الديانات التوحيدية (السماوية) في كردستان
عبدالله شكاكي
3- الخوارج :
هم الذين رفضوا نتيجة حكم الحكمين أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص في الصراع الدموي الذي جرى بين علي ومعاوية بن أبي سفيان في معركة صفين، ويرون أن الخلافة حق لكل مسلم تتوفر لديه الكفاءة بأمور الدين الإسلامي، حتى وإن لم يكن من العرب، إضافة إلى اتصافه بالعدل والحرية، ويرون ضرورة عزل الخليفة عندما يفقد ثقة الأغلبية. ويدعوهم البعض «الجمهوريين» في حين سماهم فان فلوتن في كتابه ب»الديمقراطيين»، ولذلك كان معظم أتباعهم من المسلمين غير العرب من الكرد والفرس والأمم الأخرى، لأن الكرد بطبيعتهم يعشقون الحرية ويرفضون العبودية والتبعية ولجغرافيتهم تأثير قوي على نفسيتهم.
في الوقت الذي جاهدت فيه معظم الأمم الإسلامية من أجل امتلاك السلطة وكيّفت إسلامها في سبيل ذلك ومن أجله انضم الفرس إلى الشيعة وقدّسوا الحسين أكثر من غيره، لأنه من سلالة محمد وزوجته شهربان ابنة يزدگرد الثالث آخر ملوك بني ساسان، ولذلك دعيت شيعة إيران بأنها الطريق الفارسي إلى الإسلام حيث يرون بأن امتلاكهم للسلطة الدينية يكون بامتلاك الحسين لها والسلطة الزمنية في شخص شهربان زوجته.
بينما اختار الأتراك الذين دخلوا الإسلام مؤخراً الخط الأموي مذهب أهل السنة والجماعة، وفي الفروع اتبعوا اجتهادات أبو حنيفة النعمان الذي يجيز أن يكون الخليفة مسلماً غير عربي، وعليه أصبح الإسلام السني الحنفي الطريق التركي إلى الإسلام. أما الطريق العربي إلى الإسلام الذي يخدم مصالحهم الطبقية والقوموية فقد لمحوها في اتّباع خط أبي بكر وعمر وعثمان (أهل السنة والجماعة) خصوصاً بعد أن ابتكر عمر مصطلح الموالي ، وأيضاً ابتكار أحاديث نبوية لم تثبت صحتها «حبّوا العرب لثلاث : لأني عربي والقرآن عربي ولسان أهل الجنة عربي».
ما ذكر أعلاه يُوضح الفِرَق الإسلامية الثلاث الرئيسة التي انتشرت في أرجاء بلاد المسلمين وقد تفرق كل مذهب بدوره إلى مذاهب وطرق شتى تعد بالعشرات ويصعب عدّها، منهم من جاهد من أجل الخلاص وبلوغ الكرامة والحرية، وآخرون سعوا لامتلاك السلطة والمال وإشباع غرائزهم وشهواتهم.
العلوية (قزل باش) :
فرقة دينية إسلامية معتنقوها من الكرد، يعلنون صراحة أنهم «علويون»، لكنها تتضمن أيضاً بعض أفكار الخوارج حول مفهوم الحرية، ويشتهرون في كردستان وتركيا باسم «قزلباش» بمعنى الرأس الأحمر، وقد جاءت التسمية من العمامات الحمراء التي يلفونها على رؤوسهم والمكونة من اثنتي عشرة لفة تيمناً بالأئمة الاثني العشر، تعدادهم يفوق خمسة ملايين نسمة، ينتشرون في الولايات الجبلية من شمال كردستان مثل : ديرسم، بينگول، العزيز، ملاتيا، سيواس، مراش، وفي ولاية قيصري في غرب الأناضول بسبب التهجير القسري. انتشر صيتهم بعد معركة چالديران 1514 م لأنهم ساندوا الدولة الصفوية الإيرانية، ولذلك تعرضوا للمجازر والتهجير من قبل الدولة العثمانية، واستمر الظلم والاضطهاد وكافة صنوف العذاب بحقهم إثر قيامهم بانتفاضة شعبية عارمة في عامي 1938-1937 م بقيادة سيد رضا، وقد دُمرت مدنهم وقراهم وهُجّر سكانها وسُلبت أموالهم، ودُمرت مدينة ديرسم وتحولت إلى أنقاض بقيت معالمها حتى اليوم، وبُنيت بجانبها مدينة جديدة دعيت «تونجلي» التي تعني اليد الحديدية لسكنى عساكر الدولة التركية فيها في عهد رئيسهم السيئ الذكر عصمت إينونو ، لتذكير الكرد بما ينتظرهم إن تمردوا ثانية.
تعود بداية نشأة العلوية (القزلباش) إلى مؤسسها صفي الدين بن اسحق الأوردبيلي المتوفى سنة 730 ﮪ، وهو الجد السادس للشاه اسماعيل الصفوي الذي كان من المشاهير في المعرفة والزهد والتصوف والسلوك الحميد، وبعيداً عن البدع والمغالاة ، ولذلك دعي قطب الأقطاب وهي أعلى مرتبة دينية، ودعيت فرقتهم بداية «الصوفية»، وقد تتلمذ صفي الدين على يد الشيخ زاهد گيلاني، وعندما وافته المنية أصبح خليفته في الهداية والإرشاد، وتوفي صفي الدين في أوردبيل وفيها ضريحه ، وعندما ألبسهم الشاه اسماعيل الطرابيش الحمراء ذات الاثنتي عشرة ذؤابة تحول اسم الطريقة من «الصوفية» إلى «قيزيل باش» ، ومن ثم اتخذ الشاه اسماعيل الصفوي الطربوش الأحمر شعاراً لجنده، وظهرت ملامح هذا التحول الديني مع نهاية العصر الأموي على خلفية استهداف أهل البيت.
حاول أنصار البكتاشية توسيع نشاطهم بين العلويين الكرد بتوجيه من الدولة التركية في كافة مراحله بغية تغيير مذهبهم الموالي للدولة الصفوية الإيرانية، لكنهم لم يفلحوا في ذلك.
إن من يتتبع طقوس وأفكار العلوية الكردية (قزلباش) يلاحظ تقاطعها بوضوح تام مع الديانتين الزرادشتية والإيزيدية، حيث تخلو طقوسهم ونمط عيشهم من الفروض والأوامر الإسلامية الدينية والدنيوية كالصلاة والصيام والحج، وفيها عشق وتوق كبير إلى الانعتاق والحرية والعيش في كنف الطبيعة ونبذ السلطة ونظام الدولة وذلك أمل معظم الشعب الكردي، ولهذا رفضوا الانضمام إلى الحروب السنية – الشيعية ولم يقبلوا بكلا المذهبين، لأنهما يلهثان نحو السلطة التي تعبر عن مصالح الطبقة السائدة، واتخذوا طريقاً ثالثاً يرتكز أساسه على الجوهر الإنساني في الديانة الإسلامية وبما
يخدم الإنسان الذي كرمه الله، وقد دعاهم أفراد السنة والشيعة معاً «الخوارج»، في حين يصرح العلويون بموالاتهم لأهل البيت بدءاً من علي بن أبي طالب، لكن طقوسهم تثبت عكس ذلك، ويبدو أن ولاءهم شكلي فقط من خلال تقاطعهم مع الزرادشتية والمزدكية (في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد) والمانوية (في القرن الثالث الميلادي) حيث يذكر في أدعيتهم «هرمس» و «هوما» ، وتقترب طقوسهم من الطائفة النصيرية في سوريا الذين يسكنون في جبال العلويين المطلة على ساحل البحر المتوسط مع تشابه بيئتيهما.
في حين تخلو الطقوس العلوية القزلباشية من الصوم والصلاة حسب طريقة أهل السنة إلا أنهم يؤدون صلوات خاصة في «الجم Cem» أو بيت الجمع المعادل لمصطلح «الجامع»، حيث يجتمع الرجال والنساء معاً ويؤدون صلواتهم على شكل دعاء وابتهالات وحركات راقصة تدعى «سما» بإشراف «پير Pîr» أو «دَدَهDede « ولا يوجد فيها سجود، ويقول بعضهم أنه يجوز عند غياب الپير أو الدَدَه أن تنوب عنه زوجته «آنا Ana».
لا يصوم العلويون في شهر رمضان وإنما لديهم صوم بداية شهر محرم اثنا عشر يوماً حزناً على مقتل الحسين، ولذكراه لا يشربون الماء ولا يذبحون القرابين ولا يحلق الرجال شعورهم، كما يصومون ثلاثة أيام في شهر شباط ويدعى صيام الخضر (النبي شعيب)، ويقدمون الأضاحي في مقام «بابا دوزغون» وبمواجهة نهر مونذور الذي يرونه مقدساً، ويسجدون أمام المراقد والمقامات وصور علي بن أبي طالب والخضر مناجين وداعين بالخير والصحة، وعندما لا يستجاب دعاؤهم يلومون أصحاب المقامات والمراقد، أي أن علاقة العلوي القزلباشي بالله وكذلك طقوسه وصلواته تخلو من العبودية للخالق وممثليه، إنها علاقة صداقة، ويعلنها صراحة : «لا أؤمن بالله خائفاً بل عاشقاً» .
كما يقام في «الجم» إضافة إلى الطقوس الدينية اجتماعات حقوقية يتم فيها مناقشة الشكاوي والمظالم المرتكبة، وتصدر الأحكام الشرعية باسم «ديوان الحق» تحت إشراف الپير أو الدَدَه وبحضور جمع من الناس للإشهاد وتنفيذ الأحكام .
ويؤدي العلويون القزلباش قَسَم اليمين عند اللزوم حسب النص التالي كما ورد في كتاب «تاريخ كردستان- ديرسم» لمؤلفه الطبيب الثائر المرحوم محمد نوري ديرسمي :
«باسم الله الواحد الأحد، وشفاعة الرسول المصطفى محمد، وولاية الخضر علي ذو الفقار، وهداية فاطمة الزهراء، وبعناية ولطف وفضل الأئمة الاثني عشر، وبرواية هرمز وحقائقه، أقسم على ألا أكذب، ولا أزني، وأرى أصدقاء آل البيت أصدقائي، وأعداءهم أعدائي، وأن أكون مساعداً ومتعاوناً وصالحاً للبشر والجيران والأهل والأصدقاء، وأن أرعى الحق والحقوق كاملة، وأن أرى حقوقهم حقوقي، وألا أخرج عن وعظ ونصائح الپير والمرشد الذي اخترته، وأن تكون علاقتي بمصاحبي الذي اخترته كعلاقة النبي محمد بعلي، وأن تكون محبتي وارتباطي المادي والمعنوي مع أصدقائي وأهلي وجيراني كالعلاقة بين محمد وعلي، وأن أعتبرهم أشقائي وشقيقاتي، وأن أكون بعيداً عن الحقد والبغض والسخرية، وأقسم على الالتزام بهذه الحقيقة ما دمت سائراً على نهج ودرب النبي وآل بيته».
ولدى القزلباش مجموعة من الأعياد والمناسبات مثل:
1- عيد النوروز: يعتبر بداية الربيع وميلاد الإمام علي بن أبي طالب، وليلة 21آذار تدعى «نوروز السلطان» .
2- عيد عاشوراء: يأتي بعد 12 يوماً من الصيام في شهر محرم، ويتم إعداد طبخة عاشوراء المؤلفة من: الماء، الملح، القمح، الحمص، الزبيب، التمر، المشمش المجفف والمكسرات بحيث تكتمل 12 مادة، وتوزع على الأهل والجيران، ثم ينعقد مجلس الجم وتتلى الآيات والأدعية والأناشيد والمدائح المصاحبة للموسيقى ورقصة «سما».
3- لقمة موسى الرحال: وهي جمع الطعام والقرابين وطبخها وتوزيعها على الجميع، ويعتقدون أن ذلك يدر البركة على المحصول.
4- بوكا باراني Bûka Baranî (عروس المطر): حيث يزينون فتاة ويجوبون بها جميع البيوت لجمع السمن والبرغل أو الرز ويطبخونها خارج القرية ومن ثم يوزعونها على جميع السكان، ثم تقام الدبكات على أنغام الموسيقى والغناء الشعبي احتفاء بقدوم الربيع، وهذا العيد آت من الزرادشتية.
كما أنهم يحتفلون بعيد خضر الياس وعيد الأضحى كما يحتفل بقية المسلمين بتقديم الأضاحي وزيارة القبور والأضرحة وننوه بأن عيد الأضحى عيد مقدس تحتفل به كافة الطوائف الدينية الكردية.
ومن عاداتهم أنهم لا يتزوجون من أقربائهم حيث يعتبرون أولاد العم والعمات والخال والخالات أخوة لهم وهم في ذلك يشبهون المسيحيين، وأن كل فتى يختار من بين أسر معارفه أو جيرانه فتاة يتخذها أختاً له مدى الحياة، وكذلك تفعل الفتاة حيث تتخذ أخاً لها مدى الحياة، ويجرون ختان الأولاد في ذكرى ميلاد الإمام علي، ويقيمون احتفالات الزواج في ذكرى ميلاد الحسين، كما أنهم يكثرون شرب الخمر، وننوه إلى أن المرأة مكرمة ومبجلة في المجتمع العلوي، حيث تقام كافة الاحتفالات والأحزان والطقوس الدينية بشكل مختلط ولا يوجد فصل بين الجنسين، كما لا يشاهد أي أثر للنقاب أو الحجاب حيث الفتاة العلوية حاسرة الرأس بينما المتزوجات منهن يضعن على رؤوسهن منديلاً يغطي نصف الرأس دلالة على أنها متزوجة.
أﮪل الحق:
فرقة دينية إسلامية من غلاة شيعة علي، يؤلهون الخليفة الرابع علي بن أبي طالب ويؤمنون بالتناسخ والحلول، ويقولون بأن روح الله تجسدت في سبعة أجسام أحدها علي، ويرافق الإله المتجسد أربعة ملائكة، ومن هذه الملائكة التي يؤمنون بها (باڨي گوره Bavê Gewre) و (بابا طاهر) الهمداني الشاعر المعروف، و (باڨي ياديگار Bavê Yadîgar) الذي يقال إن روح الحسين بن علي تجسدت فيه.
ومن طقوسهم توزيع الخبز واللحم المسلوق في المجالس الدينية، ويعتقدون أن الروس سيحاربون العثمانيين بالسيف الذي أهداهم إياه علي بن أبي طالب، ويوجد بين أفراد هذه الفرقة «التآخي» بين رجل ورجل أو امرأة وامرأة أو رجل وامرأة، وينتشرون بين فروع من عشائر الكلهور وهم السنجاويون في شرق كردستان، وفي جنوب كردستان تدعى هذه الفرقة ب «الكاكائية» نسبة إلى مرشد قديم لقب بهذا الاسم ويتواجدون في أطراف كركوك قضاء توزخورماتو وخانقين وكفري، وفي منطقة شيخان ظهر سلطان اسحاق وكذلك يتواجدون في شهرزور وگرميان وهورامان .
ونشير إلى أن بعض آثارهم مدونة باللغة الكردية (اللهجة الگورانية) وتدعى إحداها ( سَر أنجام Ser Encam) وتعني المصير، ويقولون عن جزاء الخطيئة أن المرء يُبعث من جديد في ظروف سيئة ليحاسب على أخطائه، أما الصالحون في مرتبة «پير» فتصعد روحهم إلى ملكوت السماء، ومن طقوسهم عقد حلقات الذكر السري لاسم الله يترافق ذلك مع العزف على آلات موسيقية، ولهم أعياد مثل الاحتفال بالنوروز، و (برخ بران) أي ذبح الخراف بعد الصوم .
الإيزيدية:
ديانة شرقية قديمة انحدرت من معتقدات شعوب الشرق الأدنى وخاصة المعتقدات الآرية، وانتشرت بين الشعب الكردي في زمن غير معلوم قد يصل إلى بداية العصور التاريخية استناداً إلى أساطيرها وطقوسها، وهي ديانة بعيدة عن الوثنية لكنها تقدس عناصر الطبيعة خصوصاً الشمس، وبهذا تقترب من الميثرائية والزرادشتية حيث يتوجه الإيزيديون في صلواتهم نحو الشمس، ويؤمنون بوحدانية الله خالق الكون ومن بعده بالملائكة السبع وعلى رأسهم طاووس مَلَك، ويؤمن معتنقوها الكرد بأن طاووس ملك يعود بجذوره إلى الإله السومري دوموزي الابن البكر لله، وهذا يؤكد أن الإيزيدية تستند على الشرائع والطقوس المتراكمة من ديانات ميزوبوتاميا القديمة، كما يؤكد الباحث الأثري الإيزيدي لافاري نابو «إن تاريخ الإيزيدية يرجع إلى الألف الثالث قبل الميلاد» وهذا يشير إلى أنها من أقدم الديانات الكردية، وقد وصلت تعاليمها باللغة الكردية إلى الأجيال اللاحقة بالتواتر شفاهة أو ما يسمى «علم الصدر».
وردت تسمية الإيزيدية من (إيزي ، أزداهي ، يزدان) بمعنى «الله- الخالق) ، حيث يؤكد القول الديني المقدس التالي إيمانهم بوحدانية الله:
Sultan îzî bi xwe padişaye
Hezar û yek nav li xwe danaye
Navê herî mezin xwedaye
السلطان إيزي هو نفسه الملك «الله»
له ألف اسم واسم
وكنيته الكبرى هي «الله».
يُعتقد أن الإيزيدية مرت بمرحلة عبادة عناصر الطبيعة وتعدد الآلهة ومن ثم شكلت «مجمع الآلهة»، وبمرور الزمن وانتشار الديانات التوحيدية العالمية تسربت أفكار وطقوس التوحيد إليها، وتقبلها معتنقوها حيث أصبح كبير الآلهة هو «الله» وأعضاء المجمع الآخرون ملائكة ورسلاً أو أولياء صالحين، وعلى رأسهم «شيخادي» وهو بمثابة رسول يأتي من حيث الترتيب بعد طاووس ملك، وبهذا الشكل يتكون ثالوث لاهوتي مقدس مؤلف من (الله – طاووس ملك – شيخادي) على غرار المسيحية والديانات القديمة في بداية مرحلة إزاحة الآلهة الأم ليشاركها في مجمع الآلهة الزوج والابن.
تعرضت الإيزيدية للظلم والاضطهاد وطُبّقت بحق معتنقيها أعمال بربرية ومجازر وحشية واعتبروا كفرة وعبدة الشيطان بسبب رفضهم للدين الإسلامي خصوصاً في عهد عمر بن الخطاب والمرحلة الأموية اللاحقة واستكملت فصولها في المرحلة العثمانية، وأصبح وضعهم أشبه بحال اليهود في المرحلة الرومانية ومحاكم التفتيش والنازية، وقد كانت أعنفها حملة الحجاج بن يوسف الثقفي على منطقة هكاري حيث قتل حوالي مائة ألف إيزيدي، وحملة السلطان سليمان القانوني عام 1535 م التي تمت بناء على فتوى أبو السعود العمادي الذي أباح قتل الإيزيديين وسلب أموالهم، مما أجبر البعض على إعلان إسلامهم والتأقلم مع الدين الجديد، وآخرون قبلوا بعض التعاليم الإسلامية وطقوسها شكلاً، ولذلك وصفهم بعض الكتّاب على أنهم طائفة إسلامية منحرفة عن الدين الحق.
في بداية القرن الثاني عشر الميلادي ظهرت حركة إحياء وتجديد للإيزيدية على يد الشيخ آدي الهكاري (أو الشيخ عدي بن مسافر ) الفقيه والشاعر المتصوف الذي يُعتقد أنه ولد بين أعوام 1073)- 1078) وتوفي بعد بلوغه التسعين من عمره، وكان قد أمضى شطراً من حياته مع المتصوف الإسلامي الشيخ عبد القادر الكيلاني، ولم يكن في رؤيته انحراف عن الإسلام حسب ما يشير إليه روجيه ليسكو في كتابه (التحقيق عن الإيزيدية في سوريا وجبل سنجار), وورد في كتاب (سيدي أحمد الرفاعي) أنه في السنة التي زار فيها (الرفاعي) مكة للحج كان من جملة الحجاج الشيخ عدي بن مسافر»
وبعد استقرار الشيخ عدي (آدي) في هكاري انتهز فرصة ضعف وارتخاء الدولة العباسية ليقوم بإصلاحاته، ودعا إلى التقشف والتمسك بالمعاني الروحية والخضوع لله، ووضع منظومة فكرية وطقسية للمعتقد الإيزيدي استناداً إلى المعتقدات والأدبيات الشفهية القديمة الباقية في صدور المؤمنين الكرد، وقام بترميم مزارات لالش في جبل سنجار التي ربما كانت من قبل معبداً وثنياً أو ديراً مسيحياً، وجعلها مكاناً مقدساً ومحجاً لمعتنقي الإيزيدية، وهناك تبلورت آراؤه وفلسفته ومذهبه حول القدرة الإلهية ومنها «إذا كان الشر موجوداً رغم إرادة الله وبمعزل عنها فذلك دلالة على أن الله عاجز، ولكن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكون عاجزاً وإلا لما كان إلهاً» كما وضع نظاماً لاهوتياً هرمياً لطبقات أتباعه (الشيخ- الپير- المريد)، وتتلخص نظرة المعتقد إلى قضية الخلق في: أن الله خلق في يوم الأحد الملك عزازيل (طاووس ملك) يمثل عز الله وقوته واعتبره رئيساً للملائكة (وهو الذي اعتبر في الكتاب المقدس والقرآن إبليس) والحية التي أغوت آدم، وفي يوم الاثنين خلق الملك دردائيل ويمثل إله القمر سن، ثم خلق في يوم الثلاثاء إسرافيل وهو الذي ينفخ في الصور، ثم خلق ميكائيل يوم الأربعاء، وخلق جبرائيل أو عزرائيل يوم الخميس، وشمنائيل يوم الجمعة، وفي يوم السبت خلق الملك نورائيل.
يشير روجيه ليسكو أنه بعد وفاة الشيخ آدي برزت من بين مريديه جماعتان متنافستان إحداهما تمسكت بالدين الإسلامي التقليدي مع مسحة أموية، والأخرى تأثرت بالمعتقدات الدينية القديمة في كردستان مثل الزرادشتية والمانوية وعقائد قد تصل إلى العصر السومري، أو ما يمكن قوله العودة إلى رأس النبع لتوافر الشروط الذاتية والموضوعية، وبعد صراع طويل بين الجماعتين دام زهاء مئة عام انتصرت الجماعة الثانية، وانتشرت مبادئها في كردستان وتقبلها الناس وذلك في القرن الثالث عشر، وأعيد الاعتبار لإبليس كرئيس للملائكة ودعي بالكردية «طاووس ملك»، ومع أن المبدأ الإيزيدي العام يعتمد على إله واحد يعاونه سبعة ملائكة إلا أن أسماء هؤلاء الملائكة تتغير من فرقة إلى أخرى حيث يرد لدى البعض اسم الشيخ أبو منصور الحلاج ويتكرر الاسم نفسه لدى طائفة أهل الحق والعلوية القزلباشية الكرد.
شغلت مسألة إبليس مخيلة عدد من المتصوفين المسلمين، ودخلوا في جدال عميق حول لعن إبليس وطرده من الجنة، أمثال الشيخ عبد القادر كيلاني، محي الدين ابن عربي ، أحمد الغزالي والحسين أبو منصور الحلاج ويرون أن رفض إبليس السجود لآدم كان تكريماً لله سبحانه وتعالى وحبه المفرط له، وبدلاً من لعنه إلى الأبد يتوجب تبرير فعلته وتوقيره، كما تجب الإشارة إلى أن الطوائف الدرزية والتختجية والمندائية يجلّون إبليس أيضاً وأن الشاعر العباسي المشهور بشار بن برد يقول في قصيدة له:
إبليس أفضل من أبيكم آدم
فتبينوا يا معشر الأشرار
النار عنصره وآدم طينة
والطين لا يسموا على النار
الأرض مظلمة والنار مشرقة
والنار معبودة مذ كانت النار
ويعتقد الإيزيديون أنه في كل سنة ينزل أحد الملائكة السبع في كردستان ويضع الشرائع لأمة «يزدان» ثم يصعد إلى ربه، وأن طاووس ملك نزل قديماً وتكلم مع البشر بالكرمانجية، وسلم الحقائق والشرائع إلى الإيزيديين، وأن أحد الملائكة سلم السناجق (الرايات) إلى سليمان الحكيم، وبعد موته تسلمها ملوك الإيزيدية، وقد يكون لهذا المعتقد علاقة مع ما جاء به المسعودي أن الكرد ظهروا نتيجة زواج الجن من نساء سليمان اللاتي أبعدن إلى الجبال، وعندما قرر الله أن يخلق آدم «إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة»، أمر جبرائيل أن يدخله في الجنة ويأكل من كل الثمرات ما عدا الحنطة (في التوراة شجرة المعرفة)، قال طاووس ملك (عزازيل) لله: كيف يظهر نسل آدم؟ أجابه: «الأمر والتدبير سلمته بيدك»، فطلب من آدم أن يأكل الحنطة، فلما أكل انتفخ بطنه حالاً، وأخرِجَ من الجنة. يظهر هنا أن طاووس لعب دوراً سلبياً بأمر الله، وعندما طلب الله من الملائكة السجود لآدم فسجدوا إلا طاووس ملك (في القرآن إبليس) حيث رفض أن يسجد لغير الله، فعاقبه الله وأبعده على خطيئته، لكن طاووس ملك ندم وبكى دموعاً أطفأت نار جهنم، فغفر الله له وأعاده إلى مكانه
ووكله بأمر الخليقة وإدارة الكون، ولذلك فإن الإيزيديين يعظمونه لأنه مدبر الكون وراعي شؤونه ويلتمسون منه كل ما يحتاجون إليه عن طريق الشيخ آدي، وبهذه الطريقة وكأنهم شكلوا مجمعاً إلهياً أو ثالوثاً مقدساً على غرار المسيحية مكوناً من (الله – طاووس – شيخادي) .
تنقسم زعامة الإيزيدية إلى مؤسستين إحداهما زمنية ويرأسها المير وأخرى دينية تتوزع على ثلاث طبقات دينية هي الشيخ والپير والمريد ومنها تشتق المراتب الدينية: (بابا شيخ – پيش إمام – فقير – قوال – مير حج – بابا جاويش)، وتختص طبقة الشيوخ بالقيام بالواجبات الدينية (البسك، الزواج، الدفن، التحليل والتحريم)، وتنحدر هذه الطبقة من ثلاث عوائل عريقة هي: (الآدانية والشمسانية والقاتانية) ويحرم الزواج بين كل عائلة من تلك العوائل الثلاثة، كما يحرم الزواج بين طبقات الشيوخ والپير والمريدون حيث تعتبر كل طبقة أعلى مرتبة وبمثابة آباء للطبقة الأدنى، وعكسها أولاد الطبقة الأعلى، وتشكل طبقة الپير مع الشيوخ وظيفة ومفهوماً دينياً واحداً، أما المريد فهم يشكلون عامة الشعب وينتمون إلى عشائر متعددة، وننوه إلى أن الزواج بين أفراد الديانة الإيزيدية وأفراد الديانات الأخرى محرّم.
ويأتي على رأس طقوسهم الصلاة ثلاث مرات في اليوم (عند شروق الشمس ومنتصف النهار وغروب الشمس) حيث يتوجهون نحو الشمس بالدعاء للخالق، أما الصيام فثلاثة أيام في السنة على أن يدخل العيد في أول جمعة من شهر كانون الأول حسب التقويم الشرقي، إضافة إلى صوم أربعينية الصيف وأربعينية الشتاء لطبقة رجال الدين، كما يوجد واجب الحج ولو لمرة واحدة في العمر إلى معبد (لالشا نوراني) الذي يعتبر مركز الكرة الأرضية حسب معتقدهم والموجود في جبل شنگال وفيه نزل طاووس ملك من السماء في الأول من شهر نيسان الشرقي حيث يحتفل به كعيد لرأس السنة وتتم زيارة مرقد الشيخ آدي والتعميد بمياه النبع الأبيض (كانيا سپي) .
للإيزيدية كتابان مقدسان هما «مصحفي رَشْ والجلوة» اللذَيْن كُتبا بخط خاص بهم يدعى (خطا سري) ويعتقد البعض أن النسخ الحالية محرفة عن الأصل الضائع لكنهما غير بعيدين من حيث المضمون عن العقائد والمبادئ الإيزيدية، حيث يتحدث مصحف رش عن أسطورة الخلق وخروج آدم وحواء من الجنة، وقصة الطوفان وأصل الإيزيدية والواجبات الدينية، حيث يرد في الترجمة العربية:
«في البداية خلق الله درة (جوهرة) من سره العزيز، وخلق طيراً اسمه أنغر، وجعل الدرة فوق ظهره وسكن عليها أربعون ألف سنة، خلق يوم الأحد ملكاً سماه عزرائيل وهو طاووس ملك ورئيس الجميع، ويوم الاثنين خلق الملك دردائيل وهو الشيخ حسن، ويوم الثلاثاء خلق الملك اسرافيل وهو شيخ شمس، ويوم الأربعاء خلق الملك ميكائيل وهو شيخو بكر، ويوم الخميس خلق الملك جبرائيل وهو سجادين، ويوم الجمعة خلق الملك طورائيل وهو فخر الدين، ثم جعل طاووس ملك رئيساً للجميع، خلق فخر الدين الإنسان والحيوان والطير والوحوش ووضعهم في جيوب الخرقة وطلع من الجوهرة ومعه ملائكة فصاح صيحة عظيمة على الجوهرة فانفصلت وصارت أربع قطع ومن بطنها خرج الماء وصار بحراً وكانت الدنيا مدورة …» .
أما الجلوة فقد جاء في الديباجة (الترجمة العربية) :
«إن أول مخلوق هو الملك طاووس حيث أرسل عبطاووس إلى هذا العالم لكي يميز قومه الخاص وينجيهم من الضلال وبعد أن أبلغهم بالحقيقة شفاهة ثم عن طريق هذا الكتاب المسمى جلوة الذي يحرم قراءته من قبل الخارجين عن هذه الملة».
وننوه إلى أن عدداً كبيراً من الباحثين خاضوا غمار البحث عن الديانة الإيزيدية للتعرف عليها وسبر أغوارها وكشف توجهاتها عن حسن أو سوء نية، لكن أغلبهم فشلوا بسبب اهتمامهم بالشكل والابتعاد عن الجوهر أو أنهم أطلقوا أحكامهم مسبقاً، كون معتنقيها من الكرد حيث أن أغلبهم اعتبروا الإيزيدية (عبدة الشيطان) أو طائفة إسلامية منحرفة عن الدين بسبب اكتشافهم أسماء ومصطلحات قريبة من الإسلام ويعتقد أن الشك في انحراف كتب الإيزيدية يعود إلى أنها كتبت بالعربية بينما طقوسها تقام بالكردية، لكن الغوص في الجوهر ومناقشة رجال الدين في العمق يؤدي إلى نتيجة مفادها: إنها ديانة شرقية توحيدية تتخذ من عبادة الشمس كرمز للتوحيد وملائمة لمناخ كردستان وسيكولوجية شعبها أساس في العقيدة والعبادات والطقوس.
تنتشر مساكن الإيزيديين في الأجزاء الأربعة من كردستان أغلبهم في جنوب كردستان وخاصة أقضية الشيخان وشنگال من ولاية الموصل، وفي الحسكة وعفرين في غرب كردستان، وولايات أورفا ماردين ديار بكر سيرت آگري بشمال كردستان، وبعض مناطق كرمنشاه ومهاباد وأورميه في شرق كردستان، إضافة إلى وجودهم في أرمينيا وجورجيا، أما تعداد الطائفة فيقدرهم أعضاؤها بحوالي مليون نسمة لعدم وجود إحصائية دقيقة بسبب عدم اعتراف الأنظمة الحاكمة بوجودهم العرقي والثقافي، كما أن معدل النمو السكاني لديهم يكاد يكون صفراً بسبب حملات الإبادة وتغيير الدين بشكل قسري أو طوعي.[1]