إقليم غرب كوردستان و الإنتفاضة السورية 1-2
د. مهدي كاكه يي
في هذه المقالة أتناول الظروف الموضوعية العالمية و الإقليمية التي تؤثر على القضية الكوردستانية، بالطبع ستؤثر على الكوردستانيين في إقليم غرب كوردستان، ليتمكن المرء من رسم خارطة طريق للعمل الكوردستاني في الإقليم المذكور و تحديد موقف الكوردستانيين في الإقليم من الإنتفاضة القائمة فيه و في سوريا و التي سيكون موضوع حديثي في المقالة الثانية لتقديم رؤى واقعية قد تساهم مساهمة متواضعة في مساعدة شعب كوردستان، المسلوب وطنه و هويته، في تحقيق حريته و أهدافه بعد معاناة و كوارث و مصائب لفترة طويلة، تهدد وجوده.
التغييرات التي تجتاح المنطقة لا تنحصر في الشرق الأوسط و شمال أفريقيا، بل أن النظام الرأسمالي كنظام سياسي و إقتصادي يواجه تحديات مصيرية بعد عجزه عن مجاراة العولمة و الثورة التكنولوجية و عدم قدرته لحد الآن على التفاعل مع التغيّرات الحياتية التي حدثت على كوكبنا الأرضي خلال السنين الأخيرة و التي يمكن القول بأنها بدأت مع زوال فترة الحرب الباردة و قيادة الولايات المتحدة للعالم. نتيجة تخلف النظام الرأسمالي بصورته الحالية عن القدرة على الإستمرار في المحافظة على رفاهية سكان الدول الصناعية و المستوى االعالي لمعيشتهم، إضطرت حكومات هذه الدول الى الإستدانة للحفاظ على رفاهية شعوبها و التي يمكن تشبيهها بحبوب مهدئة للآلام التي يلجأ المريض إليها للتخلص مؤقتاً من الآلام التي يعاني منها الى أن يتم تشخيص مرضه و من ثم علاجه.
العولمة أثرت بشكل سلبي على إقتصاد السوق الذي يتبناه النظام الرأسمالي، حيث تظهر تأثيراتها و إنعكاساتها على الدول الصناعية الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية و دول الإتحاد الأوروبي و الصين و اليابان. بالنسبة الى الولايات المتحدة الأمريكية فأنها في السنين السابقة إستطاعت المحافظة على إزدهار إقتصادها المبني على الإئتمان و الإستهلاك من خلال تقديم تسهيلات في مجال القروض و خاصة في القطاع العقاري. هذه السياسة الإقتصادية أدت الى إفلاس الكثير من البنوك الأمريكية بسبب عجز المقترضين من الإيفاء بدفع ديونهم و التي أجبرت الحكومة الأمريكية الفيدرالية الى التدخل في مساعدة البنوك المنهارة و التي كانت تواجه مشاكل إقتصادية كبيرة. هذه الخطوة قادت الى زيادة ديون الحكومة الأمريكية و تجاوزها 14.3 تريليون دولار (14300 مليار دولار) التي هي سقف الديون الأمريكية و التي بدورها تسببت في تخفيض تصنيف ديون الحكومة الأمريكية من الممتاز الى درجة أدنى. هذه المشكلة الإقتصادية الأمريكية قادت الى تراجع النمو الإقتصادي و زيادة نسبة البطالة و خفض الإستهلاك و الخدمات لمواجهة هذه التحديات الإقتصادية التي تواجهها البلاد. نفس الشئ بالنسبة لدول الإتحاد الأوروبي، حيث أن برامج الرفاهية الموضوعة في الإتحاد الأوروبي تسببت في تراكم الديون الحكومية، كما هو الحال بالنسبة لحكومات كل من اليونان و إيرلندا ايطاليا و إسبانيا و البرتغال. تراكم ديون طائلة لحكومات هذه الدول أرغمتها على إتباع سياسة التقشف و بالتالي زيادة معدلات البطالة و خفض مستويات الخدمات و النمو الإقتصادي البطئ أو الركود الإقتصادي بشكل كامل. بالنسبة الى العملاقَين الإقتصاديين، الصين و اليابان، فأن إقتصاد الصين مبني على زيادة التصدير و تخفيض قيمة العُملة و التقليل من الإستهلاك. كما أسلفنا، فأن الولايات المتحدة و دول الإتحاد الأوروبي، التي تُشكّل أسواقاً رئيسية للمنتجات و السلع الصينية، تعاني من مشاكل إقتصادية خطيرة التي تضطرها الى تخفيض إستيرادها من المنتوجات و السلع الخارجية و بذلك تخسر الصين أسواقها الرائجة في أمريكا و أوروبا و لهذا السبب فأنها لا تستطيع الإستمرار في نموها الإقتصادي المتنامي و ستواجه هي بدورها مشاكل إقتصادية كبيرة تُرغمها على تغيير خططها الإقتصادية و التقشف و كما أن نسبة البطالة تزداد بين الشعب الصيني و تتدهور الخدمات المقدمة له. يمكن قول الشئ نفسه بالنسبة الى اليابان، حيث تتراجع صادراتها الى الولايات المتحدة الأمريكية و دول الإتحاد الأوروبي، بل أن الإقتصاد العالمي يمر بمنعطف خطير و الذي يجعل كافة دول العالم أن يضطر الى التقشف و تخفيض وارداتها الخارجية و التي بدورها تساهم في زيادة المشاكل الإقتصادية للدول الصناعية. المشكلة الإقتصادية العالمية ناتجة عن عدم قدرة النظام الرأسمالي الحالي لتلبية متطلبات و حاجات الشعوب و الأفراد نتيجة التطورات العالمية الكبرى و السريعة الحاصلة. إقتصاد العالم بأسره مرتبط بشكل وثيق بإقتصاد الدول الرأسمالية العالم لذلك فأن الإقتصاد العالمي بأسره يواجه تحديات كبرى تحتاج الى الحل الجذري و إيجاد نظام إقتصادي جديد قادر على مواكبة الحياة و التواصل مع الحياة الجديدة على كوكبنا. كوردستان جزء من عالمنا و عليه ستتأثر بهذا الأمر و يجب أن لا يغيب هذه الوقائع عن تفكير القيادات الكوردستانية و المخططين لمستقبل شعب كوردستان.
الإنتفاضة الكوردستانية في إقليم غرب كوردستان هي نتاج طبيعي للعولمة والتطورات الثورية في وسائل الإتصال و نقل المعلومات. إن الإنتفاضات و الثورات التي تكتسح الدول ذات الأنظمة الدكتاتورية و الشمولية و الفاسدة ستستمر الى أن تتم الإطاحة بالأنظمة الإستبدادية المتخلفة. هذه الإنتفاضات و الثورات الشعبية تحصل في مجتمعات متأخرة، عاشت في ظل أنظمة قمعية حالت دون تطور هذه المجتمعات فكرياً و إجتماعياً و إقتصادياً و سياسياً بصورة طبيعية لتتحول من مجتمعات أبوية رجالية زراعية قبلية متخلفة الى مجتمعات صناعية تتساوى فيها المرأة و الرجل و تحكمها القوانين بدلاً من الأعراف و التقاليد و تجتاز المرحلة الإقطاعية و العشائرية الى حيث مجتمعات منفتحة، و تؤسس أنظمة حكم ديمقراطية، تقبل الآخر المختلف و تنبذ إستخدام العنف و الإرهاب و الكراهية. إن الأنظمة الشمولية التي حكمت هذه الشعوب لم تكتفِ بإعاقة تطور الأفراد و المجتمعات التي رزحت تحت حكمها، بل حّرفت مسار التغّيرات الفكرية و الإجتماعية و الإقتصادية و السياسية لهذه المجتمعات و خلقتْ منها مجتمعات مريضة عنصرية، تلجأ الى العنف و الإرهاب و الكراهية في سبيل تحقيق أهدافها، بسبب الإضطهاد و الإرهاب و التعذيب و السجون التي تعرضتْ لها هذه المجتمعات و الحروب المدمرة التي أُرغمتْ على خوضها إرغاماً و معاناتها من الجهل و المرض و الجوع.
نتيجة البيئة السيئة و المرعبة التي نمت و ترعرعت فيها أجيال عديدة من هذه المجتمعات و المعاناة التي عاشوا في ظلها، فأن هذه المجتمعات تحتاج الى أجيال عديدة لتصبح مجتمعات سليمة تتعافى من أمراضها الإجتماعية لتصبح مؤهلة للبدء بمسيرتها التطورية الطبيعية للعمل على تحقيق التقدم و الرُقي و للتمكن من التفاعل و التلاقح مع المجتمعات الراقية لتصبح جزءً من العالم المتحضر و المتقدم. عليه يجب أن لا ننتظر حدوث المعجزات بعد نجاح الإنتفاضات و الثورات في المنطقة و لا يمكن تغيير هذه المجتمعات المريضة الى مجتمعات سليمة خلال بضعة أشهر أو بضع سنين. نتيجة الإرهاب و الظلم و الحروب و الحكم الشمولي و الكبت و الحرمان، فأن هذه المجتمعات تحتاج الى فترة نقاهة تمتد لعدة أجيال للتخلص من أمراضها. إن تغيير هذه المجتمعات إيجابياً يتم فقط في حالة توفر ظروف طبيعية لهذه المجتمعات لإستعادة وعيها و إرادتها و عافيتها، و إلا ستستمر عائشة في ظلام التأخر و التخلف.
مما سبق يمكن للمرء أن يُكوّن لنفسه تصوراً واقعياً عن الحياة السياسية لهذه المجتمعات التي تُزيح الأنظمة الكتاتورية و الشمولية. قد يحاول العسكر السيطرة على مقاليد الحكم في تلك الدول لتثبيت الإستقرار فيها، إلا أن الحياة قد تغيّرتْ على كوكبنا و لا يمكن للجنرالات حكم الشعوب بإستخدام القوة و سيفشلون في مسعاهم مهما لجؤوا الى البطش و القوة و تجارب الإنتفاضات المصرية و الليبية و السورية تشهد على ذلك. قد يحاول السياسيون الكلاسيكيون من سرقة الثورات الشعبية، إلا أنهم عاجزون عن تحقيق ذلك لإفتقارهم الى مؤهلات تتيح لهم التفاعل مع التغيّرات الكبرى التي حدثت على كوكبنا الأرضي. الشباب القائمون بالثورة بدورهم هم جزء من هذه المجتمعات المتخلفة و تنقصهم الخبرة السياسية و متفرقون الى مجموعات متنافرة غير قادرة على التوافق و التوحد و بذلك فأنهم غير مؤهلين لقيادة هذه المجتمعات و حكمها بنجاح.
يكاد يكون كل دولة من دول المنطقة متكونة من مزيج من شعوب و قوميات و أصحاب ديانات و مذاهب متافرة فيما بينها بسبب إنفراد فئة معينة، سواء كانت مجموعة قومية أو دينية أو مذهبية، بالحكم في هذه الدول لفترات طويلة و إضطهاد و محاولة إلغاء الشعوب و القوميات و الأديان و المذاهب الأخرى. على سبيل المثال، يعيش في سوريا، القوميات العربية و الكوردية و الأرمنية و الشركسية و السريانية و التركمانية، دينياً حيث يعيش هناك المسلمون و المسيحيون و العلويون و الدروز و الإيزيديون و مذهبياً، حيث السُنة و الشيعة. المشكلة هي أنه بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى تمت إنشاء كيانات سياسية مصطنعة في الشرق الأوسط، من بينها سوريا، حسب إتفاق سايكس – بيكو و بموجبها أُجبرت و حُشرتْ مجموعات عرقية و دينية و مذهبية، بخلاف إرادتها و لا تجمعها بالبعض سوى الجغرافية، في كيانات سياسية لم تتم إتاحة الفرصة لأصحابها لتتفاعل بعضها مع البعض لتكوين ثقافة موحدة و إيجاد مصالح و أهداف مشتركة تجمع هذه المجموعات البشرية و توحدها و تجعلها تشعر بالإنتماء الى هذه الكيانات السياسية الجديدة و قبول العيش المشترك. التنوع العرقي و الديني و المذهبي سيكون من أهم العوامل التي تخلق عدم الإستقرار في الدول التي تنهار فيها الأنظمة الشمولية الإستبدادية بسبب تطلع الشعوب و القوميات و أصحاب الديانات و المذاهب نحو الحرية و التمتع بحقوقها، حيث أن هويتها و وجودها تعرضتا للإلغاء و الإنكار من قِبل الحكومات الدكتاتورية العنصرية. إنها كانت محرومة من حقوقها القومية و الثقافية و الدينية و المذهبية و لذلك كانت تعيش مع البعض ضمن هذه الكيانات السياسية بالقوة و الإكراه. الآن يختفي جبروت الحكومات الشمولية فتكسر هذه الشعوب و القوميات و الأديان و المذاهب قيودها و تناضل من أجل التمتع بحريتها و حقوقها التي كانت محرومة منها منذ أن أصبحت جزء من شعوب هذه الدول الجديدة التي ظهرت في المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى.
الثقة المفقودة بين هذه المجتمعات العرقية و الدينية و المذهبية و تأخر المجتمعات في الدول النامية تجعلان الإستمرار في العيش المشترك لهذه المجتمعات المتنافرة أمراً مستحيلاً في الوقت الحاظر و في المستقبل المنظور. كما أن التركة الثقيلة التي تتركها الحكومات الشمولية بعد إنهيارها من تفشي الأُمية و الفقر و المرض و البطالة في هذه البلدان الى جانب الأمراض الإجتماعية، تجعل مُهمة الحكومات، التي تحلّ محل الحكومات المستبدة صعبة جداً و تواجه مصاعب كبيرة جداً في سعيها لتطوير هذه المجتمعات و الإرتقاء بها. العراق هو النموذج لكل الدول التي تُطاح بحكوماتها من قِبل الثورات و الإنتفاضات القائمة في المنطقة، حيث أنه منذ تخليصه من حكم البعثيين قبل أكثر ثمانية أعوام، لا زال يعيش في فوضى سياسية و يُتوقع أن تصبح الأوضاع فيه أسوء من الآن بكثير بعد مغادرة القوات الأمريكية للعراق، و عندئذ ستزداد التدخلات الإقليمية في شئونه الداخلية و يصبح مُرشّحاً لقيام حرب أهلية طاحنة فيه بين العرب و الكوردستانيين و السُنة و الشيعة الى أن تنبثق منه ثلاث دول جديدة. نتيجة إصطناعية دول المنطقة و تماسكها بالقوة و الإكراه و فقدان الثقة بين مكوناتها و تأخر سكانها، فأن إحدى نتائج الثورات و الإنتفاضات السائدة في المنطقة هي تغيّر الخارطة السياسية و الجغرافية لمنطقة الشرق الأوسط و إعادة تكوين كيانات سياسية على أسس قومية و دينية و مذهبية.
mahdi_kakei@hotmail.com
[1]