محسن سيدا
رغم الدراسات العديدة التي تناولت اليزيدية ( الايزدية ) فإنها لا تزال تحظى باهتمام الدارسين والباحثين ، وتتباين هذه الدراسات في معالجتها للايزدية ( اليزيدية ) تبايناً واضحاً لا يخلو من التناقض والمفارقات في كثير من الأحيان ، ومرد ذلك عائد إلى الغموض الذي يكتنف نشأة اليزيدية وظهورها في حلبة التاريخ أول مرة ، إضافة إلى تقاطع المعتقد اليزيدي مع توجهات سياسية ، قومية ، ودينية ملتهبة وراهنة وإقحامها في عملية البحث عن اليزيدية وتاريخها .
في السنوات الأخيرة صدرت مؤلفات عدة في حقل الدراسات اليزيدية حملت أفكاراً جديدة ، ومحاولة إعادة النظر في بعض رموز اليزيدية وطقوسها وأعلامها سعياً منها إلى زعزعة بعض القناعات الراسخة حول اليزيدية .
وفي هذا الإطار وضمن هذه السياقات من الدراسات حول اليزيدية تندرج دراسة الكاتب عبد الرحمن مزوري حول الشيخ ” عدي بن مسافر ” .
وسأحاول في دراستي هذه مناقشة بعض القضايا والآراء التي أثارها المؤلف في دراسته المعنونة ب ” تاج العارفين عدي بن مسافر الكوردي الهكاري ليس أموياً ” (1) معتمداً على أدوات المؤلف نفسه في النقد والتحليل.
هذه الدراسة كتبها المؤلف رداً على المحققين حمدي عبد المجيد السلفي و تحسين إبراهيم الدوسكي اللذين حققا كتاب ” اعتقاد أهل السنة والجماعة ” (2) للشيخ ” عدي بن مسافر ” وأرفقا الكتاب بآرائهما حول اليزيدية والشيخ ” عدي بن مسافر “. ورغم الجهود المبذولة في التحقيق ، كما يقر المؤلف عبد الرحمن مزوري بذلك ، فإن المحققين وقعا ، حسب رأيه ، في مطبات وهفوات كان لا بدّ من استدراكها وتصويبها خدمة للبحث العلمي .
يعالج الكاتب عبد الرحمن مزوري في دراسته هذه نسب الشيخ ” عدي بن مسافر ” وأصوله العرقية وجذور الديانة الإيزيدية ، معتمداً على المصادر التاريخية والدراسات الحديثة في هذا الحقل ، إذ ينفي النسب الأموي للشيخ ” عدي بن مسافر “، مخالفاً بذلك جمهرة من كتاب السير والتراجم الذين تناولوا تاريخ الشيخ وسيرته . وبصرف النظر عن أهمية أموية ” عدي بن مسافر ” أو كرديته ، فإن النتائج المترتبة على هذه الدراسة لا تخل بمكانة “عدي بن مسافر ” في الديانة اليزيدية ، سواء أكان كردياً بالانتماء أو الولادة ، أم أموياً عربياً.
يتلمس المرء في هذه الدراسة ، وبوضوح ، أنها مبنية على جملة من الاستنتاجات والتخمينات التي لا تؤيدها الأدلة والشواهد التاريخية بشكل قطعي ، وتسعى إلى تثبيت أحكام موضوعة مسبقاً، كما تنم عن انتقائية في التعاطي مع النصوص والشواهد ، وعدم الدقة في النقل والاقتباس ، وسيتضح ذلك من خلال مناقشة محتويات الكتاب .
يرى المؤلف أن المؤرخين وكتاب السير والتراجم المعاصرين ل ” عدي بن مسافر ” ، كابن الأثير ،و ابن خلكان ، وياقوت الحموي لم يذكروا شيئاً عن أموية الشيخ ، وهؤلاء المؤرخون هم الأقرب زماناً ومكاناً ل ” عدي بن مسافر “، ويتخذ المؤلف من عدم ذكر هؤلاء لأموية الشيخ دليلاً على كرديته . لكنه ينسى أن هؤلاء لم يتحدثوا أيضا عن الأصل الكردي للشيخ ، ويستخلص من هذا الكلام أن النسب الأموي والنسبة الكردية جاءا في عهود متأخرة ، وقد أشار الباحث والمحقق المصري أحمد تيمور في كتابه عن اليزيدية إلى أن “ابن الوردي ” ذكر تاريخ الشيخ ” عدي بن مسافر ” كما ذكرها ” ابن خلكان ” مع إضافة اسم ” مروان ابن الحكم الأموي ” إلى اسمه. ويضيف أن في (( هذه الزيادة نظر))(3) . ومن هنا كان لزاماً على المؤلف أن يتعاطى مع الروايات المختلفة بنفس المعيار والدرجة، وكان حرياً به أن يتساءل ، وهو بصدد كتابة بحث علمي ، لماذا لم يذكر ” ابن خلكان ” و ” ابن الأثير ” النسب الكردي ل ” عدي بن مسافر ” وليس النسب الأموي فقط ، خاصة إذا علمنا أن معظم الذين ترجموا ل ” عدي بن مسافر ” نقلوا إما مباشرة عن ” ابن خلكان ” أو نقلوا عن كتب هي بدورها نقلت عن ” ابن خلكان “، أي أن ” ابن خلكان ” هو المصدر الرئيس في ترجمة الشيخ ، والمثال التالي يوضح ذلك .
ذكر ” ابن خلكان ” في ترجمة ” عدي ” ما يلي : (( ….. تبعه خلق كثير ؛وجاوز حسن اعتقادهم فيه الحدّ، حتى جعلوه قبلتهم التي يصلون إليها ، وذخيرتهم في الآخرة التي يعولون عليها ، وكان قد صحب جماعة كثيرة من أعيان المشايخ والصلحاء والمشاهير مثل عقيل المنبجي وحماد الدباس وأبي النجيب عبد القاهر السهروردي ، وعبد القادر الجيلي ، وأبي الوفاء الحلواني ، توفي الشيخ سنة سبع وقيل خمس و خمسين وخمسمائة في بلده بالهكارية و دفن بزاويته……)) (4) .، وجاءت ترجمة الشيخ في كتاب الوافي بالوفيات ل ” صلاح الدين بن أيبك الصفدي ” ، وهو من كتاب التراجم المتأخرين ، (( ….. تبعه خلق وجاوزوا فيه الحد حتى جعلوه قبلتهم التي يصلون إليها ، وذخيرتهم في الآخرة . صحب الشيخ عقيل المنبجي ، والشيخ حماد الدباس ، وعاش الشيخ عدي تسعين سنة وتوفي سنة سبع وخمسين وخمسمائة )) (5) . إن هذه المقابلة بين نصي ابن خلكان والصفدي ، توضح بجلاء أن كتب الطبقات المتأخرة لا تقدم معلومات جديدة حول سيرة ” عدي بن مسافر ” ، لذا فلا فائدة من إيراد روايات المتأخرين مهما تعددت وكثرت، لأنها منسوخة عن الرواية الأصل ، ولا يمكن التعويل عليها ما لم نحدد مصدر الرواية . وفي هذا السياق ذاته أورد المؤلف روايات عدة تتحدث عن أموية الشيخ ك ” الشطنوفي” المتوفى سنة ( 1314م) و ” المقريزي” المتوفى سنة ( 1441م ) و ” ابن تغري بردي الأتابكي ” المتوفى سنة ( 1469م ) و ” التادفي الحنبلي ” المتوفى سنة( 1556م ) واعتبرها (( سقيمة وهزيلة ولا تستحق المناقشة للبعد الزمني )) ص14 بين الشيخ ” عدي بن مسافر ” وكتاب التراجم المذكورين ، واعتماداً على منطق المؤلف ومنهجه ، يمكن سحب هذا الكلام على الروايات المتأخرة أيضاً والتي تحدثت عن النسبة الكردية ل ” عدي بن مسافر ” واعتبارها (( سقيمة وهزيلة ولا تستحق المناقشة للبعد الزمني ))، لكن المؤلف لا يتعاطى بحيادية مع هذه الروايات ، إذ يكتفي بالروايات التي ذكرت النسبة الكردية للشيخ ، وهنا البعد الزمني ليس له اعتبار لدى المؤلف، و تغاضى عن الروايات التي تحدثت عن الأصل الأموي للشيخ.
ذكر المؤلف أن ” ابن تيمية ” نفى النسب الأموي للشيخ ” عدي ” واعتبره (( كذب قطعاً )) ص14، وفي واقع الأمر أن ” ابن تيمية ” نفى انتساب الشيخ إلى ” مروان بن الحكم ” واعتبر هذا الانتساب ( كذب قطعاً ) وليس الانتساب إلى بني أمية . جاء في الوصية الكبرى ل ” ابن تيمية ” (( من أحمد بن تيمية إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة ؛ المنتمين إلى جماعة الشيخ العارف القدوة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي )) ( 6 ) ويتضح من رسالة ” ابن تيمية ” أن اعتراضه ليس على أموية الشيخ وإنما على انتسابه إلى ” مروان بن الحكم ” .
وفي معرض رده على العلاقة بين الأمويين والهكارية ،ينفي المؤلف ما ذكره المقريزي أن بعض الهكارية تزعم أنهم من ولد ” عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب ” ( 7 )، ويسرد قائمة طويلة من المؤلفين الذين تحدثوا في كتاباتهم عن القبيلة الهكارية أمثال : ” السمعاني” في كتابه( الأنساب) و ” ابن خلكان ” و ” فضل الله العمري ” و ” القلقشندي ” ويضيف المؤلف أن هؤلاء لم يشيروا إلى (( أسطورة نسب الهكارية إلى عتبة بن أبي سفيان )) ص17 ، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : هل حقاً أن المؤرخين لم يذكروا شيئاً عن العلاقة بين الأمويين والأكراد كما يذهب إليه المؤلف ؟ .
في الحقيقة ثمة مصادر تاريخية عديدة تشير إلى هذه العلاقة، بصرف النظر عن صحة هذه الروايات أو الدوافع التي تقف خلفها ، وقد تطرق المؤلف إلى الخلفية الدينية والسياسية لهذه الروايات ، أما قوله إن المصادر لم تتحدث عن علاقة الهكارية بالأمويين أو ب ” عتبة بن أبي سفيان ” فمجانب للحقيقة 0
ذكر ” ابن الأثير ” في كتابه ” اللباب في تهذيب الأنساب ” عند الحديث عن النسبة إلى الهكارية (( ومنها أبو الحسن على بن أحمد بن يوسف بن جعفر بن عرفة الهكاري الملقب بشيخ الإسلام ، وهو ولد عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية )) ( 8 ). وذكر” ابن خلكان ” في كتابه ” وفيات الأعيان ” ( 9 ) هذه الترجمة كما ذكرها ” ابن الأثير ” دون زيادة أو نقصان . وكذلك ذكر ” شهاب الدين بن فضل الله العمري ” في كتابه ” مسالك الأبصار في ممالك الأمصار ” العلاقة بين الكرد والأمويين أثناء حديثه عن القبيلة الجولمركية التي انتسب إلى جولمرك مركز إقليم ” هكاريا ” إذ يقول : (( ومنهم – أي الأكراد – الجولمركية؛ وهم قوم نسبوا إلى الوطن لا إلى النفر بل هم طائفة من بني أمية يقال إنها حَكَمية – نسبة إلى مروان بن الحكم – اعتصموا بالجبال عند غلبة الرجال عليهم واستغنوا بمنعتها عند استعمال الباس ومخالطة الناس طلباً للسلامة من أعدائهم وفراراً من اعتدائهم فانخرطوا في سلك الأكراد فسلموا )) ( 10 ) ، ليس ثمة ما ينافي العقل والوقائع التاريخية وعلم الاجتماع فيما ذكره ” ابن فضل الله العمري “، و يمكن تقبلها أكثر إذا تخلينا عن خلفياتنا الإيديولوجية ، ولو بشكل مؤقت ، ونظرنا إلى الموضوع من زاوية اجتماعية تاريخية .
لقد دخلت الجيوش العربية الإسلامية بلاد فارس وكردستان وغيرها من المناطق والبلدان ، وغيرت التركيبة السكانية لبعض المدن بعد أن تم إسكان العرب فيها وإجلاء سكانها ، وقد ذكر صاحب كتاب ” فتوح البلدان ” أن عياض بن غنم لما انصرف من مدينة خلاط (( وصار إلى الجزيرة ، بعث إلى سنجار ، ففتحها صلحاً وأسكنها قوماً من العرب )) ( 11 ) . وبعد عملية أسلمة الكرد ، صلحاً تارة و عنوة تارة أخرى ، أصبحت كردستان تابعة للدولة العربية في دمشق وبغداد ، مما أدى إلى إفساح المجال للقبائل الكردية والعربية والتركية وغيرها من الشعوب والطوائف للتنقل والترحال في نطاق حدود الدولة العربية دون قيود تذكر ، ناهيك عن حاجة الدولة إلى تجنيد هؤلاء في حروبها الداخلية والخارجية ، وعندما آلت السلطة إلى بني العباس تشتتت الأسرة الأموية ولاذت بعض أفرادها بجبال كردستان ، كما أشار إلى ذلك ابن فضل الله العمري المارّ ذكره .
وتشير بعض المصادر التاريخية إلى شدة محبة الأكراد لمعاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد ولهذا (( نجد بعض القبائل والأسر الكردية في الجبال صاروا ينتسبون إلى جد أموي )) ( 12). وقد أشار المأثور الشفاهي والكتابي لليزيدية إلى هذه العلاقة ، ولا ننس أن آخر خلفاء بني أمية ” مروان بن محمد ” كان (( ابن أمة كردية )) كما تذكر معظم المصادر التاريخية ، وضمن هذا السياق التاريخي كتب المؤلف عن (( الكورد في بلاد الشام )) ص29، ولكنه لم يشأ الحديث عن وجود القبائل العربية في كردستان واندماجهم في المجتمع الكردي ، تماماً كما اندمج الكرد في محيطهم العربي في بلاد الشام . وفي هذا الصدد يذكر الباحث والمفكر العراقي هادي العلوي أن الأمم التي نزلت أرض كردستان (( انقطعت عن أصولها ونسيت لغاتها وصارت تتكلم اللغة الكردية )) ( 13 ) .
يستعرض المؤلف مجموعة من (( الدلائل والحقائق )) ، بلغت 13 دليلاً للتأكيد على كردية الشيخ ” عدي بن مسافر “. وفي واقع الحال إن دلائله لا تعدو كونها افتراضات واستنتاجات ، يفترض المؤلف صحتها ، وهي بدورها تحتاج إلى نصوص تاريخية لتعزيزها، وإن إكثار المؤلف من هذه (( الدلائل والحقائق )) ينمّ عن افتقار المؤلف لشواهد تاريخية محكمة وموثوقة ، وإلا لما احتاج المؤلف إلى هذا الكمّ من (( الأدلة والبراهين )) حول علم من أعلام التاريخ الإسلامي أشبع درساً وبحثاً .
ذكر المؤلف أن البحاثة العراقي يعقوب سركيس أورد في كتابه ” مباحث عراقية ” نصاً للراهب ” راميشوع ” كتبه في حدود سنة ( 1451م ) ، جاء فيه ؛ إن اسم والد الشيخ ” عدي ” كان ” مسفر ” أو ” مسافر بن أحمد ” وهو من الأكراد التيراهية ص20، ويضيف المؤلف أن ” ابن الأثير ” هو أول من تحدث عن التيراهية ضمن حوادث سنة 602ه 1205م .
يتمسك المؤلف هنا بنص الراهب راميشوع ليعزز رأيه ويهمل ما ذكر ه ” ابن الأثير”، علماً أن المؤلف نفسه يعترف بأن ” ابن الأثير ” هو أول من ذكر ” التيراهية ” ، لكن ليس ثمة علاقة ، حسب نص ابن الأثير ، بين الكرد والتيراهية ، كما أراد المؤلف إيهام القارىء بذلك .
جاء في نص ابن الأثير (( وكانت فتنة هؤلاء التيراهية على بلاد الإسلام عظيمة قديماً وحديثاً ، …. وكان أهل فرشابور معهم في ضر شديد لأنهم يحيطون بتلك الولاية من جوانبها )) ( 14 ) .
يفهم من هذا النص أن التيراهية يحيطون بولاية ” فرشابور ” القريبة من مدينة ” غزنة” الأفغانية والبعيدة عن جغرافية كردستان ، كما جاء في معجم البلدان ( 15 ) ، وأقدم كتاب ورد فيه ذكر الأكراد التيراهية أو التيرهانية ، حسب علمي ، هو كتاب ” تاريخ الزمان ” لابن العبري ، إذ ذكر فيه أنه (( في سنة 602للعرب 1205م ظهر جنس من الأكراد التيرهانية …. على أن هؤلاء الأكراد لم يدينوا بدين الإسلام بل استمروا في عبادتهم الوثنية المجوسية القديمة ..)) ( 16 ) ، وفي مخطوطة الراهب راميشوع هناك ربط بين اليزيدية الذين يمتون بصلة القربى للشيخ عدي بن مسافر والأكراد التيراهية المسلمين ( 17 ) ، لقد أشار مترجم المخطوط الأستاذ يعقوب سركيس في مقالة له ، منشورة في مجلة ” لغة العرب ” البغدادية إلى الأخطاء الكتابية الواردة في مخطوط الراهب راميشوع ( 18 ) ، لم يحلل المؤلف عبد الرحمن مزوري هذا المصدر ، كخطوة أولية من خطوات البحث العلمي ، بل اعتمد عليه كما هو دون تمعّن أو تمحيص، ويبني استنتاجاته على الأخطاء الإملائية للمخطوط. إن
من بين الأدلة والحقائق التي يقدمها المؤلف حول النسب الكردي للشيخ عدي بن مسافر هو ، أن الشيخ كان يتكلم الكردية، وأن أتباعه كانوا في معظمهم من الكرد ص24. وقد استرسل في هذا الموضوع وأورد أمثلة عديدة ، لكن دون أن يتساءل هل اللغة تحدد هوية الناطق بها؟ وهل المنظومة المشيخية قائمة على العرق والقومية ؟ فمن المتفق عليه تاريخياً أن عدياً نزل أرض كردستان وعاش بين الكرد وأصبح يعرف ب شيخ الأكراد ، و لا اعتراض على استنتاجاته وفرضياته من حيث المبدأ ، لكن هذه الفرضيات لا تنبني عليها أحكام قطعية وجازمة كما ذهب إليه المؤلف .
لا يكتفي المؤلف بتحديد الهوية القومية ل ” عدي بن مسافر ” ، بل يحدد القبيلة المنسوبة إليها ، وهي القبيلة الدنبلية ، فيقول بهذا الصدد : (( كتب الباحث الدكتور ممو عثمان الخبير في الديانة الإيزدية ، بأن هناك مصادر تاريخية تذكر بأن الشيخ عدي بن مسافر كان يتكلم الكوردية ، وهو من عشيرة الدنبلية الكوردية )) ص17. وهنا أتساءل: لماذا احتاج المؤلف إلى كل هذا البحث والعناء والأدلة والحقائق لإثبات كردية الشيخ عدي إذا كانت هناك (( مصادر تاريخية ))تتحدث ليس فقط عن قوميته وحسب ، بل عن عشيرته أيضاً ؟ولماذا لا يفصح عن هذه المصادر التاريخية التي تخفف عنه عناء البحث والتمحيص؟ يستنتج المرء مما سبق أن المؤلف نفسه غير مطمئن لما أورده ، كما أن لغته القلقة والمرتبكة عند تعقيبه على الشاهد التالي تدعم زعمنا هذا : (( فلا يستبعد أبداً أن يكون الشيخ عدي بن مسافر كان قد رأى النور بشوف الأكراد في بلاد الشام ، بين إحدى هذه الطوائف والبطون الدونبلية )) ص27 . ثمة تناقض بين ما استشهد به المؤلف من وجود (( مصادر تاريخية )) تؤكد دنبلية الشيخ عدي وبين قوله (( فلا يستبعد )) أن يكون دنبلياً ، وللتأكيد على دنبلية الشيخ يكتب المؤلف أن (( اعتقاد الإيزيدية بأن تازي – تازيك ….. هم من الإيزيدية الذين صحبوا الشيخ عدي بن مسافر أثناء رحلته من موطنه الأول في الشام إلى معبد لالش …. وهم أي تازي ، ينتسبون إلى الدنبلية – الدوملية والماموسية والهكارية )). ويضيف المؤلف إلى أن بعض المؤلفين أشاروا إلى تلك الصحبة المشتركة بين الشيخ عدي وبين القبيلة (الطازية ) تازي عند قدومهم إلى كردستان ، أمثال صديق الدملوجي و عبد الرزاق الحسني وسعيد الديوجي وغيرهم ص28.
صحيح أن هؤلاء المؤلفين تحدثوا ، كما ذكر المؤلف ، عن القبيلة الطازية ، ولكن بما لا يرضي المؤلف ، وما كنت لأستشهد بأقوالهم لولا اعتماده عليهم في دعم رأيه .
ذكر الباحث صديق الدملوجي بخصوص الطازية في كتابه ” اليزيدية ” (( والقوالون هم العرب من أهل الشام كانوا رافقوا الشيخ عدياً في مجيئه إلى هذه البلاد . ويسميهم اليزيدية الأكراد بال “طازية” . ويعقب الدملوجي على هذا الكلام في هامش ص53 أن الطازية بصفتهم عرباً ، فلأجل تمييزهم عن الأكراد سموا ” تازي ” وكلمة ” تازي ” تطلق بالفارسية على كل ما هو عربي ، ( 19 ) . أما المؤلف سعيد الديوجي فقد ذكر في كتابه عن اليزيدية أن (( قبيلة طازي : وهم عرب على ما يدعون ويذكرون أنهم نزحوا مع الشيخ عدي بن مسافر من بلاد الشام إلى لالش )) ( 20 ) ، وفي اللغة الكردية أيضاً تطلق كلمة تازي على العرب كما جاء في ديوان ” مم و زين ” ( 21 ) للشاعر أحمدي خاني .
واضح أن المؤلف يتعاطى بانتقائية مع الشواهد التي اعتمدها ، إذ لم يتطرق إلى أن قبيلة طازي يدعون انهم من العرب ، كما ورد في نصوص الدملوجي والديوجي ، فقد اكتفى بنقل ما يخدم وجهة نظره حول الموضوع ، وينهي المؤلف هذا الجزء من بحثه قائلاً : ((هذه الحقيقة تعطينا الجواب الشافي بان عدي بن مسافر كان دنبلياً عشيرة )) ص28، إن (الحقيقة ) التي يعتبرها المؤلف جواباً شافياً على دنبلية الشيخ ما هي إلا نتائج خاطئة لمقدمات خاطئة .
ينتقل المؤلف إلى موضوع آخر في بحثه ، وهو عراقة الديانة الإيزدية كردّ على المحققين حمدي السلفي وتحسين الدوسكي اللذين اعتبرا الديانة اليزيدية طائفة انحرفت عن الإسلام ، فيقول : (( كتب المحققان السلفي والدوسكي ، بأنهما توصلا إلى أن الطائفة العدوية ( اليزيدية ) كانت طائفة من أهل السنة والجماعة ، ثم انحرفت ومرقت ،وفي رأيهما إنه لا عبرة لمن يقول بأن ديانتهم قديمة !! ترجع إلى ما قبل الإسلام ، أي إلى ما قبل الشيخ عدي بن مسافر في نظرهما )) ص35 . إن ما توصل إليه المحققان السلفي والدوسكي حول تاريخ اليزيدية ( الإيزيدية ) ليس جديداً في حقل الدراسات اليزيدية؛ فقد سبقهما في هذا الرأي فريق من الباحثين الشرقيين والغربيين أمثال أحمد تيمور وعباس العزاوي وروجيه ليسكو ، الذي اعتبر أن المستشرق غيدي وضع لمشكلة أصل اليزيدية حلها النهائي ، باعتبارها بدعة إسلامية (22 ) . وفي عكس الاتجاه ، هناك فريق آخر من الباحثين الشرقيين والغربيين يرون في اليزيدية ( الإيزيدية ) ديانة قديمة مستقلة بذاتها ويمتد تاريخها إلى ما قبل الإسلام .
أثار المؤلف نقاطاً أخرى في دراسته تستحق البحث والمناقشة ، كالعلاقة بين الداسنية والإيزيدية، والوجود الكردي في بلاد الشام ، ولكن لا مجال لمناقشتها في إطار هذه الدراسة، وربما تطرقت إليها في مناسبة أخرى . وأخيراً لا بد من شكر الباحث عبد الرحمن مزوري على دراسته المثيرة للجدل العلمي، كما يُشكر على جهده المبذول في خدمة التاريخ والتراث الكرديين .
المصادر والمراجع :
1- تاج العارفين عدي بن مسافر الكوردي الهكاري ليس أموياً ، الطبعة الثانية ، برلين عام 2004م ، إصدارات مركز هافيبون للدراسات والنشر الكردية في برلين .
2- صدر هذا الكتاب في المملكة السعودية عام 1998م ، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي و تحسين إبراهيم الدوسكي ، للأسف الشديد لم أطلع على الكتاب ، بل اكتفيت بما أورده الكاتب عبد الرحمن مزوري .
3- أحمد تيمور ، اليزيدية ومنشأ نحلتهم ، ص 14 ، المطبعة السلفية ، القاهرة 1347ه .
4- ابن خلكان ، وفيات الأعيان ج3ص254 تحقيق د. إحسان عباس ، دار صادر بيروت .
5- صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي ، الوافي بالوفيات ن، ج 19ص534-535، دار النشر فرانز شتايز شتوتكارت ، 1993م باعتناء رضوان السيد .
6- ابن تيمية ، فتاوى ابن تيمية ج 3 ص 363 ، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي الحنبلي ، مطبعة الحكومة بمكة المكرمة ، ط 1389ه .
7- تقي الدين أحمد بن علي المقريزي ، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ج 3 ص113 ، تحقيق د. محمد زينهم و مديحة الشرقاوي ، مكتبة مدبولي 1998م ، راجعه وضبط هوامشه أحمد أحمد زيادة .
8- عزالدين ابن الأثير الجزري ، اللباب في تهذيب الأنساب ج3ص390،مكتبة بغداد.
9- ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، ج 3 ص345 ، تحقيق د. إحسان عباس ، دار صادر بيروت .
10- ابن فضل الله العمري ، المخطوطة المصورة ل مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، السفر الثالث ص 131، إصدار معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية 1988م ، المانيا الاتحادية .
11- البلاذري ، فتوح البلدان ، ص244 ، حققه وشرحه وعلق علي حواشيه وقدم له عبد الله أنيس الطباع وعمر أنيس الطباع .
12- سعيد الديوجي ، اليزيدية ، ص 28 ، تاريخ الإصدار 2003، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت .
13- الغد الديمقراطي ،العدد 70 أواسط آب 1989م .
14- ابن الأثير ، الكامل في التاريخ ج 12 ص 211-212 ، دار صادر للطباعة والنشر ، بيروت 1966م .
15- ياقوت الحموي ، معجم البلدان ، ج4، مادة فرشابور ، دار صادر بيروت .
16- ابن العبري ، تاريخ الزمان ، ص 245، نقله إلى العربية الأب اسحق أرملة، صدر الكتاب بمناسبة المئوية السابعة لوفلة المؤلف ، قدم له الأب الدكتور جان موريس قييه ، دار المشرق ، بيروت لبنان 1986، توزيع المكتبة الشرقية .
17- سامي سعيد الأحمد ، اليزيدية، أحوالهم ومعتقداتهم ، ج1ص33، بغداد 1970م .
18- صديق الدملوجي ، اليزيدية ، ص388، مطبعة الاتحاد ، الموصل ، العراق 1949م .
19- نفس المصدر ص 52-53
20- سعيد الديوجي ، نفس المصدر ص200.
21- أحمدي خاني ، ديوان مم و زين ص 73 ترجمة وتحقيق جان دوست ، ط 1، 1995م ، إصدار خاص ،
22- روجيه ليسكو ، تاريخ يزيدية جبل سنجار وسورية ، ترجمة احمد حسن ، دار المدى للثقافة والنشر ، دمشق ، أشكر الصديق أحمد حسن لإطلاعي على مخطوطة الكتاب .[1]