دجوار أحمد آغا
#جالديران# ، اسمٌ ربما لم يُسمع به ولا يعرفه كثيرٌ من الكردِ في زمننا المعاصر. هل هو جبل أم نهر؟ سهل أم وادي؟ بلدة أم مدينة؟ وأين يقع؟ وبماذا يرتبط؟ باستثناء القلة ممن يختصون بالشأن والتاريخ الكرديّ، وهؤلاء حتى وقت قريب كان معظمهم من غير الكرد (عرب، فرس، ترك، أجانب مستشرقين روس، ألمان، إنكليز).
بدأ الكرد بالاهتمامِ بدراسةِ ومعرفةِ تاريخهم في العصرِ الحديث متأخرين كثيراً عن غيرهم من الأمم والأقوام لأسباب متعددة منها الذاتيّ ومنها الموضوعيّ. ولكننا بصدد التعرف على ماهية جالديران وأهميتها في تاريخ وحياة الكرد.
موقع جالديران
جالديران أو تشالديران مدينة كرديّة تقع شمال منطقة وان بباكور كردستان 71 كم جنوب غرب جبل آكري العظيم (آرارات) شرق مدينة أركيس قرب الحدود المصطنعة التي رسمتها الدول المحتلة لكردستان (تركيا وإيران). على ارتفاع أكثر من ألفي متر عن سطح البحر. وهناك أيضاً سهلٌ خصيبٌ بروجهلات كردستان وفيه مدينة بنفس الاسم تقع شرق بحيرة أورمية. لكنَّ؛ المرجّح أنّها تلك الواقعة بباكور كردستان القريبة من وان.
الصفويين والشاه إسماعيل
الدولةُ الصفويّةُ في إيران كانت أحد طرفي الصراع في واقعة جالديران والتي جعلت نفسها حاميةَ المذهب الشيعيّ “الإثني عشريّ” والذي أصبح المذهبَ الرسميّ للدولة حتى الآن.
يعود الصفويون بأصولهم إلى الشيخ “صفي الدين الأر دبيلي” المولود (12521334) وهو الجد الخامس للشاه إسماعيل، يُقال عنه بأنّه كان رجلاً نشيطاً دائم الحركة والسعي واستطاع أن يجذب الأتباعَ حوله، ونجح أولاده وأحفاده من بعده بنشر المذهبِ بشكل أوسع وتحولوا من أصحابِ دعوة وشيوخ طريقة إلى مؤسسي دولة لها أهدافها السياسيّة والمذهبيّة.
قُتل جد إسماعيل الصفويّ الشيخ جنيد بن إبراهيم في معركة دارت بينه وبين حاكم شروان السلطان خليل التركمانيّ سنة 1460 فالتف أتباع الشيخ الجنيد حول ابنه حيدر (والد إسماعيل الصفويّ)، وبدأ حيدر العملَ على تنمية قدرات أتباعه واتخذ لهم شعاراً يميّزهم وهي قلنسوة حمراء ذات عشرِ زوايا دلالةً على الائمة الاثنا عشر، فأطلق العثمانيّون على كلِّ من يلبسِ تاج حيدر “قزل باش” أي (الرؤوس الحمراء).
غادر الشيخ حيدر أردبيل متوجها إلى آمد “ديار بكر” حيث التقى هناك حسن قوصون زعيم الآق قويونلو الذي كان يحترم حيدر بن جنيد احتراماً شديداً وزوّجه من ابنته حليمة. وبعد وفاة حسن قوصون المحبّ لحيدر، تولّى الحكم بعده يعقوب الذي كان معادياً لحيدر. وانتهى الأمر بقتلِ حيدر سنة 1488 خلال معركة في طبرستان وخلف بعده ثلاثة أبناء هم: إبراهيم وعلي وإسماعيل. وهكذا نصل إلى نسب الشاه إسماعيل الصفويّ سليل هذه الأسرة العريقة ومن أحفاد مؤسسها الكُرْدِيٍّ الشيخ صفي الدين الأردبيليّ.
ولد إسماعيل الصفوي في 25 تموز 1487 واُعتقل هو وإخوته وأمه بعد مقتل والده وسُجنت عائلته وهو معهم لمدة أربع سنوات في قلعة اصطخر جنوب إيران والتي كانت سابقاً عاصمة للإمبراطوريّة الساسانيّة. بعد وفاة يعقوب أُطلق سراحهم، والتجأوا إلى حاكم “لاهيجان” في الشمال على بحر قزوين. وكان حاكمها “كاركيا ميرزا” محباً للصفويين ما جعله يُشرف على إعداد إسماعيل ليغدو شاباً قوياً وفارساً متمكناً. خلال تلك المرحلة نشبت صراعات داخلية بين أفراد أسرة آق قويونلو التي كانت تحكم فارس الأمر الذي استغله الصفويين وشرعوا بخوضِ المعارك ضدهم للسيطرة على إيران وفي عام 1502 استولوا على عاصمتهم “تبريز” وجعلوها عاصمة لدولتهم الصفويّة بقيادة “أبي المظفر شاه” وهو اللقب الذي أطلقه أتباعه عليه.
العثمانيين والسلطان سليم الأول
الطرف الثاني في واقعة جالديران كانت السلطنة العثمانيّة والتي تعود بجذورها إلى عثمان بن أرطغرل تأسست سنة 1299 والذي اعتمد المذهب السنيّ للسلطنة وبذلك أصبح الحامي لهذا المذهب وينتسب السلطان الغازي سليم ياووز الأول إلى هذه السلطنة وأصبح فيما بعد خليفة المسلمين بعد غزوه واحتلاله لبلاد الشام ومصر والحجاز.
يعود العثمانيون بجذورهم العرق المغوليّ حيث كان موطنهم الأصليّ آسيا الوسطى بين جبال آلتاي شرقاً وبحر قزوين غرباً، وهم مجموعة من قبائل الأوغوز ومنها قبيلة قاي والتي هاجرت بقيادة زعيمها كندز ألب واستقرت في أخلاط وخلفه في الحكم ابنه سليمان شاه وثم حفيده أرطغرل والد عثمان مؤسس الدولة العثمانيّة. وينتمي السلطان سليم ياووز الأول إلى هذه القبيلة التركمانيّة ويُعتبر أول سلطان عثمانيّ يجمع بين لقب السلطان وخليفة المسلمين وذلك عقب غزوه واحتلاله لكردستان وبلاد الشام ومصر والحجاز.
ولد سليم الأول في منطقة أماسيا في 10 تشرين الأول 1470، وتلقّى تعليمه على يد أبرز علماء الدولة في عصره. وعيّنه والده السلطان بايزيد الثاني أميراً على سنجق طرابزون وظل هناك ما بين 14871510. وتولّى الحكم في الفترة 1512 حتى 1520 بعد انقلاب قام به على والده السلطان “بايزيد الثاني” بدعم من “الجنود الإنكشاريّة” وحُكام القرم، فأزاح إخوته عن طريقه من خلال القضاء عليهم بالقتل والتصفية الجسديّة مستنداً بذلك إلى قانون جده “محمد الفاتح”.
حقيقة وجوهر العثمانيين أجداد الأتراك
يحاول الأتراك في العصر الحالي إظهار السلاطين العثمانيين بأنّهم فعلوا ما فعلوه من حروب ومعارك وغزوات، يُسمونها “فتوحات” قام بها هؤلاء الأبطال لنصرةِ الدين الحنيف على أعدائه، لكن وقائع وحقائق التاريخ تنفي ذلك إذ نرى أنَّ هؤلاء “الأبطال” قتلوا إخوتهم من أجل السلطة، فمثلاً سنَّ جد سليم الأول “محمد الفاتح” قانوناً يُعطي لمن يحكم الحقَّ في قتلِ إخوته الذكور لحفظ سلطته. ونصُّ القانون يقول: “… وإن تيسرت السلطنةُ لأحدٍ من أبنائي، فإنّه ومن أجل المصلحةِ العامّةِ يصحُّ له قتلُ إخوته، إنّ هذا قانون آبائي وأجدادي، وهو كذلك قانوني، ولقد جوّز أكثر العلماء ذلك، فليعمل بموجبه حالاً”.
إلى جانب أنَّ معظم هذه الغزوات والمعارك كانت ضد المسلمين فسليم الأول بمعركة جالديران 1514 حارب ضد الشاه إسماعيل الصفويّ وهو مسلم، وكذلك كلاً من قانصو الغوري وطومان باي كانا مسلمين. فكانت نصرة الدين ونشر الإسلام حجةً لتبريرِ أطماع السلطةِ وتوسيعِ رقعةِ الأراضي التي تستولي عليها.
أسباب الحرب بين الطرفين
لم تكن الحرب واقعة بين الطرفين لولا وجودُ جملة من الأسباب أدّت إلى نشوبها، منها اقتصاديّة ومنها سياسيّة وهناك الفكريّة والمذهبيّة أيضاً.
اتسمت العلاقاتُ بين الدولة الصفويّة الناشئة والعثمانيين بالهدوء، وساعد على ذلك أنّ السلطانَ بايزيد الثاني الذي تولى بعد محمد الفاتح كان رجلاً يحب السلام والأدب والفلسفة، ويميلُ إلى دعم العلاقات العثمانيّة -الصفوية، وبالمقابل كان إسماعيل الصفويّ محبّاً للسلام وساعياً إلى إحلال الاستقرار والأمان بالمنطقة. بعد خلع بايزيد الثاني وتولي ابنه سليم الأول السلطة حيث كان يطمعُ بتوسيعِ أراضيه باتجاه الشرق وكان ينظرُ بعين الشكِّ والريبةِ لتنامي نفوذ الصفويين بين الناس حتى في مناطق سيطرته. فعزم على توجيه ضربةٍ قويةٍ لهم وتحدَّ قوتهم المتنامية.
إضافةً إلى سعيه للوصول إلى الهند وتحقيق السيطرة على الطريق الجنوبيّة للقوافل التجاريّة وخاصة التوابل والحرير، وكان مهماً جداً له في ظل الاحتكار الذي كان يفرضه التجارُ البرتغاليون للطريق الجنوبيّة. ومن ناحية أخرى أبدى سليم لحاشيته استيائه من قيام الصفويين بفصلِ المسلمين السُّنة في أواسط آسيا والهند (لاحقاً باكستان) وأفغانستان عن إخوانهم في تركيا والعراق ومصر ما عجّل في قبول الحاشية لتوجّهه نحو الشرق كون الصفويين أصبحوا خطراً يهدّد وجودَ العثمانيين أنفسهم.
وقائع معركة جالديران
وجّه سليم إلى الشاه إسماعيل رسالةً مليئةً بكلماتِ الاستعلاء والتهديد والوعيد مفادها: “.. أنا زعيم وسلطان آل عثمان، أنا سيد فرسان هذا الزمان، أنا الذي تذلُّ أمامه الملوك المتصفون بالكبر والجبروت، أنا الملك الهمام السلطان سليم خان ابن السلطان الأعظم مراد خان، أتنازل بتوجيه إليك أيها الأمير إسماعيل، يا زعيم الجنود الفارسيّة… ولما كنت مسلماً من خاصة المسلمين وسلطاناً لجماعة المؤمنين السنيين الموحّدين… وإذ أفتى العلماء والفقهاء الذين بين ظهرانينا بوجوبِ قتلك ومقاتلة قومكَ فقد حقَّ علينا أن ننشطَ لحربك ونخلصَ الناسَ من شركك”.
حين علم إسماعيل الصفويّ بقدوم القوات العثمانيّة -وكان مشغولاً وقتها بإخراج الأوزبك من خراسان- عمل على تعطيل وصولها، فأمر بتخريب الطرقِ والقرى الواقعة في طريق الجيشِ العثمانيّ؛ الأمر الذي أخّر وصول العثمانيين وأنهك قواهم، لكن ذلك لم يمنعهم من مواصلةِ السير إلى إيران، والإقامة في “سيواس” انتظاراً للمعركة الحاسمة.
وصل الجيش العثمانيّ بقيادة سليم الأول في 22 آب 1514 لسهل جالديران ليجدوا الصفويين قد سبقوهم وتمركزوا على الطرف المقابل. وقروا بدء المعركة في فجر اليوم التالي.
صبيحة الثالث والعشرين من آب 1514 وكان الشاه إسماعيل قد تمركز في ميمنةِ جيشه وفي الميسرةِ كان والي آمد “ديار بكر” محمد خان. لم يكن جيش الصفويين منظماً بما فيه الكفاية وكان جله من الفرسان التركمان، كما أنّه لم يكن جيش الشاه يمتلك أسلحة ثقيلة كالمدافع ولا حتى جنود مشاة حملة البنادق. أما في الجانب العثمانيّ فكان السلطان سليم في قلبِ الجيش المنظم وهناك قادة في الميمنةِ والميسرةِ.
اُستخدم الكُرد وقوداً لهذه المعركة لصالح السلطنة العثمانيّة ضد الدولة الصفويّة، ووقعت الجولة الأخيرة من هذه المعركة في جبل يسمّى (دركَزلي) القريب من مدينة أورميه الكرديّة وانتهت بانتصارِ السلطان العثمانيّ سليم الأول وجرح الشاه اسماعيل الصفويّ ويقال إنَّ حوالي 6000 من الشبابِ الكرديّ راحَ ضحية هذه الجولة.
موقف الكرد من المعركة
الكرد كانوا قبل هذه المعركة يعيشون على شكلِ دولٍ مستقلةٍ في بلادهم (الدولة المروانيّة، الحسنويّة، الشداديّة، الأيوبية…).
جرى أولُ احتكاكٍ بين الكرد والترك خلال هجوم السلاجقة على “ميافارقين” عاصمة الدولة المروانيّة بعشرة آلاف مقاتل، لكنها باءت بالفشل. يقول عن ذلك ابن الأزرق، مؤرّخ الدولةِ المروانيّة والمعاصر لعدد من أمرائها، على هذه المحاولة بالقول: “وكان هذا أول ظهورٍ التركِ بهذه الديار، ولم يكن (الناس) قد رأوا صورهم” (تاريخ ميافارقين- ص 161).
أدّى التزاحمُ على مكانٍ واحدٍ إلى اضطرابٍ عسكريّ واجتماعيّ، حتى بدون نشوب قتال مباشر. ورغم مشاركةِ الكردِ الفعّالة في معركة (ملاذكرد) سنة 1071، وهزيمة بيزنطة، فإنَّ جوائز الانتصار آلت إلى السلاجقةِ، حتى أنَّ التاريخ لم يعد يتذكر أيَّ مشاركةٍ كرديّةٍ في هذه المعركة الفاصلة في تاريخ الشرق الأوسط.
نتيجة معركة جالديران
يمكنُ القولُ إنَّ جالديران كانت محاولة وفرصة لتأسيسِ علاقةٍ تركيّةٍ كرديّةٍ جديدة، تتجاوز الخبطةَ المدوية التي تلقاها الكردُ على أيدي السلاجقة ومن تبعهم. بالمقابلِ، كانت هذه الوقعة فرصةً لبني عثمان للتخلصِ من الصداعِ الذي تسببه لهم قبائل التركمان البدويّة، الرافضة لمبدأ الدولةِ الإمبراطوريّة نفسها. ف”سليم الأول” بهذا المعنى، استعان بالكردِ في حربه ضدَّ الصفويين، ولولا وقوفُ الكردِ إلى جانبه لما انتصر في المعركة، كما أنّه وجّههم ضدَّ التركمان الذين كانوا من الرعايا غير المرغوبِ فيهم عثمانيّاً في تلك الفترة، وذلك لرفضهم التحوّل إلى رعايا بالمفهوم السائد.
قبل معركة جالديران التي حطمت تطلعاتِ الصفويّة جعل نهر الفرات الحد الغربيّ مع دولة الرومِ (العثمانيّة)، ونال الشيخ والعالم الكرديّ الشهير إدريس البدليسيّ، تفويضَ السلطان سليم، لترتيبِ الأوضاع في أصقاعِ كردستان المفككة والمتنازعة بين أمرائها، فجمع كلمتهم وأقنعهم بنظامٍ إداريّ خاص، يكون الحكمُ بالوراثةِ، فقام مندوبُ السلطان، البدليسيّ، بتنظيمِ العلاقةِ بين الإماراتِ الكرديّةِ والسلطنةِ العثمانيّةِ بعهدٍ مكتوبٍ للحكمِ الذاتيّ شمل أكثر من 46 أميراً كرديّاً، منهم 12 بلقب الخان.
غزو بلاد الشام ومصر
بعد الانتصار في جالديران توجّه سليم بجيشه إلى مرج دابق شمال حلب في 24 آب 1516 حيث تقابل الجيشان العثمانيّ والمملوكيّ بقيادة السلطان قانصوه الغوريّ وانتصر فيها العثمانيون بسبب عدم التكافؤ بين الجيشين وتوجّه منها إلى الريدانيّة في 24 كانون الثاني 1517 وانتصر فيها أيضاً على طومان باي ودخل مصر وقتها وأنهى الخلافة العباسيّة من خلال تنازلِ الخليفة العباسيّ “المتوكل على الله” ومعه القضاة كمال الدين الطويل الشافعيّ، ومحي الدين الدميريّ المالكي، وشهاب الدين الفتوحيّ الحنبليّ وجعل الناس يُنادون باسمه في المساجدِ قائلاً بأنَّ: “من يحمي مملوكاً من مماليك السلطانِ طومان باي عليه أن يسلمه للجندِ العثمانيين وإلا سيتمُّ شنقه على باب داره”. وارتكب العثمانيون مجازرَ وانتهاكاتٍ فظيعةً بحقِّ سكانِ مصر مثلها مثل كلّ المناطق التي غزوها واحتلوها.
قررت محافظة القاهرة حذف اسم السلطان العثمانيّ سليم الأول، وهو أحد أكبر السلاطين العثمانيين، من أحد شوارعها بمنطقةِ الزيتون شمال العاصمة المصريّة.
وقال عاطف عبد الحميد محافظ القاهرة إنّه لا يصحُّ إطلاق “اسم مستعمر” على أحد الشوارعِ المصريّةِ، مشيراً إلى أنَّ الدكتور محمد صبري الدالي أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة حلوان طالب محافظة القاهرة بإزالةِ اسمه، “مشيراً إلى أنَّ السلطان سليم الأول جرّد مصر من استقلالها، وجعلها ولايةً تابعةً للدولة العثمانيّة، فضلاً عن قتله آلاف المصريين خلال دفاعهم عن بلادهم”. وبالفعل تمَّ تغيير اسم الشارع إلى شارع “شهداء الوطن”.[1]