيم والصهر والاستلاب؛ أقصد (التكوين السياسي).
وكم كان أستياگ محقاً في رؤيته المستقبلية لِما سيحلّ بالشعب الميدي! فمنذ سنة (550 ق.م) وإلى يومنا هذا يدفع الكرد (أحفاد الميديين) ثمن النهج الهارباگي، النهج الضيّق الأفق، النهج المؤسس على الغفلة السياسية، النهج المهووس بالأنانية العمياء؛ سواء أكانت فردية أم قَبَلية أم مناطقية أم مذهبية أم دينية، النهج القائم على الرغبة في الانتقام؛ إلى درجة ارتكاب الخيانة والمقامرة بمصير أمة.
والحقيقة أن عجلات مشروع (أبلسة الكرد)- المستمر منذ خمسة وعشرين قرناً بدأت- بالدوران يوم دخل كورش العاصمة الميدية إكبَتانا فاتحاً، وسيق آخر ملك ميدي إلى الأسر، وكان كورش هو العقل المدبّر الذي دشّن ذلك المشروع بدهاء وفي الخفاء، وعلى طريقة الذبح بريش النَّعام كما يقول المثل الكردي، وهيّأ الأرضية المناسبة- سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً وإقليمياً- لتأسيس ذلك المشروع بعدئذ رسمياً وجهاراً، وبموجب فرمان ملكي، على يد ابنه ووريثه الملك قَمْبيز (كمبوجيا) سنة (522 ق.م).
ودعونا نتفحّص إنجازات كورش في ذلك الميدان.
دهاء كورش
لا أدري من هو صاحب مقولة ” لا جديد تحت الشمس”، لكنها مقولة جديرة بالاهتمام حقاً، ففي تاريخ البشرية كثير من الأحداث والمواقف والممارسات المتشابهة، والجديد فيها هو الشخصيات والأمكنة والأزمنة؛ وإليكم أحد الأمثلة.
في سنة (40 ﮪ = 661 م) اغتيل الخليفة الرابع عليّ بن أبي طالب، في الكوفة بالعراق، بيد أحد رجال المعارضة (الخَوارج)، ورأى ابنه الحسن- وكان أنصار أبيه بايعوه بالخلافة ثم طمعوا فيه- أنه يخوض حرباً خاسرة ضد منافسه القوي مُعاوِيَة بن أبي سُفْيان في دمشق، فدارت بينهما مفاوضات سنة (41 ﮪ)، أسفرت عن قبول الحسن بالتنازل عن الخلافة لمعاوية، لقاء شروط معظمُها مكاسب مالية، “وقال له: إن أنت أعطيتني هذا فأنا سامعٌ مطيعٌ، وعليك أن تَفِيَ لي به”. (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 3، ص 405).
فأرسل إليه معاوية “صحيفةً بيضاءَ مختومٌ على أسفلها، وكتب إليه: أن اشترطْ في هذه الصحيفة التي ختمتُ أسفلها ما شئتَ، فهو لك. فلمّا أتت الصحيفةُ إلى الحسن اشترط أضعافَ الشروط التي سأل معاويةَ قبلَ ذلك، وأمسكها عنده، فلمّا سلّم الحسنُ الأمرَ إلى معاوية، طلب أن يعطيه الشروط التي في الصحيفة التي ختم عليها معاوية، فأبى ذلك معاويةُ، وقال له: قد أعطيتك ما كنت تطلب “. (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 3، ص 405).
إن هذا الموقف شبيه بما جرى بين الفريق الهارباگي المتآمر، والملك الفارسي كورش، قبل حوالي (12) قرناً من عهد الحسن ومعاوية، فأقصى ما كان يطمح إليه الفريق الهارباگي هو إزاحة أستياگ عن العرش الميدي، والانتقام منه وإذلاله، والفوز ببعض المكاسب التي يبدو أن أستياگ كان يحول بينهم وبينها؛ حسناً، وهل من المعقول أن يُحجم زعيم سياسي ذكي مثل كورش عن تقديم بعض المكاسب المالية والمناصبية للفريق الهارباگي؛ ما داموا يقدّمون له العرش الملكي الميدي، وكل مملكة ميديا، على طبق من ذهب؟
وقد مرّ فيما سبق أن كورش هو ابن الأميرة الميدية مَنْدانا ابنة الملك أستياگ، وأنه أمضى فترات من عمره في القصر الملكي، وبعد أن شبّ صار من المقرّبين إلى جدّه، وكان الجدّ يُسند إليه تارة مهمّات عسكرية، منها توجيهه إلى أرمينيا؛ لإخضاع ملكها يَرْوانت الذي ثار على أستياگ، وتارة أخرى مهمّات سياسية، منها إرساله مبعوثاً إلى قائد الكادوسيين في جنوبي نهر آراس، كما أنه كان من المقرّبين إلى هارباگ عندما أسند أستياگ منصب القائد العسكري (وزير الدفاع حسب المصطلحات الحديثة) إلى هذا الأخير. (دياكونوف: ميديا، ص 330، 391، 393).
وهذا يعني أن كورش كان من العناصر القيادية الفاعلة في هرم السلطة الميدية، وكان عليماً ببواطن الأمور في الدائرة السياسية العليا، وما فيها من صراعات وانقسامات، وكان خبيراً في الوقت نفسه بانعكاس صراعات تلك النخب الميدية على المجتمع الميدي.
وليس من المستبعد أن النخب الميدية كانت تَعدّ كورش واحداً منهم، ولم تنظر إليه على أنه فارسي؛ وخاصة إذا أخذنا العلاقة الحميمة التي تقوم بين ابن الأخت وأخواله في المجتمع الكردي، ومن الأمثلة على ذلك الدعمُ الذي تلقّاه الأمير الأُموي مروان بن محمد من أخواله الكرد (جنود الجزيرة)، للفوز بالخلافة في دمشق سنة (127 ﮪ)، والدعم الذي تلقّاه الأمير العربي أبو الهيجاء عبد الله بن حَمْدان من أخواله الكرد، حينما أعلن الثورة على العباسيين في الموصل سنة (301 ﮪ)، وتعاطفهم بعدئذ مع ابنه الأمير سيف الدولة الحَمْداني، حاكم حلب وشمالي سوريا، باعتبار أن أمّه كانت كردية أيضاً. (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 5، ص321. ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، ج 7، ص 520. أحمد عدوان: الدولة الحمدانية، ص 111).
وقد استغلّ كورش معرفته وخبرته وعلاقاته تلك، وتحرّك على ثلاثة محاور:
المحور الأول تضليلي: استغل كورش مكانته الرفيعة وعلاقاته بالنخب الميدية المعادية للملك أستياگ، وعلى رأسهم هارباگ، فأوهمهم أنه واحد منهم، وأنه يعمل في إطار مشروعهم الانقلابي، وأنه لا يريد المساس بكيان الدولة الميدية؛ إلى درجة أن الفريق الهارباگي أفلح في إقناع شرائح من المجتمع الميدي بأن كورش مخلّص، وليس مغتصباً للعرش. وقد قال ديورانت في هذا الصدد:
“وابتهج الميديون أنفسهم بانتصاره على ذلك الطاغية، وارتضوه ملكاً عليهم، ولم يكد يرتفع من بينهم صوت واحد بالاحتجاج عليه”. (ديورانت: قصة الحضارة، ج 2، ص 402).
وقال دياكونوف أيضاً:
” إن كورش لم يغيّر المملكة الميدية، ولم يقض عليها، بل إنه نصب نفسه ملكاً على ميديا، بينما بقي اسمه كالسابق ملك الفرس”. (دياكونوف: ميديا، ص 396).
وأضاف دياكونوف موضّحاً سياسة كورش مع الميديين:
” إن السياسة الدائمة لكورش الثاني، والتي لم تتغيّر أبداً، هي الاتفاق مع الرجال الكبار (النبلاء) الميديين، كي يَجذِب انتباههم، ويَكسِب ودّهم؛ لهذا السبب فإن الملوك الذي كانوا يقعون في الأسر من الملوك الميديين لم يقتلهم. نجا استياگ من القتل لهذا السبب، وأُبعد إلى هيركانيا، يقول كتسياس بهذا الصدد: فإنه قوبل باحترام كبير من قبل حاكم الهيركانيين حين أُبعد إلى أراضيهم”. (دياكونوف: ميديا، ص 397).
والأرجح أن معاملة أستياگ باحترام من قِبل حاكم هيركانيا (تقع جنوب شرقي بحر قزوين) كانت بإيعاز من كورش نفسه، لأن الحاكم الهيركاني كان أحد زعماء الأقاليم التابعة للدولة الميدية، وقد تمرد على سلطة أستياگ، وتحالف مع كورش ضد دولة ميديا.
وأكّد دياكونوف سياسة المداهنة التي اتّبعها كورش مع النخب الميدية قائلاً:
” يذكر داريوش الأول بعض القادة العسكريين في الجيش الفارسي من الميديين، حتى إلى عهد خشيارشاه [أَحْشويرش بن دارا] صدفة يُورَد ذكرُ أسماء بعض النبلاء الميديين. أما من الناحية الإدارية الأخمينية فإن الميديين كانت لهم مراكز ودرجات عالية”. (دياكونوف: ميديا، ص 397).
وأضاف دياكونوف يقول:
” بالرغم من أن إگباتانا كانت قد تمّ احتلالها وسلبها، وأُسر بعض المواطنين الميديين منها، وكذلك تمّ فرضُ الجزية والضرائب على ميديا كبلاد محتلة؛ في هذا الوقت فإن النبلاء وكبار رجالات الميديين عُرضت عليهم حلقة من السلطات الملائمة، وخاصة الذين قاموا بدور الخيانة ضد بلادهم”. (دياكونوف: ميديا، ص 395).
والمحور الثاني استغلالي: فبعد أن اعتلى كورش عرش ميديا انكبّ على توظيف شهرة ميديا إقليمياً وعالمياً لترسيخ نفوذه، ولتسليط الضوء على نفسه، كما أنه وظّف ثروات ميديا والمؤسسات الميدية، ولا سيما المؤسسة العسكرية، لتحقيق مشاريعه التوسّعية، وحسبنا دليلاً على ذلك أن المقاتلين الميد كانوا يشكّلون قوة ضاربة في الجيوش الأخمينية، حتى بعد عهد كورش، وكانوا يأتون في الدرجة الثانية من حيث الترتيب بعد قوات (الخالدين) الفارسية.
وحسبنا دليلاً على ذلك أيضاً أن القائدَين الميديين مازاريس وهارباگ هما اللذان قادا الجيوش للقضاء على ثورات الإغريق في آسيا الصغرى (غربي تركيا حالياً)، لا بل إن المؤسسة الأخمينية بعد كورش بعهد طويل كانت تستمر في استغلال القدرات القتالية للإنسان الميدي، وتزجّ به في سلسلة حروبها المتواصلة، ونذكر على سبيل المثال القائد الميدي داتيس، فقد عيّنه الملك الأخميني الثالث دارا الأول قائداً للجيش الفارسي الذي غزا بلاد اليونان في عقر دارها، وهاجم العاصمة أثينا، وخاض معركة (ماراثون) الشهيرة سنة (490 ق.م). (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 466).
ولعل الصورة تصبح أكثر وضوحاً إذا أخذنا في الحسبان أن الملك الميدي كَيْخُسْرو كان قد أسس قوة قتالية ميدية متميّزة بالمقاييس العسكرية في ذلك العصر، إنها كانت على مستوى رفيع من الانضباط والصلابة والروح الفدائية، إلى درجة أنها تفوّقت على القوة القتالية الآشورية التي كانت مشهورة بالانقضاض السريع، والانضباط الشديد، والشراسة البالغة، والإقدام الباسل. (دياكونوف: ميديا، ص 279).
والمحور الثالث تآمري: فبعد أن أفلح كورش في تثبيت سيطرته على عرش ميديا، ورتّب الأوضاع في الداخل بحيث تصبح مقاليد الأمور محصورة في يديه وفي أيدي النخب الفارسية، انتقل إلى المرحلة الثانية من مشروعه المبيَّت؛ ألا وهي البدء بتقليم أظافر القوى الميدية التي يُحتمَل أن تطيح بسلطته، وتعيد الأمور إلى نصابها، ولتحقيق هذا الغرض قام كورش بالإجراءات الآتية:
1. لم يكن للملك الميدي أستياگ ابن يرثه، وكانت له ابنتان، الأولى هي مَنْدانا والدة كورش، والثانية هي آميتيدا، وكان قد تزوّجها نبيل ميدي يدعى أَسْبيتام، وكانت التقاليد الميدية تقتضي أن زوج ابنة الملك يرث العرش إذا لم يكن للملك ابن يرثه. وهذا يعني ضمناً أن أسبيتام كان الملك المحتمَل بعد أستياگ، وأن بقاءه حياً يمكن أن يحول دون تنفيذ المشروع الأخميني المتمثّل في دفن الدولة الميدية إلى الأبد، ولذلك بادر إلى كورش إلى قتل أسبيتام. (هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، ص 87).
2. عرف كورش أن الشرعية الانقلابية وحدها غير كافية لترسيخ أقدامه في العرش الميدي، ولا بد من الحصول على الشرعية الدستورية في هذا المجال، ولذلك بادر إلى الزواج من خالته آميتيدا بعد أن قتل زوجها الميدي أسبيتام، ليفوز بالعرش الملكي، وقد أكّد كتسياس هذه الحقيقة قائلاً: ” إن كورش تزوّج من ابنة أستياگ آميتيدا،… وكان هدفه من هذا الزواج هو الادّعاء القانوني لحكم الإمبراطورية الميدية “. (دياكونوف: ميديا، ص 396).
3. عمدت الآلة الدعائية الأخمينية، مدعومة بحليفتها الآلة الدعائية للفريق الهارباگي، إلى تشويه صورة أستياگ في الذاكرة الآريانية وفي الذاكرة الغرب آسيوية عامة، فسُمّي أژدهاك (التنّين)، واختلقوا رواية الحيّتين اللتين نمتا على كتفيه، ونصيحة إبليس له بإطعام الحيتين دماغي شابين كل يوم، وثورة الجماهير عليه بقيادة كاوا الحدّاد، وتسلّلت هذه الروايات المدسوسة إلى التراث الإسلامي بعدئذ، فصار أژدهاك يسمّى (الضحّاك)، وسبق أن ذكرنا ذلك تفصيلاً في حلقات سابقة من هذه السلسلة. (المسعودي: مروج الذهب، ج 2، ص 122- 123. المقدسي: البدء والتاريخ، ج 3، ص 143. الزبيدي: تاج العروس، مادة كرد).
4. ما دام أستياگ حيّاً يبقى رمز الدولة الميدية ماثلاً للعيان، ويبقى الاحتمال مفتوحاً لأن يقوم أنصاره بانقلاب مضاد، وإعادته إلى العرش الميدي. ولقطع دابر هذا الاحتمال كان لا بد من تغييب هذا الرمز، ولذا تمّ التخلص من أستياگ بطريقة مُلبسة، وذكر دياكونوف أن أستياگ دُعي من منفاه في هيركانيا إلى رؤية ابنته، فأخذه قائد يدعى (بتسياك) إلى الصحراء، وتركه هناك كي يموت جوعاً وعطشاً. (دياكونوف: ميديا، ص397). وهل كان بتسياك يجرؤ على فعل ذلك بالملك الميدي لولا موافقة كورش؟
وصية قمبيز
بهذه الإجراءات التضليلية والمداهنة والتآمرية خطا كورش الخطوات الأولى نحو تغييب التكوين السياسي الميدي في ظلمات التاريخ، وترسيخ النفوذ الفارسي في غربي آسيا. وبعد مقتل كورش في حربه ضد شعب ماسّاجيتاي التوراني بوسط آسيا، سنة (530 ق.م)، تولّى العرش ابنه قمبيز الثاني، فزادت في عهده هيمنة الفرس على مقاليد الأمور، ودفعوا بالميديين رويداً رويداً إلى الهامش.
وقاد قمبيز حملة لغزو مصر، واحتلها سنة (525 ق.م)، وكانت تنتابه نوبات صرع وغضب جنوني، فارتكب كثيراً من الفظائع، ومنها أنه أمر القائد الفارسي بركساسبيس بالذهاب إلى بلاد فارس، وقتل أخيه سميرديس ودفنه سراً؛ لأنه رأى في الحلم أن شخصاً قد حلّ محله في الحكم يدعى سميرديس. (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 233، 234).
وفي ذلك الحين كان زمن الجيل الميدي الهارباگي، جيل الغفلة والأنانية إلى درجة ارتكاب الخيانة، قد مضى، واستيقظ جيل النخبة الميدية التالي على الحقيقة المُرّة؛ حقيقة سيطرة النخب الفارسية على الدولة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً، وطمس معالم الحضور الميدي إلا في المجالات الخدماتية، وكانت أمجاد دولة ميديا ما زالت حية في ذاكرة تلك النخب الميدية، فراحت تتحيّن الفرص المناسبة لاسترداد المُلك المسلوب.
وحينما توجّه قمبيز إلى غزو مصر انتهز أخوان من النخب الميدية الفرصة، الأول يدعى پيرتزيثيس، وكان موغاً (كاهناً)، ويتولّى شؤون القصر الملكي، والآخر يدعى سميرديس، ويسمّى گوماتا (گؤماتا) أيضاً، وكان گوماتا شبيهاً بسميرديس بن كورش (أخي قمبيز)، وكان پيرتزيثيس هو العقل المدبر للانقلاب المضاد، وبما أن المؤسسة العسكرية كانت في القبضة الفارسية، فلم يبق أمام پيرتزيثيس وسيلة سوى الدهاء لتنفيذ الانقلاب، فاستغل حادثة مقتل سميرديس الأخميني بأمر من قمبيز سراً، وأقنع أخاه گوماتا بالجلوس على عرش فارس، والإعلان عن أنه سميرديس بن كورش، يقول هيرودوت:
“وأرسل بياناً لجميع القوات في أنحاء فارس ومصر كافّة، مفاده أن عليهم في المستقبل تنفيذ الأوامر الصادرة عن سميرديس، وليس عن قمبيز”. (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 246).
وفي سنة (522 ق.م)، وبينما كان قمبيز في سوريا، عائداً إلى فارس، وصلته نسخة من البيان الانقلابي، وبعد التحقيق مع القائد الفارسي بركساسبيس، والتأكد من أن أخاه سميرديس قد قُتل حقاً، عرف أن الكاهن الميدي وأخاه قد قادا انقلاباً ضده، وحكما البلاد باسم أخيه المقتول سميرديس، فاستبدّ به الغضب، وامتطى جواده للتوجّه إلى بلاد فارس، والقضاء على مدبّري الانقلاب، وحينما وثب على الجواد سقط غمد سيفه، وانكشف النصل، فأصيب بطعنة في فخذه، فمرض على أثر ذلك، وبعد عشرين يوماً شعر بدنوّ أجله، فأرسل في طلب قادة الجيش الفارسي، وخاطبهم قائلاً:
” يا رجال فارس، إن الظروف لَتفرِض عليّ أن أبوح لكم بما كنت قد بذلت قُصارى جهدي لإخفائه. ثم روى لهم خبر الحلم، وإصداره الأمر بقتل أخيه سميرديس نتيجة لذلك، وأنهم أصبحوا الآن محكومين من قِبل المجوسيَّين”. (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 249).
وأضاف قمبيز يقول لقادة الفرس:
” فلزامٌ عليّ أن أبيّن لكم وأنا أَلفِظ أنفاسي الأخيرة، ما أرغب إليكم القيام به، فباسم الآلهة التي تحرس أسرتنا الملكية آمركم، وخاصةً الأخمينيين منكم الحاضرين هنا، ألاّ تَدَعوا الميديين يستردّون السلطة، فإذا حصلوا عليها عن طريق الغدر والخيانة فاستردّوها بالسلاح نفسه، أما إذا استردّوها بالقوة فكونوا رجالاً، واستردّوها بالقوة. إذا قمتم بما آمركم به، فإني أدعو لكم بأن تغمركم الأرض بخيراتها، وأن تُرزَقوا بالأطفال، وتتكاثر قطعانكم، وأن تكونوا أحراراً مدى الدهر. أما إذا فشلتم في استرداد السيادة، أو لم تقوموا بأيّة محاولة لاستردادها، فلتنزلْ عليكم لعنتي، وليكن مصيركم عكس ما أدعو لكم به الآن، وعِلاوة على ذلك فلتكن نهاية كل فارسي بائسة مثل نهايتي”. (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 249).
فتأثر القادة الفرس بمنظر ملكهم وهو يبكي والدموع تنهمر من عينيه، وأخذوا في تمزيق ثيابهم، وبالبكاء والعويل، ثم استفحل المرض بقمبيز، وتوفّي دون أن يكون له عقب من الصبيان أو البنات.
تلك هي وصية قمبيز التي ظلت تجلجل أصداؤها في آذان النخب الفارسية طوال قرون، وكانت بمثابة البيان التأسيسي لمشروع اجتثاث الحضور الميدي في تاريخ غربي آسيا، وطمس معالمه، لا بل تشويهه وأبلسته، وكان من الطبيعي أن يرث الكرد (أحفاد الميديين) النتائج المترتّبة على تلك الوصية، وتتبلور المعالم الحقيقية لمشروع (أبلسة الكرد) المستمر منذ (25) قرناً.
وقد استمر سميرديس الميدي في الحكم سبعة أشهر، وأوّل ما اهتم به أنه حرر الشعوب المقهورة من جور الحكم الفارسي، وأسقط الضرائب الباهظة عن كاهلهم، وأعفاهم من إرسال أبنائهم إلى ميادين الحروب، قال هيرودوت:
” وخلال عهد المجوسي حصل رعاياه على منافع عظيمة، ولذلك أسف لموته جميع الآسيويين التابعين، باستثناء الفرس؛ إذ إنه بُعيد اعتلائه العرش أعفى جميع الأمم الخاضعة له من الضرائب والخدمة العسكرية مدة ثلاث سنوات”. (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 249).
وسرعان ما تحرّكت النخب الفارسية لتنفيذ وصية ملكهم قمبيز، وشكّل سبعة منهم خلية قيادة سرية، وكان دارا الأول أبرز أولئك السبعة، وأكثرهم شجاعة ودهاء، وهو الذي رسم خطّة الهجوم على الأخوين الميديين في القصر الملكي، وتحمّس زعيم فارسي آخر يدعى جوبرياس لخطة دارا، وقال مخاطباً رفاقه:
“يا أصحابي، هل تتاح لنا فرصة أفضل مما لدينا الآن لإنقاذ العرش؟ أمّا إذا فشلنا فلنمتْ في المحاولة، أفحتمٌ على فارس أن يحكمها ميدي؛ ذلك المجوسي الذي قُطعت أذناه؟ ولن ينسى من كان منكم واقفاً بجانب قمبيز، وهو على فراش الموت، اللعنةَ التي أنزلها بالفرس إذا لم يقوموا بأي جهد لإنقاذ العرش، … وأعتقد أن علينا الأخذ بنصيحة داريوس، وان ننهي الاجتماع، لنذهب فوراً إلى القصر، ونهاجم المجوسيَّين”. (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 253).
وشنّ الزعماء الفرس السبعة هجوماً مفاجئاً على القصر الملكي، ولم يعترضهم الحرس باعتبارهم من كبار الزعماء، لكن خصيان القصر استوقفوهم، وعنّفوا الحرس على السماح لهم بالدخول، وهنا استلّ المهاجمون خناجرهم، وفتكوا بالخصيان الذين اعترضوهم. وعرف الأخوان الميديان حقيقة الأمر، فاستعدّا للمواجهة، وخاضا القتال ضد المهاجمين السبعة، لكنهما خسرا الجولة، وكانت نهايتهما القتل، قال هيرودوت:
” بعد أن تمّ قتل المجوسيَّيْن، قطع المتآمرون رأسيهما، وخرجوا إلى الشارع وهم يصرخون، مُحدِثين ضجّة عظيمة، حاملين الرأسين المقطوعين، … ثم بدأوا بقتل كل مجوسي صادفوه في طريقهم، وسرعان ما أصبح الفرس الآخرون على أهبة الاستعداد لأن يحذوا حذوهم، بعد أن علموا بالعمل البطولي الذي اضطلع به الحلفاء السبعة، والخدعة التي قام بها المجوسيان، فاستلّوا خناجرهم، وقتلوا كل مجوسي وقعت أنظارهم عليه، وكادوا يبيدون المجوس لولا حلول الظلام، فتوقفت المجزرة، وقد أصبح هذا اليوم يوماً مشهوداً في التقويم الفارسي؛ حيث يقام احتفال سنوي باسم قتل المجوس، ولا يُسمح في أثنائه لأيّ مجوسي بالظهور، فيقبعون جميعاً في بيوتهم طوال اليوم، لا يبرحونها”. (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 255- 256).
وكان من الطبيعي أن يخسر الأخوان الميديان محاولتهما الانقلابية، ويفشلا في الإطاحة بالسلطة الفارسية، لأن الإجراءات الوقائية التي سبق أن اتخذها كورش ومن بعده قمبيز، أثمرت، وأدّت إلى تهميش النخب الميدية غير المذعنة للفرس، وحصر السلطات الأساسية في العناصر الفارسية، ولذلك كانت محاولة الأخوين الميديين محاولة فردية، ولم يكن لها سند لا من النخب الميدية ولا من جماهيري الميديين، مع أنه كان لهم حضور لا بأس به في العاصمة الملكية.
كما أن منطق الأحداث يقتضي أن يكون دارا ورفاقه قد قاموا بعمليات تطهير واسعة في أرجاء ميديا، وقضوا على كل زعيم ميدي تحدّثه نفسه بالخروج عن طاعة السلطة الأخمينية، وأرسوا سياسات إدارية وعسكرية واقتصادية وثقافية، أتاحت للفرس أن يُحكموا قبضتهم على جميع المراكز والمؤسسات والمواقع الهامة في الدولة والمجتمع، ويهمّشوا الميديين.
وثمة تساؤلان مهمان سنحاول الإجابة عنهما في الحلقة القادمة:
– الأول: ما مدى تأثير وصية قمبيز في مصير الميديين؟
– والثاني: وما علاقة ذلك التأثير بمشروع أبلسة الكرد؟
المراجع
1. ابن الأَثير: الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1979.
2. أحمد عدوان: الدولة الحمدانية، المنشأة العربية، ليبيا، الطبعة الأولى،1981.
3. ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1999.
4. دياكونوف: ميديا، ترجمة وهبية شوكت، رام للطباعة والتوزيع، دمشق.
5. الزبيدي: تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق عبد العليم الطحاوي، وزارة الإعلام، الكويت، 1974.
6. المقدسي: البدء والتاريخ، مكتبة الثقافة الدينية، 1970. (الكتاب منسوب إلى أبي زيد أحمد بن سهل البلخي).
7. المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، الطبعة الخامسة، 1973.
8. هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1991.
9. هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، المجمّع الثقافي، أبو ظبي، 2001.
10. ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران، زكي نجيب محفوظ، الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، القاهرة، 1957- 1958.
وإلى اللقاء في الحلقة الثامنة عشرة
د. أحمد الخليل في 18-06-2009
[1]