سمفونية الرحيل في المجتمع الكوجري… عشيرة ميران نموذجاً
عيسى إبراهيم سعيد*
أصل الميران
تعددت الآراء والروايات حول الجذور التاريخية لعشيرة ميران الكوردية، كمعظم العشائر والقبائل في المنطقة، حيث تمت الإشارة إليهم في أهم كتب التاريخ الكوردي الحديث، عندما ذكرهم المؤرخ شرفخان البدليسي في كتابه (شرفنامه) قبل نحو 423 عام وتحديداً في سنة 1596م، إذ قال: إن عشيرة ميران هي إحدى التشكيلات السكانية لقلعة فنك المعروفة في منطقة بوطان، مع كل من عشائر بجنوي وشقاقي وكوي (بشنوي – شكاكي – كويي)، وذكر المستشرق هلموت كريستوف إن أكراد طوروس الجنوبي (الرحل) الذين يرتادون بادية سوريا وما بين النهرين في الشتاء، ﮪم النموذج الأصيل للأكراد، وجميع الفروع الأخرى مشتقة عنه. وأضاف الأستاذ علي سيدو الكوراني في كتابه القاموس الكردي الحديث: ميران عشيرة كردية في قضاء راوندوز وناحية شقلاوة، وقسم منهم يقيم في منطقة البهدينان، وﮪي عشيرة كردية كبيرة رحالة، تقيم في الجزيرة السورية. ورجح عدد من مؤرخي التاريخ الكوردي الحديث أن عشيرة ميران هي امتداد للكورد المهرانيين ومن أبرز هؤلاء المؤرخ د زرار توفيق الأستاذ في جامعة دهوك والأستاذ كاوا عبد العزيز صاحب رسالة الماجستير عن الكورد المهرانيين، قبيل سنوات قليلة في الجامعة المذكورة. وفي ضوء ما تقدم بالإمكان الاستنتاج أن عشيرة ميران كانت موجودة ومعروفة قبيل التاريخ أعلاه بقرون، حيث أن أماكن ميران الحالية قريبة من أماكن الكورد المهرانية المعروفة، إلى جانب قضية لغوية مهمة وهي أن حرف الهاء تتبدل في اللغة الكوردية إلى الياء بسهولة، إذ أن اسم ميفان يتحول إلى مهفان دون أن يفقد معناه الحقيقي، إلى جانب أمور أخرى كثيرة[1]، وأشار الأستاذ صديق الدملوجي في كتابه (اليزيدية) والدكتور قسطنطين زريق في كتاب (اليزيدية قديماً وحديثاً) بأن الميران من العشائر التي كانت تعمل على ترويج الديانة الإيزيدية، وينسبان عشيرة ميران إلى القبائل الإيزيدية[2].
مهما كانت الروايات فعشيرة ميران اليوم يشكلون وحدة بشرية، يتحدثون كغيرهم من العشائر البوطانية لغة صافية نقية لم تتعرض للمفردات الدخيلة إلا نادراً، وتعتبر لغتﮪم من أعرق وأصفى اللهجات الكردية المحكية؛ ويؤكد ذلك العلامة الأستاذ (علي سيدو الكوراني) في قاموسه (القاموس الكردي العربي)، إذ يقول: «إن لهجة عشائر بوطان بالنسبة للأكراد كلهجة قريش بالنسبة للعرب، وميران من القبائل الأساسية في منطقة بوطان»[3]
رحلة الشتاء والصيف
إن اعتماد الميران على تربية المواشي واعتبارها تؤمن لهم ما يحتاجون إليه من أسباب المعيشة، جعلﮪم يرتبطون بمواشيهم ارتباطاً روحياً؛ فظروف العمل والحياة أجبرتهم على التنقل مع مواشيهم في المنطقة الممتدة بين مصايف سرهدا شمالاً وجبال سنجار جنوباً، وفق وفرة المراعي ونمو النباتات الرعوية.
وكانت عملية الانتقال تتم وفق مسارات مرسومة منذ مئات السنين؛ وجميع المراعي موزعة بالتساوي على أفخاذ وبطون القبيلة؛ حيث لا يجوز لأحد أن يتجاوز حدود غيره، أو أن يرعى بمواشيه في غير الأماكن والمراعي المخصصة له.
حدثني والدي عن جده بأن خلافاً وقع بين فرعي «سينكا» و «وارسري» وهما من الميران على إحدى المراعي في منطقة تقع جنوب غرب رميلي وكولا شيخ تمو شمال تل حداد تحديداً، وكاد أن يؤدي إلى خلاف وقتال عنيف، ولكن الاحتكام إلى رئيس القبيلة الذي كان يمثل السلطة القضائية في ذلك الوقت حال دون إراقة دماء، وتم حل الخلاف سلمياً وأعطيت الأحقية للفرع الذي كان يتردد على ذلك الموقع في السنوات السابقة.
وقد فرضت الطبيعة الجغرافية المحيطة على الميران القيام برحلتين مع مواشيهم: رحلة صيفية وأخرى شتوية؛ فالرحلة الصيفية تبدأ باتجاه الشمال حيث كانوا يقصدون ذوبان الثلوج والنباتات الربيعية والمراعي الخصبة، وكانت تتم على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى
تبدأ من بداية شﮪر أيار (Gulan) من أطراف جبل سنجار والسﮪول المجاورة لها من الشمال والجنوب، حيث الوجﮪة نحو الشمال؛ ويكون التنقل بالوسائل القديمة كالبغال والخيول، ولا يتم ذلك إلا بقرار من رئيس القبيلة، وعندما يصدر القرار تستعد جميع العوائل وتجهز أمتعتها من لحظات الفجر الأولى؛ وتسبق الماشية العوائل في الرحيل مسافة ليلة كاملة ويبدأ الرحيل بإيقاع موسيقي متناسق من أصوات الأطفال وصﮪيل الخيول؛ والابتسامة تعلو جميع الوجوه فتبدو كسمفونية رائعة. ويكون الاستقرار الأول في عدة مواقع على خط عرض واحد، قريبة من بعضها البعض وهي: كركوز (Girkoz)- رميلي (Rimêlȇ)- كولا شيخ تمو (Gola şexTemo) – وارى رشكا (Warê reşiga) – كركوزل ( Gir Gozel) – كرفيده (Gir feyde) – بوزو (Bozo) – كرتولك (Gir tolig) –تل علي قاسما ( Girê Elî Qasima) – كر مرجان (Gir mercan) – كر تمتول (Gir temtûl).
ويستقرون في ﮪذه المواقع مدة شهر واحد؛ وبعد أن ترعى الماشية في هذه المناطق والمواقع وتقل المراعي الخضراء يتجهون نحو الشمال ثانية قاصدين النباتات والمراعي الخضراء.
المرحلة الثانية
وتبدأ ﮪذه المرحلة في منطقة واسعة ممتدة من أطراف (قره جوخ) شمالاً حتى جنوبي (سي كرا Sê gira) في مواقع: بيرا إبراهيم آغا (Bîra Brahîm axa)- بيرا روفي (Bîra rûvî) – خاترجان (Xatir can) – سي كرا (Sê gira) – سويدية (Sewêdî) – قل ديمان (Quldîman) – كرزيرو (Gir zîro)– طاوس (Tawis)- كركي حي ول (Girgê Hêwil) – شكرخاج (Şekir xaç)، والبعض يتجاوز حتى الأطراف الجنوبية لنﮪر دجلة ويستقرون خمسة عشر يوماً، ثم يستعدون لعبور نهر دجلة؛ ولا يتم العبور إلا وفق طقوس وأنظمة محددة، حيث تنقسم القبيلة إلى ثلاثة أقسام ويبدأ العبور بشكل منظم على الجسر الخشبي الوحيد الذي أنشأه أمراء الجزيرة للاستفادة من رسم العبور. يبدأ القسم الأول بالعبور وهو مؤلف من القيادة (بركلاي وتوابعهم)، ثم فرعي (سينكا وعليوكا)، وأخيراً (واره سري وبرزي وإيسكا)؛ وأثناء العبور يكون المنظر رائعاً، حيث ترى صفحة دجلة متألقة تحت الشمس وعشرات الدواب المحملة تعبره والصخب يتعالى؛ وبعد العبور مباشرة تُنصب الخيام في شمال نﮪر دجلة، في الجﮪة الجنوبية لجبال الجودي، في منطقة قريبة من جزيرة بوطان تسمى (كيرة Kêre)، ويستريحون في ﮪذه المنطقة في عدة مواقع تسمى (نقبا Neqeba)؛ وفي ﮪذه الفترة يحضرون أنفسﮪم للمرحلة الثالثة، حيث يشترون حاجياتهم ولوازمهم من أسواق جزيرة بوطان، ويبقون أحمالهم الثقيلة عند بعض معارفهم في الجزيرة أو لدى بعض ساكني التجمعات الريفية في أطراف الجزيرة وبعضهم يبقونها في جوار بعض المزارات الدينية والقبور فتبقى سليمة حتى عودتهم من مصايف الزوزان دون أن يتعرض لها أحد؛ وذلك لاعتقاد الناس البسطاء بالقدرة الخارقة للمزارات الدينية، حيث يعتقدون أن من يحاول التقرب من المزار بقصد الإساءة سيتعرض للموت المفاجئ ويعاقب يوم القيامة.
وفي منتصف شهر حزيران تبدأ المرحلة الثالثة…
المرحلة الثالثة
حيث تتوجه قوافل القبيلة نحو وادي (سي كيلا) وتتجمع جميع العوائل والأسر في عدة مواقع على طرفي: وادي سي كيلا (Sê kêla) – وادي كرميانس (Çemê Germyansê) – كاني فرشك (Kanî Firşk)- آف شيلو (Av şêlo) – ميركا فقه (Mêrga Feqe) – كاني كل (Kanî kil) – ربني شل (Repnê şil)- كوفت (Kovit) – أورس (Oris)- آري(Ari).
أما قطعان الغنم والماشية فتستمر بالمسير باتجاه مصايف (سرﮪدا وبحيرة وان)، المصايف العليا (Zozanê Jorî)، قاصدين الﮪواء العليل وذوبان الثلوج والنباتات الخضراء؛ فيقوم الرجال بحراسة قطعان الغنم ومرافقتها؛ فكل عائلة ترعى مواشيها في الأماكن المخصصة لها منذ القدم وتسمى (كوز)، وفي ﮪذه المراعي تكون جميع القطعان قريبة من بعضها البعض لدرء الأخطار وخوفاً من سطو القبائل واللصوص؛ وفي ﮪذه المرحلة ينقسم الرجال إلى ثلاثة أقسام:
1- قسم يبقى مع العوائل في منطقة سي كيلا (Sê Kêla).
2- قسم يتولى حراسة قطعان الغنم في المراعي.
3- القسم الآخر وهم الرعاة يتنقلون بالمواشي في المراعي ويتدبرون أمور الحملان والخرفان الصغيرة.
ويرافق الرعاة بعض النساء اللواتي يقمن باستثمار منتجات الماشية من الحليب وتحويلها إلى سمن وجبن، ويقمن بنسج الصوف وحياكته، ويبقين مع الرعاة في بيوت شعر خفيفة وصغيرة أو بيوت صيفية مصنوعة من القصب والبردي تسمى (كول Kol)، وفي أواخر الخريف تبدأ (الرحلة) العكسية من الشمال باتجاه الجنوب، إذ يعود الرجال مع القطعان إلى مضاربهم وعائلاتﮪم في أطراف سي كيلا، حاملين معﮪم ما أنتجته مواشيهم كالصوف والسمنة والجبن؛ وعند الوصول تبدأ مراسم الاحتفال بعودة الرعاة والمواشي بإقامة حفلات الموسيقى المؤلفة من الطبل والمزمار، فتعقد حلقات الدبكة وتتزين الفتيات، وكذلك يتزين الشباب لاختيار شريكة الحياة، وتقام الولائم وتذبح الذبائح، حتى تبدأ الرحلة العكسية باتجاه ديريك وسهول سنجار بعد عبور نهر دجلة.
وفيما يلي أسماء المراعي الصيفية والشتوية للميران خلال رحلة الصيف والشتاء:
المراعي الصيفية للميران
باني عويني Banê Ewênê آري Arî
باني خاني Banê Xanê كاني فرشك Kanî firşk
كاني قير Kanî Qîr بستا هنجه Besta Hincê
داري غزالا Darê xezala جمي كاريى Çemê kariyê
كاني رش Kanî reş كيل جوك Kêl çûk
كوفت Kovit جلوك Çilûk
أورس Oris هسانا Hesana
داره سين Dare Sîn ميركا هلاوست Mêrga Helawist
كافاش Kavaş ربني شِل Repnê şil
آف شيلو Av şêlo ميركا فقه Mêrga Feqe
خوريزا سور Xûrîza sor جمي كرميانسي Çemê Kermiyansê
بستا به لكا Besta belega جمي سي كيلا Çemê sêkêla
دشتا قسر وكي Deşta Qesrogê كوريج Kûrîç
واري هسد Warê Hesed هوسلي Hosilî
كاني كِل Kanî kil توكزا Tokiza
سرهدا Serheda نيسكين Nîskîn
المراعي الشتوية للميران
كركوزل Gir Gozel تل ناعور
كرفيدة Gir feyde تل مشحن
كري علي قاسما Eli qasima تل كوجر حاليا
رميلي Rimêlȇ رميلان الباشا
قبو Qepo خدعانية الضفران
كركي فريز Girkȇ frȋz إم حبال
كرا صور Gire sor تل ذهب
كربالات Gir balat تل الهوى
كركوز Gir koz الكوز حالياً
كر هوك Gir hok تل عرب
كرتولك Gir tolig خراب الجير
كرى فاتى Girê fate الوادي
بيرا سيفو Bîra sêvo الخدعانية
خابورا Xabûra مسعودي كبير
كربيج Keroîç الصديدية
سويدي Sewêdî السويدية فوقاني
كرى جيتكى Gir tolig تل خنزير
شكر خاج Şekir xaç شرم الشيخ
تبكى Tepkê الطبقة
طوراميش Toramişa طراميش
جمي صفين Çemê sefên وادي السفان
قره جوخ Qereçox كراتشوك
زخاة Zixat الينبوع
تقل بقل Teqil beqil كنانه
حموكر Hemo ker الحرية
كرتمتول Gir temtûl العليانية
بيرا روفي Bîra rûvî طرابلة
واري رشكا Warȇ Reșika تل غزال المدلول
بيرا برهيم آغا Bîra Berhîm axa الصهريج
خاتر جان Xatir can سبع جفار
طاوس Tawis الوليد
كركي حي ول Girgê Hêwil الكوفة
عمر طويل Emer tewîl عمر طويل
كرى سليمان ساري Girê Silêman Sarî سليمان ساري
كركي خجو Girkȇ xeco السويد (خربة بنيان)
قيرويا Qîroya قيرو
خابورى زيرى Xabûrê jêr مسعودي رفيع
واري ضيف Warȇ zȇf الصبيحية
سي كرا Sê gira سبع جفار
قل ديمان Quldîman النجف
كر خردل Gir xerdel تل خردل
ملا مرز Mela merz ملا مرسي
وادي كرزيارات Çemê girziyaret تل زيارات
وادي دمر قابو Çemê dimir Qapo باب الحديد
وادي كرى ديرا Çemê girê dêra تل مذري
جم جيلك Çem çêlek المرج الاخضر
جمي روباريا Çemê rûbary الرحيبة
نوالا عموقون Newala emo Qon عرعور
كر كمبر Gir kember الجحيشية
ملاحظة: أسماء المواقع والأماكن السابقة مدوّنة بلهجة الميران؛ أي كما كانوا يتداولونها أثناء تنقلهم في رحلة الصيف والشتاء (من وإلى الزوزان)؛ ولا زالت بعض هذه الأسماء متداولة حتى الآن.
هذه الخريطة للكاتب إسماعيل بيشكجي يوضح فيها مسار حركة العشائر الكوردية (الكوجر) من وإلى مصايف الزوزان، مأخوذة من أرشيف الدكتور علي ميراني.
مراجع البحث:
1 – مخطوطة بعنوان عشيرة ميران ودورهم السياسي والاجتماعي للدكتور علي ميراني أستاذ التاريخ الحديث في جامعة زاخو.
2- القاموس الكردي الحديث، علي سيدو كوراني.
3 – معلومات ميدانية قام بها كاتب الدراسة (لقاءات مع بعض المعاصرين لحياة البداوة).
4 – كتاب اليزيدية، صديق دملوجي.
5 – كتاب اليزيدية قديماً وحديثاً، الدكتور قسطنطين زريق.
6- المعلومات المتعلقة بأسماء المراعي معظمها مأخوذة من السيد محمد رشيد من قرية سيكرا.
—————–
(1) للمزيد من التفاصيل ينظر الدكتور علي ميراني (عشيرة ميران دورها الاجتماعي والسياسي) مخطوطة بحوزة المؤلف الصفحة 34 و 45.
(2) كتاب الميران في إمارة بوطان – عيسى إبراهيم قاسم – دار الينابيع دمشق.
(3) كتاب القاموس الكوردي العربي الحديث، علي سيدو كوراني.[1]