عُقد في منتصف شهر أيلول الفائت المؤتمر الوطني الكردي في إقليم كردستان العراق، بمشاركة مندوبين عن الأقاليم الكردية الأربعة في العراق وسورية وتركيا وإيران، والتي يطلق عليها الأكراد اسم كردستان الكبرى. ورأت الباحثة الإسرائيلية المتخصصة في تاريخ الأكراد، البروفسور عوفرا بينجو، في مقال نشرته مؤخرا في دورية يصدرها مركز موشيه دايان لدراسات الشرق الأوسط وإفريقيا في جامعة تل أبيب، أن هذا المؤتمر هو مؤتمر مؤسس، هدفه وضع خارطة طريق للأكراد في الشرق الأوسط المتغير. ومجرد انعقاد مؤتمر كهذا هو ثورة لم يكن بالإمكان توقعها.
وأضافت بينجو أن انعقاد المؤتمر يشير إلى تعزز القومية الكردية التي تتخطى الحدود، وإلى وجود نظام فرعي كردي يغذي هذه القومية. وبدأ هذا النظام الفرعي، في بداية القرن الحالي، بوضع تحديات كبيرة أمام الدول القومية الأربع التي تتقاسم كردستان الكبرى. وأشارت الباحثة إلى أن دولة كردية مستقلة آخذة بالتبلور في العراق، ويتبلور حكم ذاتي كردي في سورية، وتتطور ما يسمى ب الدولة الموازية للأكراد في تركيا، وتتعالى في إيران مطالب بإقامة فدرالية كردية.
ويبلغ عدد الأكراد أكثر من ثلاثين مليون نسمة، وهناك تقديرات بأن عددهم يصل إلى حوالي الأربعين مليون نسمة. ووفقا لبينجو فإن الأكراد هم مثال بارز لشعب بدون دولة. وهم أكبر أقلية قومية في الشرق الأوسط، وربما في العالم، والتي ليس لديها دولة. ورغم أنه لم تكن هناك دولة كردية في التاريخ، لكن كانت هناك إمارات كردية تمتعت بحكم ذاتي وتحت رعاية الإمبراطورية العثمانية، منذ القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر.
وكتبت بينجو أنه بنظر الأكراد، كان القرن ال 20 الأصعب في تاريخهم، لأنه تم تقسيمهم بين أربع دول، سعت كل واحدة بطريقتها إلى محو الهوية واللغة الكردية وعيشهم في حكم ذاتي منفصل. لكن الباحثة أشارت إلى أنه على الرغم ذلك، فإنه طوال الفترة الماضية كانت هناك تيارات مؤثرة تجري تحت سطح الأرض بين أجزاء كردستان المختلفة ولم يكن بالإمكان دائما تشخيصها على وجه الأرض.
وأضافت الباحثة أن التغيير في مكانة الأكراد طرأ في بداية القرن الواحد والعشرين، لعدة أسباب هي: انتهاء الحرب الباردة واستقلال الدول التي كانت تشكل الاتحاد السوفياتي؛ حروب الخليج الثلاث وضعف الدول القومية في أعقاب ذلك؛ تغير مفهوم الدولة القومية وصعود أفكار التعددية الثقافية والتعددية الإثنية؛ والأهم من كل ذلك، هي التغيرات الجيو- سياسية التي حدثت في المنطقة في أعقاب الربيع العربي والانسحاب الأميركي من العراق. وعموما فإن القرن الواحد والعشرين يؤشر إلى تعزز مكانة الشعوب بلا دولة، والتي تسعى إلى إقامة دولة ذات سيادة خاصة بها. والمثالان الأبرز على ذلك هما جنوب السودان وأزواد، في شمال مالي، اللذان أعلنا عن استقلالهما مؤخرا.
نحو وحدة كردية
وقد تزايد المجهود الكردي لتعزيز حركة كردية شاملة بحلول القرن الواحد والعشرين. ووفقا لبينجو فإن المراكز الكردية الأربعة تعمل كنظام تندمج فيه الأدوات رغم الفروق بالأهداف ووسائل البلورة الإثنية - القومية لكل واحد من هذه المراكز، والتي تشكل انعكاسا سياسيا للدولة التي نما فيها. ويتعامل الخطاب الكردي الجديد مع كردستان كمجمع واحد ومن هنا جاءت التسميات: شمال كردستان، باكور، في تركيا؛ جنوب كردستان، باشور، في العراق؛ غرب كردستان، رجوة، في سورية؛ شرق كردستان، رجهلات، في إيران.
وفي المجال السياسي، يوجد اليوم مركز سياسي كردي صرف في كردستان العراق. وأشارت بينجو إلى أنه على الرغم من أن جهات معينة بين الأكراد تنظر بعدم رضا إلى هذه المركز السياسي، وبين هذه الجهات حزب العمال الكردستاني بزعامة عبد الله أوجلان، إلا أن كردستان العراق هو المكان الذي يتم الحجيج إليه من أجل إجراء مشاورات وعقد مؤتمرات واتخاذ قرارات تتعلق بالأقاليم الكردية الأخرى. ويصل الكثير من الأكراد من الشتات إلى هذا الإقليم من أجل الاستفادة من خبراته. كما أن رئيس هذا الإقليم، مسعود برزاني، يحاول التوسط ووضع توازنات ناعمة بين الإقليم الذي يرأسه وبين الأقاليم الأخرى. وأعلن مؤخرا، على سبيل المثال، عن نيته رصد 20% من ميزانية كردستان العراق للأكراد في سورية، الذين يخوضون صراعا إثنيا ضد مجموعات المعارضة الإسلاميين.
وفي المستوى العسكري، فإن الميليشيا الكردية في العراق، البيشمركة، تحولت إلى جيش حقيقي يصل تعداد مقاتليه إلى حوالي 200 ألف وهو مسلح بأسلحة ثقيلة. كذلك فإنه توجد لدى الأكراد في خارج العراق قواعد عسكرية في أقاليمهم.
وحصلت تطورات هامة فيما يتعلق ببلورة الهوية الكردية. وتحولت اللغة الكردية، التي كان استخدامها محظورا في جميع الأقاليم، إلى لغة حية ومتداولة في جميع الأقاليم الكردية في الدول الأربع، بفضل الثورة الإعلامية الجديدة، مثل قنوات التلفزيون والشبكات الاجتماعية في الانترنت، وذلك رغم وجود ثلاث لهجات كردية مختلفة. وتحولت اللغة الكردية في كردستان العراق إلى اللغة الرسمية. وشددت بينجو على أن الرمزين القوميين الأكثر أهمية بالنسبة لجميع الأكراد هما اللغة الكردية ومنطقة كردستان التاريخية.
وفي المستوى التنظيمي، فإنه يوجد اليوم تنظيم كردي شامل ومقره في بروكسل ويحمل اسم المؤتمر الوطني الكردي. وهدف هذه الهيئة هو أن تشكل لوبي لدى الدول الأوروبية والأمم المتحدة من أجل إثارة الوعي الدولي تجاه القضية الكردية. وبين الأمور التي أنجزها المؤتمر تبني برلمانات، مثل البرلمانين السويدي والنرويجي، قرارا ينص على أن استخدام نظام صدام حسين للسلاح الكيميائي ضد أكراد العراق هو إبادة شعب.
ربيع كردي
كتبت بينجو أنه مثلما يوجد ربيع عربي فإنه يوجد ربيع كردي أيضا. ولأول مرة في تاريخهم، طرح الأكراد أنفسهم في الخارطة السياسية في سورية، بفضل الهزة التي تعرضت لها الدولة منذ بداية العام 2011. وأكدت الباحثة أن الصحوة الكردية في سورية أعطت دفعة لنشاط الأكراد في تركيا، سواء على المستوى العسكري أو على مستوى المقاومة المدنية. كذلك فإن الصحوة في سورية شكلت دافعا لمنظمات المعارضة الكردية الإيرانية لمحاولة لأم الشروخ فيما بينها وطرح مطلب الفدرالية [من خلال إقامة حكم ذاتي كردي وارتباطه بعلاقة فدرالية بالدولة الإيرانية].
ورأت بينجو أنه بالإمكان القول اليوم إن الأكراد ينزعون الشرعية عن الدول القومية في جميع أقاليم كردستان كرد على نزع الشرعية المتواصل ضد الأكراد من جانب هذه الدول.
وأكدت الباحثة أن الربيع الكردي يضع تحديا ليس فقط أمام الأنظمة وإنما أيضا أمام السلامة الإقليمية للدول الأربع وهويتها القومية. ولفتت إلى أن الربيع الكردي لم يتأثر أبدا من تصاعد قوة الإسلام السياسي في المنطقة، والأكراد يتمسكون بفصل الدين عن السياسة. وأضافت أنه فيما تتعاظم الانقسامات الاجتماعية في المجتمعات العربية، فإنه تجري عملية معاكسة لدى الأكراد وتتمثل بمحاولات لأم الشروخ وزيادة التعاون داخل المجتمعات الكردية.
وأشارت بينجو إلى أنه على غرار الصحوة العربية، فإنه كان في الحالة الكردية أيضا دور لوسائل الإعلام الحديثة. وتمكن الأكراد بفضلها من اختراق كافة الحدود والقيود ودفع قومية كردية تجاوزت الحدود بشكل ملموس.
وأضافت أن الدور التي تلعبه المرأة الكردية أهم مما هي عليه الحال في المجتمعات العربية أو حتى قياسا بالمجتمع التركي. وتلعب النساء الكرديات دورا كاملا في التنظيمات العسكرية والسياسية.
خارطة جيو- سياسية جديدة
رأت بينجو أن الأكراد يضعون في الواقع الراهن عدة تحديات أمام الدول التي يعيشون فيها. التحدي الأول يتعلق بتكتل الدولة، وليس في العراق وسورية فقط، وإنما في تركيا وإيران أيضا اللتين يعتبر التكتل فيهما أقوى بكثير من الدولتين الأخريين. وأضافت أنه رغم حقيقة أن التهديد مختلف في كل دولة، فإن التأثير المتبادل في النظام الفرعي الكردي، مثل إحياء اللغة وتشكيل المؤتمر الكردي وما إلى ذلك، يشكل مصدرا هاما لتصاعد قوة الأكراد والتحدي الذي يشكلونه أمام الدول الأربع. وأشارت الباحثة إلى التهديد الأكبر الذي يشكله إقليم كردستان العراق على سلامة أراضي الدولة، وإلى أنهم يتجهون نحو استقلال زاحف. وأضافت أن جميع المعايير التي تنص عليها معاهدة مونتيفيديو كشرط لقيام دولة مستقلة، متوفرة بقدر كبير في إقليم كردستان العراق.
لكن على الرغم من ذلك، فإن بينجو أشارت إلى وجود نقاط ضعف في النظام الكردي وبينها عدم وجود هدف محدد واحد يوحد جميع الأجزاء. والمنافسة والخصومات بين الأجزاء [الأقاليم الكردية] والمنظمات المختلفة، وكذلك غياب الدعم الدولي، وخاصة من الولايات المتحدة، لقيام دولة كردية مستقلة.
رغم ذلك، فإن التغيرات الدرامية في النظام الفرعي الكردي والتغيرات التي تشهدها المنطقة أدت، وفقا لبينجو، إلى نشوء خارطة جيو- سياسية جديدة ضعفت فيها الدولة القومية وتعززت قوة لاعبين فرعيين في الدولة. ففي العراق يوجد كيان كردي يسير نحو استقلال زاحف. وتوجد في تركيا محاولات لإقامة ما يسمى بالدولة الموازية تحت غطاء ’حكم ذاتي ديمقراطي’. وانتقل الأكراد في سورية، خلال شهور، من أقلية تم إسكاتها إلى جهة تحقق حكم ذاتي خلال القتال. وتطالب جهات معارضة كردية في إيران بإقامة مبنى فدرالي على غرار ذلك القائم في العراق.
وثمة أمر لا يقل أهمية وهو التغير الحاصل في العلاقة بين النظام الفرعي الكردي والدول الأم. وكتبت بينجو في هذا السياق أنه فيما كانت الدول الأربع متحالفة فيما بينها ضد الأكراد، فإنها لم تعد تنجح بذلك الآن. وتقيم تركيا اليوم حلفا غير مكتوب مع أربيل ضد بغداد، وحتى أنها تحاول ’معانقة’ الأكراد السوريين بعد فشل محاولاتها لتفعيل جهات في المعارضة السورية ضدهم... واليوم أصبح بالإمكان التحدث عن تصاعد قوة الأكراد قياسا بالعرب... وتحوّل الأكراد إلى لاعب نشط وديناميكي من شأنه أن يغير الخارطة الجيو- سياسية في الشرق الأوسط في القرن الواحد والعشرين.[1]