الاغتراب
ألهام أحمد
يعتبر الاغتراب والإنكار من أهم القضايا الاجتماعية التي خلقها النظام السلطوي ضمن المجتمع، حيث بات الفرد ضمن المجتمع يحيا البعد عن حقيقته واجتماعيته وتاريخه وقيمه وثقافته. حيث يذكر قائد الشعب الكردي عبدالله أوجلان في مرافعاته: «إن الشخص الذي يفتقد إلى الحرية لا يمكن أن تكون له هوية ويكون غريباً عن ذاته ويفتقد إلى المعنى ». ولمعرفة أو توضيح كيفية ظهور الاغتراب والإنكار كقضية اجتماعية وكيفية انعكاس هذا الوضع وبروزه ضمن المجتمع الكردي في يومنا الراهن, وغير ذلك من المواضيع المتعلقة بهذه القضية قامت مجلتنا «صوت كردستان » بإجراء حوار خاص مع عضو منسقية اتحاد ستار السيدة إلهام أحمد. آملين أن يساهم هذا الحوار في توضيح تلك النقاط. وإليكم نص الحوار:
– لمناقشة هذا الموضوع ينبغي علينا في البداية معرفة معنى هذه الكلمة. أي ما هو معنى مصطلح «الاغتراب » أو ما يسميه البعض بالنيهيلية؟ كيف يمكنكم شرح معنى هذه الكلمة؟
– الاغتراب كمصطلح هو الابتعاد عن الحقيقة، والابتعاد عن جميع الحقائق التي تمت وتتم معايشتها بأبعادها التاريخية والدخول في وضع معاكس تماماً، هذا هو معنى الاغتراب. أما بالنسبة إلى النيهيلية فهي مختلفة بعض الشيء، هي أسلوب يعتمد على عدم رؤية الحقائق الموجودة وإنكارها, وإفقاد كل شيء معناه، وإبعاد كل حقيقة موجودة عن معناها الحقيقي وعدم إحياء جوانبها المعنوية ومعرفتها التاريخية والابتعاد عنها وجعل الذات مركز كل شيء وتهميش كل من حولها وإفقاده لمعناه.
أي أن الإنكار والنيهيلية هما الأقرب إلى بعضهما؛ إلا أن الفصل بين كل من الإنكار والاغتراب والنيهيلية صعب نوعاً ما. حيث أن هذه المصطلحات الثلاثة تقوم بخدمة بعضها من حيث المعنى. فكيف ظهر الاغتراب كقضية اجتماعية؟ عند العودة إلى التاريخ نرى بأنه لم يتطرق أحد إلى الاغتراب كقضية اجتماعية، فقائد الشعب الكردي السيد عبدالله أوجلان هو الشخص الذي تطرق إليه كقضية اجتماعية بشكل موسع وواضح ضمن مرافعاته. فمن أين ظهرت هذه القضية الاجتماعية وكيف تطورت؟
يحلل القائد آبو هذا الموضوع ضمن مرافعاته بشكل واسع، حيث يتطرق لكيفية ظهوره تاريخياً وصولاً إلى شكل إحيائه في يومنا الراهن. والحقيقة التي تظهر ضمن تلك التحليلات هي أن الاغتراب الذي تتم معايشته ضمن المجتمع ظهر قبل 5000 عام ضمن المجتمع القابع تحت سلطة الدولة، أي مع ولادة نظام ومركزية الدولة. أي أن الاغتراب ظهر مع تحطم ثقافة المجتمع الطبيعي وثقافة الآلهة الأم. وتمت معايشة الاغترب بقدر تحطم تلك الثقافة وتلك الاجتماعية وصهرها ضمن نظام الدولة المركزية. فالاجتماعية كانت تبرز ذاتها ضمن المجتمع الطبيعي من خلال القيمة التي كان يعطيها المجتمع للوجود والتوحد مع الحقيقة، وإعطاء المعنى لكل كائن حي من حوله. أي أن الإنسان كان يرى أن وجوده مرتبط بوجود الطبيعة، بكل كائن حي يعيش من حوله، ولا يعطي معنى لذاته من دونهم، ولا يجعل ذاته مركزاً لكل شيء. ولكن بقدر التحول والتغير الذي طرأ على المجتمع بولادة النظام السلطوي ذاك النظام المركزي الذي جعل من الإنسان مركزا لكل شيء، مركزا لجميع الأحياء وللكون وصل الإنسان إلى مرحلة بات يرى فيها أن جميع الأشياء التي تحيط به تفتقد إلى المعنى ويرى في ذاته المعنى والحقيقة. يبرز هذا بشكل واضح ضمن حقيقة نظام الدولة المركزية. ظهر الاغتراب مع إظهار الذات كالإله وبالاستناد إلى ذلك فرض السلطة على المجتمع.
أي مع انهيار المجتمع الطبيعي. يمكننا القول بأنه بقدر ضعف الخاصية الاجتماعية والتضامن والمحبة والمعنويات الموجودة ضمن المجتمع وتمحور كل شيء حول مركزية الدولة بنفس القدر فقد كل شيء معناه.
يذكر قائد الشعب الكردي السيد عبدالله أوجلان بأن أول ظهور للاغتراب بدأ مع تطور سلطة )الحاكم – الراهب – الرجل القوي «الجندي »( وضعف إدارة المرأة. فبظهور ثقافة السلطة الذكورية ضعفت ثقافة الآلهة الأم التي كانت موجودة ضمن المجتمع. حيث يبرز هذا وبشكل واضح ضمن نظام الدولة المركزية التي تطورت بثلاثية )الحاكم والراهب والرجل القوي »الجندي »( الذي مثل الشكل الأولي لنظام الدولة والذي يقوم بإخفاء الحقيقة والمعنى وكل شيء فيه. فالمعنى والوجود والهوية تبرز ذاتها بشكل واضح لدى الإنسان الذي كان يرى جمالية الحياة ويعطي المعنى للحياة ويحس بها ويخلق الحياة حوله. إلا أنه بولادة نظام الدولة تم الفصل بين الإنسان والطبيعة. فالإنسان الذي كان يرى جنته ويحس بجمالية الحياة في كل لحظة يمضيها على الجغرافيا التي يعيش فيها، لم يعد مع ولادة النظام المركزي يرى تلك الجنة والجمالية في هذه الحياة، إنما يراهما في العالم الآخر. لذا ينبغي على كل إنسان أن يسعى للوصل إلى تلك الجنة والجمالية. وفي الأساس القوانين والقواعد والفلسفة والميثولوجيا التي تم إنشاؤها هي طريقة أو وسيلة للوصول إلى تلك الجنة وجمالية تلك الحياة التي لا يمكن الوصول إليها إنما هي موجودة فقط في الخيال. يمكننا أن نسمي المسافة الموجودة بين الجنة والأرض أو الحياة التي يحياها الإنسان والجنة التي يتخيلها في خياله بالساحة الواسعة التي أحيا فيها الإنسان الاغتراب، وابتعد فيها عن حقيقته الاجتماعية. أي أن تخيله بأنه سيصل إلى تلك الجنة أو تلك الحقيقة بعد مماته ولد الاغتراب عن الحقيقة والحياة الموجودة. هذا الاغتراب هو اغتراب من الناحية الفكرية والذهنية. فولادة الدولة جردت الإنسان من مجتمعيته والحياة الجماعية التي كانت موجودة، ودفعت بالإنسان الذي كان يرى وجوده مرتبطاً بوجود الأحياء التي حوله إلى إنسان يعتقد بأن كل إنسان موجود لوحده. فقيام الدولة القومية بشكل خاص وحصر الدولة ضمن بعض المصطلحات كالعلم والقومية والأرض واللغة وإخضاع المجتمع لخدمة تلك المصطلحات دفع بالمجتمع للتضحية بذاته لصون تلك المصطلحات، ودفع بالإنسان للابتعاد عن هويته لخدمة العلم الواحد والدولة الواحدة. فالهوية مرتبطة بمقدار قدرتك العيش على الجغرافيا االتي تحيا عليها والتوحد مع المجتمع الذي تعيش معه وتقوم بخدمته وترى وجودك بوجوده. فبقدر إحياء وصون الثقافة واللغة التي تم إحياؤها منذ آلاف السنين وخلق اجتماعية بالاستناد إليها مع الجميع يمكن امتلاك الهوية. ولكن في حال عدم حصول هذا أي إن زال هذا الرابط الاجتماعي أو العلاقة الاجتماعية وتم وضع كل شيء في خدمة الذات حينها مهما تم السعي إلى امتلاك الهوية الوطنية يكون سعياً لا قيمة ولا معنى له.
نود التطرق إلى طبيعة ذاك الفرد الذي خلقه النظام المركزي؛ أي ما هي طبيعته من حيث الشخصية والذهنية ومقارباته الاجتماعية؟
يمثل النظام الرأسمالي فكر الاغتراب إلى أبعد الحدود, أي أنه أكثر من يقوم بتطوير وتعميق وتقوية الاغتراب ضمن المجتمع. حيث تعتبر الدولة القومية أحد الركائز الهامة لذهنية وثقافة النظام الرأسمالي. تمكنت الدولة القومية من تقوية نفسها من خلال الاستناد إلى الفرد الذي يعيش لنفسه فقط أي الفرد الأناني. صهرت الثقافة الرأسمالية الشخصية وأخفت الحقيقة الموجودة وحطمت الإرادة باسم الحرية والحقيقة وكل ما هو بعيد عن الإرادة والشخصية والحقائق الموجودة.
حيث يرى الفرد الذي يترعرع ويعيش مع هذه الثقافة كل شيء مباحاً له ويرى لنفسه الحق في كل شيء ويرى كل الوسائل مشروعة للوصول إلى هدفه. أي أنه يتبع مبدأ ميكا فيلي «الغاية تبرر الوسيلة ». أي أن بإمكان الفرد السرقة والنهب والقتل في سبيل أن يصبح غنياً، حيث يتم شرعنة كل هذا باسم الفردية والحرية والتطور والتقدم، ويتم إخضاع المجتمع بكامله لخدمة أنانية فرد ما. أي لكي يستطيع الفرد إشباع رغباته يقوم بوضع كل شيء في خدمة ذاته. وهذا يخلق أنانية على أعلى المستويات. فالنظام الرأسمالي يحول الشخصية أو الفرد إلى وحش له الحرية الكاملة في التصرف بالعالم أجمع. وإن نظرنا إلى الموضوع من الناحية الصناعية نرى بأن الصناعة التي يطورها هذا النظام تقوم بتدمير البيئة إلى أبعد الحدود باسم التطور، وكذلك من الناحية الاجتماعية أيضاً أي أنه من أجل تطوير حرية الفرد يستطيع أن يحطم جميع العلاقات الاجتماعية الموجودة ضمن العائلة والمجتمع.
للفرد تأثير مباشر على شكل المجتمع، في حال كثر عدد هؤلاء الأفراد الذين تحدثتم عنهم ضمن المجتمع ماهو الشكل الذي سيأخذه المجتمع؟
يعاني المجتمع الموجود الآن التشتت والانقسام والتفرقة من كل النواحي, وتحول إلى مجتمع بعيد عن حقيقته, غير مرتبط بأرضه، وبعيد عن القيم والمقاييس الإنسانية المرتبطة بتاريخه وجغرافيته. أي أن هذا المجتمع انصهر ضمن إطار الرغبات الفردية. ومجتمع كهذا لا يستطيع أن ينتفض أو يعترض على ما يتم فرضه عليه ولا يستطيع أن يخلق تنظيماً خاصاً به ولا تحديد استراتيجية للسير وفقها. لماذا؟ بسبب التشتت والتقسيم الذي يعيشه المجتمع، ولأن النظام السلطوي هو الذي يقود المجتمع عن طريق الأفراد وليس المجتمع هو الذي يدير نفسه بنفسه. أي أن الذين يقودون المجتمع هم أفراد وشخصيات وهو بدوره يقوم بالاستفادة منهم في خدمة سياساته وأهدافه ومساعيه، إذاً فالمجتمع المتشكل يكون مفتقداً إلى الإرادة وهو مجتمع لا يمكن له أن يشكل مجموعة للتصدي أو لمعارضة قرار ما ولا يمكن له أن يصل إلى سوية من التنظيم لصون استمرارية وجوده.
لماذا؟ لأن النظام المذكور من خلال الاستناد إلى ثلاث وسائل يقوم بإشباع رغبات الإنسان ومن خلالها يفرض سياساته على المجتمع. وأولى هذه الوسائل هي «الجنس » حيث أن الأمور التي طورها ونشرها النظام الرأسمالي ضمن المجتمع باسم الحرية هي الجنس، وإبراز العلاقات البعيدة والمنتاقضة مع جميع القيم الإنسانية, وفرض كل شيء باسم الإشباع، أي تم صهر وتحطيم فكر ووجود الإنسان في هذه البوتقة. الشيء الثاني أنه قام بإبراز «الحياة المادية » بشكل كبير. أي جعل المال إله النظام الرأسمالي، فجميع الحروب التي يتم خوضها تستند إلى كيفية جني الربح وتكديس المال فقط. كما قام بتحريف العلاقات الاجتماعية فيما بين الأفراد والشخصيات لتتحول إلى علاقات مبنية على أساس المصلحة المادية للفرد. الشيء الثالث هو الرياضة؛ فالرياضة تمارس لضمان سلامة صحة الإنسان وتنشيط الفكر لديه, إلا أن النظام الرأسمالي حولها هي الأخرى إلى وسيلة لتسيير سياساته وفرض تأثيره على المجتمع وجعلها وسيلة لربط المجتمع بنفسه والوصول إلى أهدافه.
فالشخصية المتشكلة من خلال هذه الحلقات الثلاث هي شخصية ترى نفسها مركزاً لكل شيء وبعيدة عن حقيقة مجتمعها.
ففي ظل النظام الرأسمالي لايمكن الحديث عن المجتمع إنما يمكن التطرق إلى الفرد لأنه قضى على جميع القيم والمعايير التي تجعل من المجتمع مجتمعاً، فالفرد هنا يكون مفتقداً إلى الإرادة وبعيداً عن حقيقته وجميع الحقائق الأخرى الموجودة.
عند ذكر الاغتراب تراود الأذهان العديد من المواضيع؛ في أية نقطة اغترب المجتمع عن ذاته أو عن حقيقته، وفي أي نقطة فرض الاغتراب ذاته على المجتمع، وبالتوازي مع هذا كم شكلاً أو نوعاً يوجد للاغتراب؟
الاغتراب الموجود هو الابتعاد عن الحقيقة التاريخية التي تطرقنا إليها ضمن حديثنا فابتعاد المجتمع عن تاريخ وثقافة المجتمع الطبيعي، وعن المثيولوجيات التي كانت تتحدث عن ثقافة الآلهة الأم وثقافة المجتمع الطبيعي، وإبراز الإنسان والمجتمع مع مرور الزمن بأنه بدون تاريخ يعتبر شكلاً من أشكال الاغتراب. الشكل الثاني يبرز من الناحية الثقافية, أي الثقافة التي تظهر نتيجة سياسة الاغتراب التي تمارس من قبل النظام السلطوي. فبقدر ابتعاد المجتمع عن ثقافته وحقيقته وعن إدراك مجتمعه يسهل على النظام السلطوي أن يفرض سياساته على هذا المجتمع ويديره. وفي هذا السياق يتطرق قائد الشعب الكردي إلى العمال حيث يقول: « تطرق ماركس في نهجه إلى حرية العمال وإلى كيفية وصول العمال إلى السلطة لنيل حريتهم » لا يمكننا أن نأمل من العامل الذي يعمل في سبيل نيل لقمة عيشه أن يصل إلى سوية تكسبه الهوية أو يقوم بانتفاضة قوية، لماذا؟ لأن العامل يعمل مقابل أجر محدد ضمن مكان عمله ومن خلاله يقوم بتلبية قوت يومه، ويرى أن طريق حياته يمر من هذه النقطة فقط، لأنه يعتقد ويؤمن بأن تصديه لتلك السلطة سوف يكون السبب في انقطاع قوته اليومي، لهذا السبب حتى وإن تصدى لما يتم فرضه عليه يكون ذلك بصعوبة بالغة جداً، وهذا من يسميه القائد بالعبد المطيع، أي العبد الذي يمكن إدارته وتوجيهه. لا يمكن أن يتم عقد آمال كبيرة على هذا العامل المنخرط في النظام الرأسمالي كي يكون صاحب إرادة في القيام بانتفاضات كبيرة ضد النظام السلطوي لأنه يرى هذا النظام الطريق الوحيد من أجل تأمين لقمة عيشه. وهو بعيد عن حقيقته وحقيقة مجتمعه وحقيقة الثقافة والمجتمعية التي ولد ضمنها. لهذا السبب فإن الاغتراب الثقافي هو أخطر أنواع الاغتراب. ويمكننا رؤية أمثلة بارزة في يومنا الراهن كالمجتمع الذي نعيش فيه في سوريا وفي روج آفا وفي منطقة الشرق الأوسط بشكل عام -تحدثنا عن الشخصية التي خلقها المجتمع الأوربي في ظل هيمنة السلطة الرأسمالية وكيفية قضائه على المجتمع وشكل الاغتراب والإنكار وإنكار هوية المجتمع الموجود هناك- فعلى الرغم من تأثير الدين على بقايا قيم المجتمع الطبيعي في مجتمع الشرق الأوسط وسعيه إلى صون اجتماعيته ضمن إطار الهوية الدينية إلا أنه ومع الأسف هذه الثقافة الدينية وتأثيرها الموجود ضمن المجتمع هي الأخرى لم تستطع أن تنقذ نفسها من بطش النظام السلطوي بل على العكس تماماً تحول الدين أو الثقافة الدينية الموجودة إلى ثقافة سياسية تقوم بخدمة النظام السلطوي وتحول الدين إلى وسيلة بيد النظام السلطوي لفرض حاكميته على المجتمع. أي أنه استخدم الدين كوسيلة لإدارة وتوجيه المجتمع وفرض السيطرة عليه. إلى جانب هذا فإن الاغتراب الموجود ضمن المجتمع الشرق أوسطي هو اغتراب عميق. وقد تطرق القائد إليه في مرافعته حيث قال:
إن الأفكار التي ظهرت باسم الدين ساهمت في ولادة أو ظهور الاغتراب، أي عندما قام الإنسان برفع الإله إلى السماء وجعل نفسه ممثلاً له على الأرض وابتعد عن حقيقة مجتمعه توجه نحو حالة من الاغتراب. هذه الحقيقة يتم إحياؤها في منطقة الشرق الأوسط إلى أبعد الحدود، ويتم فرض هذا الواقع على المجتمع الشرق أوسطي. ويمكن للمرء أن يقول إن الاغتراب العميق الموجود في مجتمع الشرق الأوسط وصل إلى مرحلة دفعت بالمجتمع للقيام بإنكار ذاته بذاته.
– ذكرنا في سؤالنا الأول أن هناك رابطاً قوياً بين الإنكار والاغتراب، وقد برز هذا بشكل واضح ضمن تحليلاتكم، إلى أي مدى يمكن أن يخدم الاغتراب سياسة الإنكار والإبادة التي تمارس بحق الشعوب؟ وفي يومنا الراهن وصلت قضية الإنكار إلى سوية تدفع بالشخص إلى القيام بإنكار ذاته وعدم التمييز بين ما هو صحيح وما هو خاطئ. فإلى أي درجة قام الاغتراب بخدمة هذا الإنكار؟
يمكن التطرق إلى الإنكار من جانبين؛ أحدهما هو الإنكار الذي يتم فرضه من قبل النظام السلطوي على المجتمعات، والذي يستند إلى عدم اعتراف النظام السلطوي بوجود وإرادة وقيم المجتمع، ويرى المجتمع عبداً ينبغي عليه تنفيذ ما يطلب منه، وليس له حق التفكير أي أنه سعى إلى خلق مجتمع مهمش يفتقد إلى القوة.
هذه هي سوية الإنكار الذي يمارسه أو يفرضه النظام على المجتمع. إلا أن هناك نوعاً آخر من الإنكار وهو الإنكار الذي يفرضه المجتمع على نفسه. حيث أن أغلبية المجموعات التي تعيش هذا النوع من الإنكار والحالة النفسية هي المجموعات التي تعرضت للمجازر والقتل وسياسات الصهر ضمن تاريخها. أي أن قيام النظام السلطوي بفرض سياسات الإنكار والصهر والإبادة على تلك المجموعات أو المجتمعات, وعدم وصول تلك المجموعات أو المجتمعات إلى حقوقها وعدم وصولها إلى السلطة أو العيش في ظروف حرة، ولتعرضها على الدوام للشدة والقوة من قبل من يحكمها ساهم في أن تعيش هذه المجتمعات أو الجماعات الاغتراب إلى أبعد الحدود ووصلت إلى مرحلة تقوم فيها بإنكار ذاتها، وتقوم بالقضاء على نفسها. إن قمنا بالتركيز على هذا الموضوع ضمن مجتمعنا الكردي في روج آفا وكيف يتم إحياء أو معايشة هذه الحقيقة ضمن المجتمع سنصادف الكثير من الأمثلة المذهلة. مثلاً النظام الذي فرض حاكميته أو سلطته على المجتمع في روج آفا أو سوريا قام في ظل سلطته بإنكار هذا المجتمع على الدوام وعلى وجه الخصوص الشعب الكردي. والمجموعات السياسية الكردية ذات التاريخ الطويل والتي كانت موجودة ضمن المجتمع ناضلت على الدوام باسم الكردياتية, إلا أنها لم تستطع أن تتحول إلى حركة اجتماعية أو تخلق كتلة جماهيرية قوية حولها أو تتحول إلى نهج وفلسفة تقوم بضم جميع فئات المجتمع لها إنما انحصرت ضمن فئة أو مجموعة صغيرة، لهذا كانت في حالة بحث عن طرف آخر تستطيع الاستناد إليه. أي أنها لم تكن تدرك حقيقة تاريخها ولا قوة هذا المجتمع وإلى أي مدى يستطيع هذا المجتمع المقاومة وما هو مدى ثقافة هذا المجتمع وما هي الإرادة والقوة التي يمتلكها، لأنها لم تنخرط مع حقيقة المجتمع، والأصح هو أن الشخصية والفلسفة والقناعات التي حددوها لنا ويسيروننا وفقها ليست بفلسفات ونهج تستند إلى قوة وحقيقة ووجود المجتمع. بل على العكس تماماً بقيت هذه الحركات ضمن إطار مجموعة صغيرة لا حول لها ولا قوة. لأنها تؤمن بالمفهوم المستند إلى أنه من دون مساعدة النظام أو قوة أخرى لها لا يمكنها النجاح والنصر ولا يمكن نيل الحرية ولا يمكن خلق الاجتماعية، ففي الأساس لا مكان للمجتمع ضمن فلسفتها ونهجها. هنا يظهر الإنكار الكبير الذي يعيشونه لهويتهم ووجودهم. ففي بداية الثورة أي في فترة المظاهرات التي كانت تقوم يوم الجمعة كان هناك من يقول لن نشارك في هذه المظاهرات من دون اللون والهوية الكردية، ولكن هذه المجموعات التي تفتقد إلى الثقة بنفسها والتي لا تستطيع أن ترى لذاتها وجوداً من دون مساندة مجموعات أو قوى أخرى والتي تفتقد إلى الثقة بقوتها كانت تقول الهوية العامة هي الأساس وأن الوقت غير مناسب لننادي بالهوية الكردية أو اللون أو الوجود الكردي، فهذه المرحلة ليست مرحلة التفكير في هذا الأمر. من أين تظهر هذه الحالة النفسية أي الروح التهجمية على اللون والهوية الكردية، فهذا الأمر كان بمثابة هجمات في بداية الثورة على الهوية واللون الكردي، وهذه الحالة النفسية نابعة من حالة العبودية التي يتم إحياؤها، وحالة إنكار الذات، وتحولت هذه الحالة النفسية مع الزمن إلى نوع من العداء للهوية واللون الكردي. استمر هذا إلى أن ظهرت قوة كردية على أرض الواقع وبات العالم أجمع يرى هذه القوة. أي أن العالم أجمع بات يرى بأن الكرد تحولوا إلى إرادة من خلال النظام والسياسة التي اتبعوها، ولا يمكن لأي قوة تهميش الكرد عند قيامه بتطبيق سياسته بخصوص سوريا، ولا يمكن غض النظر عن هذه الإرادة الكردية التي ولدت، لأنه إن تم غض النظر عنها لا يمكنهم إنجاح مشروعهم، أي إما أن يروها ويعترفوا بها كما هي أو يقوموا بمهاجمتها في حال لم يكونوا يريدون الاعتراف بها. هذه المجموعات الكردية بعد أن رأت ظهور هذه الحقيقة ولا سيما أنها تطورت رغم إرادتهم قاموا باتخاذ موقف آخر أي قاموا بمهاجمة الكردياتية باسم الهوية الكردية هذه المرة. ويعتبر هذا أيضاً نوعاً من الإنكار بل أسوأ أنواع الإنكار للذات.
– كيف ينعكس هذا النوع من الإنكار للذات في يومنا الراهن على وضع المجتمع الكردي، ولا سيما أنه وصل لدرجة بات الكرد يعادون بعضهم البعض بين من يمثل حقيقة المجتمع ومن يقوم بإنكار تلك الحقيقة وذاته؟
يمكننا القول إن كل ما كان يطالب به الكرد هو الآن بين أيديهم على طبق من ذهب, لكن الذين يقومون بالإنكار أي الذي يقولون «إن لم يكن هذا الشيء لي فلن أسمح بأن يكون لك « يقومون بسياستهم وذهنيتهم الإنكارية هذه بإظهار أو إبراز نهج معادٍ للمكاسب التي تم تحقيقها، حتى أنها تصل إلى مرحلة معاداتها ، ويبذلون كل ما يملكون من قوة وإمكانيات من أجل تحطيمها. هذا الوضع يتجاوز المستوى الحزبي، فالإنكار الذي تعيشه بعض المجموعات الكردية وخاصة الغارقين في تلك الثقافة يتجاوز سوية الإنكار ودخل مرحلة يقوم فيها بخدمة سياسة العداء للهوية الوطنية والخيانة، ويمثل نهج الخيانة، حيث أن كلاً من الإنكار والخيانة ليسا بعيدين عن بعضهما البعض. فابتعاد الفرد عن حقيقته وتاريخه والمكاسب التي تم خلقها وعن مجمعيته يساهم في ولادة الخيانة، فهذا الشخص لا يمكنه أن يصبح شيئاً سوى أن يكون خادماً وعبداً وتابعاً للنظام السلطوي.
هذا هو العمل الوحيد الذي بإمكانه القيام به.
– لتجنب هذا الوضع أي لتجنب الوصول إلى سوية الخيانة ما هو الحل أو ما هي التدابير الواجب اتخاذها ؟ لتجاوز هذا الواقع المتشكل ينبغي أولاً إزالة المسافة التي ظهرت بين تلك المجموعات والمجتمع وحقيقته الاجتماعية. فمن أجل القضاء على هذه المشكلة أو المعضلة ينبغي على هؤلاء الذين يقومون بإنكار ذاتهم أو يقومون بخدمة سياسة الإنكار العودة إلى مجتمعهم، والدخول ضمن حقيقة المجتمع، أي أن يدركوا كيف وصل هذا المجتمع إلى هذه السوية، وكيف تم خلق أو تحقيق هذه المكاسب التي يصعب تعدادها على أرض الواقع ، وأن يدركوا بأنه لا هم ولا غيرهم يستطيعون خلق مكاسب تتجاوز هذه المكاسب التي تم خلقها، حينها يضطرون لتقبل هذه الحقيقة. ولكن كيف سيتم تقبل هذه الحقيقة؟ عندما يرى هذا الشخص بأن مجتمعه مجتمع يسعى إلى التحرر، ومجتمع أخلاقي سياسي، مجتمع صاحب إرادة ومجتمع موجود من أجل نيل حريته، ويرى نفسه جزءاً من هذا المجتمع. وليس التسكع وطلب المساعدة من الآخرين، وأن يتخلى عن فكرة أن القوة الوحيدة هي القوى الخارجية التي تستطيع تقديم المساعدة ومن دون تلك المساعدة لا يساوي مجتمعه شيئاً. أي عليه أن يحرر نفسه من هذا الإنكار ويثق بهذه القوة الموجودة على أرض الواقع، وهذا كخطوة أولية سوف يقربه بعض الشيء من حقيقته ويعرفه بها، ، ويجب أن يعمل لخدمة المجتمع ولا يكون وجوده مرتبطاً بكمية أو حجم المساعدة التي تقدمها له القوى الخارجية.
فالإنسان يكسب قيمته بوجوده ضمن مجتمعه والتوحد مع حقيقته، ومن دون ذلك لا يمكن أن يكون للإنسان أية قيمة. لهذا السبب ينبغي على تلك المجموعات الكردية الوصول إلى هذه الحقيقة، والابتعاد عن النهج المعادي للوطنية والعودة إلى حقيقتها الوطنية، والإصغاء إلى مطالب الشعب والمجتمع والقيام بإجراء بعض التصحيحات، واستنباط الدروس من التاريخ.[1]