د. سعد سعيد الديوه جي
من الممكن اعتبار أن دولة إيران الحالية هي وريثة الدولة الصفوية التي قامت عام 1501م على يد إسماعيل الصفوي، واتخذت المذهب الشيعي الاثني عشري مذهباً رسمياً لها، وما جاء بعدها من دولة القاجاريين والعهد الشاهنشاهي.
أما تركيا الحالية فهي ما تبقى من الإمبراطورية العثمانية في منطقة الأناضول والتي امتدت في فترة من الفترات من فينا إلى أقصى المغرب العربي؛ وجنوباً إلى اليمن، واتخذت من المذهب السني الحنفي مذهباً رسمياً لها، ذلك أن هذا المذهب يجيز الخلافة لغير العربي بالإضافة لإنتشاره بين أوساط السنة بشكل كبير.
مع نشوء الدولة الصفوية، كان العثمانيون قد ركزوا أقدامهم في شرق أوربا خصوصاً بعد فتح القسطنطينية عام 1453م على يد محمد الفاتح وأخذوا يفكرون بالتوسع جنوباً وشرقاً، وهذا ما حدث في زمن السلطان سليم الأول الذي ألغى الخلافة العباسية الشكلية في القاهرة عام 1517م بعد انتصاره على المماليك في معركة مرج دابق قرب حلب عام 1516م، وأعلن نفسه سلطاناً وخليفة على المسلمين كافة.
قبلها حاول الصفويون التوسع غرباً على حساب العثمانيين، فأصطدم الطرفان في موقعة عظيمة عام 1514م شمال غرب إيران، تسمى جالديران وانهزم الجيش الصفوي وجرح إسماعيل الصفوي ثم هرب من المعركة ودخل العثمانيون العاصمة تبريز ووطدوا أقدامهم في كردستان وشرق الأناضول وأمنوا حدودهم مع الإيرانيين الذين لم يحاولوا بعدها التحرش بالعثمانيين في هذه المناطق.
بعد ذلك بقي ما يسمى بالعراق العربي الحالي مسرحاً لحروب دامية بين الطرفين استمر طوال فترة الدولة الصفوية والى حين زوالها بدايات القرن الثامن عشر الميلادي.
هذا الصراع الإقليمي الخافت حيناً والظاهر حيناً آخر، تبدو ملامحه ظاهرة في هذه الفترة العصيبة من تاريخ المنطقة المضطرب.
فأحمد داؤد أوغلو وزير خارجية تركيا الحالي وأحد أعمدة الحكم في حزب العدالة والتنمية لم يتردد مطلقاً بالتصريح بأننا العثمانيون الجدد، ويتكلم صراحة في كتابه العمق الإستراتيجي عن المجال الحيوي لتركيا الجديدة، بينما إيران وإن لم تصرح بمكنونها فإن كل أفعالها تدل على تحرك إقليمي وإثبات وجود حتى ربما خارج مجال هذا الوسط الإقليمي، خصوصاً داخل المجتمع الإسلامي، وعليه فبوادر الصراع وبذوره موجودة.
وتدل الأحداث الجارية في أيامنا هذه إلى سقوط نظرية تصفير المشاكل التي نادى بها أوغلو في كتابه آنف الذكر، وأثبتت فشلها ذلك أن الواقع الجيوسياسي والجيوثقافي شيء؛ والأحلام السياسية شيء آخر، وأن التنظيرات الأكاديمية البحتة في هذه المسائل لا تشبه التجارب المختبرية في العلوم التطبيقية، أو نظريات العلوم الرياضية.
لقد برزت قوة تركيا الإقتصادية في العقد الأخير بشكل مثير حتى عدها البعض صين الشرق الأوسط، وعليه فإن المجال الحيوي لهذا الاقتصاد الطموح والذي يريد أن يتمدد جنوباً ويتصل باقتصاد الجزيرة العربية عبر سوريا والأردن يشمل كل منطقة الشرق الأوسط التي يعرفها أوغلو تعريفاً إسلامياً ثقافياً أكثر من كونه تعريفاً على أسس جغرافية بحتة!.
شعرت تركيا بقوة النفوذ الإيراني في سوريا، ووجدت الفرصة سانحة لإزاحته بعد أن شعرت بمدى التعاطف الذي حصل أثناء الثورات العربية مع شخصية أردوغان وبعد أزمة أسطول الحرية مع إسرائيل، فدخلت من هذا الباب تجاه مؤازرة الثوار في سوريا وبسيناريو متحفظ مع المصالح الإستراتيجية للدول الغربية، فقد اكتسبت مواقف تركيا الجديدة من إسرائيل تعاطفاً وعمقاً لدى العرب والمسلمين لم يكن أن يتصوره أحد قبل وصول العدالة والتنمية للحكم.
إن الصِدّام التركي – الإيراني يخفي خلفه صراعاً إستراتيجياً غربياً مع روسيا والصين، ومع ذلك فيبدو الحلم التركي بالتوسع جنوباً أمراً لا مفر منه للساسة الأتراك يتوافق مع المصالح الغربية عموماً وفرنسا خصوصاً والتي تؤيد إرجاع نفوذها في مستعمراتها القديمة ولكن بسيناريو آخر.
وضمن هذا السياق يقول أوغلو لا بد لتركيا من اكتساب عمق آسيوي ضمن استراتيجية أور – آسيوية دقيقة حيث العمق الآسيوي يعتبر خياراً استرتيجياً حتمياً ولن تحقق تركيا هذا العمق الآسيوي إلا بالقدرة على التأثير في سياسات المنطقة، وتشمل هذه المسائل المسألة الكردية والمسألة العراقية، وكان هذا الكلام قبل أحداث سوريا ولو قدر لأوغلو إعادة كتابة آرائه مرة أخرى لوضع المسألة السورية على رأس الأولويات بعد أن لاقت السياسة التركية تشجيعاً خليجياً غير خافٍ على أحد يعمل على إزالة النظام السوري من الخارطة السياسية لأسباب سنوضحها لاحقاً.
لقد توقع أوغلو تطور العلاقات السورية التركية في أواسط العقد الماضي وعمل على ذلك ولكن حسابات أوغلو الأكاديمية كانت حسابات خاطئة مرة أخرى، ومثل ما يقول المثل فإن حساب البيدر لا يطابق حسابات الحقل، لقد تبدلت الأوضاع في نهايات العقد الماضي ومع أحداث الثورات العربية رأساً على عقب وذلك بفعل تبدل السياسات الأمريكية قائدة حلف شمال الأطلسي الذي تمثل تركيا عموده الفقري.
لقد أرادت القيادة التركية الجديدة بعد إستلام العدالة والتنمية للحكم بعد عام 2002م تدجين الوضع السوري، فكتب أوغلو بأن أقصر الطرق المرورية لأقاليم القوقاز – شرق الأناضول – بلاد الرافدين تمر عبر سوريا، وأما الحدود العراقية ومناطق شمال العراق المحاطة بالجبال الشاهقة فتمثل بديلاً طارئاً.
هذا الحلم اصطدم بواقع النفوذ الإيراني القوي في سوريا والذي صار متمماً للموقف الاستراتيجي الروسي – الصيني من الثورات العربية المتسم بالمرارة الشديدة بعد انحياز الموقف الليبي الجديد بشكل شبه كامل الى الجانب الغربي وما تركته التغييرات من امور سلبية على المصالح الإقتصادية لروسيا والصين.
وعليه فالخلافات العثمانية – الإيرانية عادت لتبرز على مسرح المنطقة مرة أخرى حاملة سمات جديدة ضمن معادلة معقدة للتوازن بين أطماع إقليمية تجارية وما يتعلق بالنفط والمياه، ولتدخل الامور ضمن إطار مذهبي طائفي واضح مع بروز للمشكلة الكردية التي تفرض ظلالها بقوة على الأوضاع في البلدين داخلياً وخارجياً والتي لا يمكن إسقاطها في كل معادلات التوازن في الشرق الأوسط الجديد.
وفي منطقة مضطربة كالشرق الأوسط أياً كانت حدودها وتعريفاتها فإن الثوابت السياسية تكاد تكون معدومة حيث تبدو كمتغيرات أكثر وأهمها التأثيرات الأجنبية والدوافع القومية والطائفية وعوامل الإنفعال والأهواء والآراء الارتجالية، والتي تحاول تركيا جاهدة إخفاءها خلف مصالحها الإقتصادية وتوسيع مناطق نفوذها التجارية بدون مغامرات عسكرية، وينطبق نفس الشيء على القوة الاقليمية النامية ألا وهي إيران.
في العقود الثلاث الماضية لعبت إيران على وتر الريادة للعالم الإسلامي ونجحت إلى حد ما من خلال مناصرتها للحركات الفلسطينية ودعاويها لتحرير فلسطين، على نفس وتر الستينات من القرن الماضي الذي كانت تقوم به الأنظمة العربية ونجحت إلى حد ما، إلى أن ظهرت بوادر تأزم العلاقات الإسرائيلية التركية فتراجعت الى حد كبير، وبعد أن تأكدت تركيا بأن إسرائيل صديق لا يوثق به، أخذ الأتراك يصعدون السلم العربي والإسلامي بسرعة مذهلة، مما شكل صدمة كبيرة للمخطط الإقليمي الإيراني والذي اعتقد واضعوه بأنهم يتصرفون وفق خطط محكمة وذكاء نادر!.
في هذا الصدام المتوقع والذي كما بينا له أبعاد كثيرة، نتيجة عوامل دولية معقدة منها الموقف الغربي الظاهري المؤيد لتركيا رغم عدم قبولها بالاتحاد الأوربي، ولكن استقرار النظام فيها وبروز التيار الإسلامي المتوازن ومكانتها في حلف الناتو كما ذكرنا والتي تشكل سداً أمام الزحف الروسي نحو أوربا الشرقية، بالإضافة إلى أن الأوضاع في المنطقة بعد الإنسحاب الأمريكي الخفي والمبهم من العراق قد تكون مهيأة لحدوث مثل هذا الصِدام وذلك لتصفية الحساب من المواقف الإيرانية التي عرقلت مجمل السياسة الأمريكية في العراق.
إن الأحلام الإيرانية حقيقة واقعة لا نقاش حولها، فمنذ زمن الشاه الذي خاطب نائب الرئيس الأمريكي روكفيلر في 24 آذار عام 1976 قائلاً: أقول بصراحة بأنني أرغب أن تلعب إيران دوراً في المحيط الهندي، وليس لدي أي إعتراض على التواجد الأمريكي فيه، وانأ سأدافع عن مصالحكم فيه، لقد كانت أحلاما كبيرة، ووضع نفسه في مكانة غير مرسومة في المخيلة الأمريكية، في الوقت الذي كان يعاني شعبه من الجوع والفقر، فدفع الثمن باهضاً.
هذه العقلية استمرت إلى حد ما بدون النظر إلى عقلية السياسة الأمريكية والتي تنظر من موقع الدولة الأعظم مع كل من يتعامل معها ويضع هنري كيسنجر في كتابه هل تحتاج أمريكا إلى سياسة خارجية؟، والذي كتبه قبل أكثر من عقد من الزمان، إيران في مصافي الدول التي لها أسباب قليلة للإختلاف معها ومصالح أكثر للتوافق، ثم يقول: لا يوجد للولايات المتحدة أية مصلحة يمكن تخيلها للسيطرة على إيران كما يدعي الحكام الآن.
هذا الموقف وغيره لاحقاً عموماً لا يعمل على تهدأة الأوضاع السائدة بين الغريمين التاريخيين، وبقدر إدراك الأتراك لورقة الناتو التي بأيديهم، فإن الإيرانيين يدركون الموقف الأمريكي هذا، والذي لم يخرج عن نطاق التصريحات النارية تجاه موقع النزال الجديد ألا وهو سوريا.
وآراء كيسنجر هذه كانت قبل مغامرتي أفغانستان والعراق، فهل تغيرت مقومات السياسة الأمريكية بعد ما يقارب على عقد من الزمان تجاه إيران التي تتمتع بموقع استراتيجي فريد بين أكبر خزاني نفط وغاز طبيعيين في العالم، هما الخليج العربي وبحر قزوين؟.
سؤال يصعب الجواب عليه عليه خصوصاً بعد الاكتشافات المذهلة لخزانات الغاز الطبيعي في الجرف القاري بين جنوب تركيا وشمال فلسطين الواقع ضمن البحر المتوسط، حيث يذهب بعض المنظرين الاقتصاديين بأن ربط هذه الإمكانيات الهائلة من الغاز ضمن مشروع كبير مع الغاز القطري وعبر سلسلة من الانابيب تمر بالجزيرة العربية والأردن وسوريا ثم تركيا فأوروبا يعد الدافع الأقوى والمساعد لأحداث الثورة السورية، لتقف كل من تركيا وإيران على طرفي نقيض منها، وكلاً منهما تقف خلفه قوى عظمى لها مصالح متشابكة في هذه المنطقة.
لقد تغيرت السياسة التركية ولم تتصلب حول نظريات فاشلة أطلقها السيد أوغلو، ولكن السياسة الإيرانية لم تتغير كثيراً، حيث وجدت نفسها محصورة بين إيديولوجية ثورية وأحلام إمبراطورية تقليدية ولت إلى غير رجعة، حيث سبقتها في هذا الفشل إمبراطورية الزمن الأخير أمريكا، في مغامراتها التي ذكرناها آنفاً منطلقة من ثقل الغطرسة والغرور، فبرزت قوى الصين والهند وأثبتت روسيا بأنها لا زالت تبحث عن مكان تحت الشمس فقدته بانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991م.
من خلال هذه المعطيات المعقدة، والتي تلعب فيها فرنسا دوراً لا يستهان به في محاولة إرجاع نفوذها المفقود في بلاد الشام، تبدو ملامح المعركة القادمة حتمية ولكن ليس بالسيف والرمح، حيث أن قسماً منها يدور في دهاليز مجلس الأمن وما يتخذه من قرارات؛ وجزء آخر في المساومات الخفية بين أطراف اللعبة الكبار وما تمليه مصالحهم، حيث تبدو الكفة مائلة للجانب التركي أكثر منه للجانب الإيراني، فهل سنشهد جالديران آخرى في منطقة الشام؟.[1]