إقليم غرب كوردستان و الإنتفاضة السورية 2-2(تنظيم البيت الكوردستاني و المشاركة في الإنتفاضة)
د. مهدي كاكه يي
في المقالة السابقة إستعرضتُ التحديات الإقتصادية التي يواجهها النظام الرأسمالي و التي تُحدد أيضاً سياسة الدول الغربية و إستراتيجياتها، بل أن العالم بأجمعه يتأثر بالأزمة الإقتصادية الرأسمالية و يُرغمه على تغيير سياساته و إستراتيجياته و خططه و أساليب عمله للحفاظ على مصالحه و تحقيق أهدافه. هذا يعني بأن أزمة النظام الرأسمالي هي عقبة كبيرة أمام قدرة الدول الرأسمالية، و خاصة الدول الكبرى التي تتحكم بالعالم، على الإستمرار في خططها في تحديد السياسة العالمية و تنفيذ ما ترغب به. خلاصة القول أن إمكانية و فرص تحكم الغرب بالعالم قد تقلصت بسبب الأزمة الإقتصادية التي تعصف بهذه الدول. كما تحدثتُ عن حشر المجموعات العرقية و الدينية و المذهبية في المنطقة في كيانات سياسية ظهرت بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى، بالإضافة الى إحداث خلل في الخارطة السياسية لمنطقة الشرق الأوسط و شمال أفريقيا المتسببة عن فرض واقع جديد عن طريق الحروب و اللجوء الى القوة، سواء قبل أو بعد الحرب العالمية الأولى، على سبيل المثال، إيران التي شعوبها عبارة عن خليط من القوميات و الأديان و المذاهب المتنافرة المحشورة في كيان سياسي واحد بالقوة و الإكراه. أشرتُ في المقالة السابقة أيضاً الى تخلف شعوب المنطقة فكرياً و إجتماعياً و إقتصادياً و سياسياً بسبب عيشها في ظل حكومات شمولية متوحشة، لا تعرف غير لغة القتل و الإرهاب و زج شعوبها في متاهات الحروب العبثية التي لم تكن للشعوب فيها مصلحة تُذكر. هذه الأنظمة خلقت أجيالاً سقيمة ذات فكر شمولي عنصري عدواني.
من أعلاه يُفهم بأن المشكلة لا تنتهي بمجرد إختفاء الطغاة من المسرح السياسي، فالمشكلة في سوريا الأن غير متعلقة بحكم العلويين من خلال واجهة عائلة الأسد و حزب البعث، بل كل من يتسلم الحكم بعد زوال النظام القائم في سوريا سيكون عنصرياً مذهبياً بحُكم تربيته و المحيط المكوّن له. حتى لو فرضنا إستلام الحكم في سوريا من قِبل أشخاص ديمقراطيين، فأن المشكلة ستبقى باقية و هؤلاء الأشخاص سيفشلون في تحقيق التغيير، لأن المسألة لا تتعلق بالأشخاص، بل تتعلق بالمجتمعات السورية، حيث أن التغيّرات الإجتماعية هي تغيّرات بطيئة جداً تستغرق أجيالاً عديدة و لا يمكن تغيير الواقع من خلال تخطي مراحل التطور الفكري و الإجتماعي، بحيث لا تتحكم العادات و التقاليد و العلاقات البالية بالمجتمعات البشرية. لا أريد هنا الإطالة و تصفّح كتب التأريخ، إلا أننا يمكن أن نستدل بوضوح أن حركة مسار التطور الإجتماعي بطيئة جداً من خلال النظر الى مجتمعات الشرق الأوسط و شمال أفريقيا و غيرها من المناطق، حيث بعد أكثر من 1400 سنة من إحتلال المنطقة من قِبل العرب البدو القادمين من الجزيرة العربية، لا تزال العادات و التقاليد البدوية، مثل القبلية و الثأر و الإنتقام و العنف و الغزو و الفكر الشمولي، تتحكم في هذه المجتمعات و تحدد نمط حياتها. عليه، بغض النظر عن التدخل التركي في محاولة منه لتحديد مستقبل النظام القادم في سوريا، فأن المعارضة العربية السورية هي مشبعّة بالفكر العنصري المتعجرف و لذلك على الكوردستانيين في إقليم غرب كوردستان أن لا يتفاجأوا من المواقف العنصرية و الإستعلائية الفارغة للمعارضة العربية السورية. على الكوردستانيين أن لا ينخدعوا بما تقوله قوى المعارضة السورية حتى لو إدعتْ بأنها تؤيد تمتع الكوردستانيين في الإقليم الغربي بحقوقهم، حيث ستكون تلك الإدعاءات مجرد تكتيك مرحلي إلى أن تسيطر هذه القوى على الحكم و تُعزز سلطتها و بعدها ستتنصل من كل وعودها و تجربة النظام العراقي الحالي و موقفه من الشعب الكوردستاني خير مثال على ما أقول، حيث النظام العراقي، رغم الفوضى التي تعيشها البلاد و فقدان وجود حكومة حقيقية في بغداد و أن الحكومة عبارة عن قوى متنافرة و متصارعة، فأنه يتنصل من كل إلتزاماته و عهوده مع الكوردستانيين في جنوب كوردستان، بل يحاول تغيير الدستور العراقي و إلغاء النظام الفدرالي و إلغاء صلاحيات الإقليم و تأسيس نظام حكم مركزي دكتاتوري يُقرر مصير الكوردستانيين و يستعبدهم من جديد.
لو تصفحنا تأريخ الكوردستانيين سنكتشف بأنهم عبر تأريخهم الطويل كانوا دائماً متخلفين عن التواصل مع المستجدات السياسية و مفتقرين الى روح المبادرة و إستباق الأحداث و إتخاذ القرارات في الأوقات التي يجب القيام بها، لذلك بقوا متخلفين عن اللحاق بالأحداث و إنتهاز الفرص لإستغلالها في سبيل تحقيق حريتهم و التمتع بحقوقهم كالشعوب الأخرى التي تعيش على كوكبنا. عليه فأن الواجب الوطني يستدعي أن لا يبقى الكوردستانيون متفرجين على الأحداث الجارية في الإقليم و سوريا و التي ستقرر مصيرهم و تحدد مستقبلهم، بل يكونون سبّاقين للتفاعل مع هذه الأحداث لتغيير مسارها لتصب في مصلحة الشعب الكوردستاني.
يجب أن يطمئن الكوردستانيون في غرب كوردستان الى أن تركيا عاجزة عن تحديد مسار التغييرات السياسية في سوريا و النظام القادم فيها، حيث أن الدول الكبرى، و في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت مذهولة أمام التطورات الحاصلة في المنطقة و قد تستطيع التحكم بتوقيت التغييرات على المدى القصير، إلا أنها ستكون غير قادرة على تحديد نوع الحكم و التطورات الداخلية لهذه الدول و توجيه الجماهير الثائرة كما تشاء، لأن مشاكل هذه الدول شائكة و معقدة، تتحكم بها عوامل إجتماعية و إقتصادية و سياسية و قومية و دينية و مذهبية التي تحتاج الى فترة زمنية طويلة جداً للتعامل معها و حل هذه المشاكل لتصبح الظروف طبيعية فيها. إذا كانت الدول الكبرى تكاد تعجز عن تقرير مصير المنطقة، فكيف تتسنى لتركيا، كدولة متأخرة تعاني في الوقت نفسه من الحرب التي أعلنتها ضد الشعب الكوردستاني و من إقتصاد متدهور، أن تفرض إرادتها في سوريا. إن تركيا تعيش في وهم العظمة و لذلك ترسم لنفسها أدواراً تعجيزية لا يمكنها إداؤها. كما أن التغيّرات التي تشهدها المنطقة ستنتقل الى عقر دار تركيا نفسها و حينئذ تضطر الى اللجوء الى إتخاذ موقع الدفاع، بدلاً من الهجوم الذي يحاول تأديته في الوقت الحاضر. لذلك فأن قدرات و إمكانيات تركيا و الظروف السياسية و الإقتصادية لها لا تؤهلها أن تلعب دوراً رئيسياً في تحديد النظام السياسي القادم في سوريا و تحجيم دور الكوردستانيين في الإقليم الغربي و منعهم من تحقيق حريتهم و أهدافهم.
على ضوء ما تقدم فأن العالم و المنطقة في طريقهما نحو تغيّر راديكالي تأريخي و التغيّرات الحاصلة ستؤثر على كافة الشعوب و الأفراد، بما فيها طبعاً شعب كوردستان. من هنا على شعب كوردستان أن يتهيأ ليكون له دور مؤثر في هذه التغييرات التأريخية الكبرى و إستغلال هذه الفرصة لتحقيق حريته و التمتع بحقوقه. هنا سأقتصر في كتابتي على غرب كوردستان التي هي موضوع حديثنا، و المقبلة على تطورات تأريخية من خلال الإنتفاضة القائمة في الإقليم و سوريا.
من أهم الأسباب التي جعلت الكوردستانيين يعجزون عن إقامة دولة لهم في وطنهم الى الآن، رغم عراقتهم و تضحياتهم الكبيرة، هو تفرّقهم و التحارب مع البعض و تغليب الأنانية الفردية و الروح القبلية و الحزبية الضيقة على مصالح الشعب الكوردستاني. لو توحّدت كلمة الكوردستانيين لكانوا الآن لهم دولتهم و لَكانوا يتجنبون المآسي و الأهوال التي تعرضوا لها خلال مسيرتهم الحياتية و النضالية و لَكانوا الآن أسياداً في بلادهم، بدلاً من أن يكونوا تابعين أذلاء للدول المحتلة لكوردستان. عليه فأن أهم شرط من شروط تحقيق أهداف الشعب الكوردستاني في الحرية و الكرامة هو وحدة الصف الكوردستاني. يجب على الكوردستانيين إنتهاز هذه الفرصة التأريخية بكل قدراتهم و إمكانياتهم لتحقيق حلمهم في الحرية و تقرير المصير، حيث يمر العالم و المنطقة بتغيّرات كبرى التي يجب إستغلالها. لذلك فأن الواجب الوطني يُحتّم على الكوردستانيين أن يوحدوا كلمتهم و صفوفهم و ينظموا البيت الكوردستاني لتأهيل أنفسهم للتمكن من تحقيق أهدافهم. ينبغي أن يتم التحضير لعقد مؤتمر للكوردستانيين في إقليم غرب كوردستان بسرعة، من خلال دعوة جميع الأحزاب الكوردستانية و منظمات المجتمع المدني و الشخصيات الوطنية إليه لتأسيس مجلس وطني كوردستاني يُمثل كافة الأطراف السياسية و المنظمات و الشخصيات في الإقليم ليكون مرجعية سياسية تُحدد أهداف الكوردستانيين في الإقليم و ترسم إستراتيجية و تكتيكات الإقليم و تحدد الوسائل و الأليات التي سيتم إستخدامها لضمان تحقيق الأهداف المحددة. كما أن التنظيمات السياسية في الإقليم كثيرة جداً و وجود هذه الأعداد الكبيرة من الأحزاب غير مبرر أيديولوجياً و هذا التشتت لا يخدم القضية الكوردستانية. لذلك أقترح أن يتم العمل خلال المؤتمر المقترح عقده على دمج أو إتحاد الأحزاب القريبة فكرياً و برامجياً بحيث تنبثق منها عدة أحزاب سياسية. الكوردستانيون يعيشون في مرحلة التحرر الوطني و يرزحون تحت نير الإحتلال و الإستعمار الإستيطاني و عليه فأن كافة الأطراف يجب أن تضع هدف التحرر و المصلحة الوطنية الكوردستانية فوق المصالح الشخصية و الحزبية و الإعتبارات الأيديولوجية، حيث أن الوجود الكوردستاني هو مُستهدَف في الوقت الحاضر و بفقدان هذا الوجود ستختفي كل هذه الأحزاب. يمكن تشبيه كوردستان بباخرة تعصف بها أمواج البحر و العواصف و تشبيه الأحزاب الكوردستانية برُكاب الباخرة، حيث إذا غرقت الباخرة سيغرق ركابها معها. عليه فأن مصير و وجود كافة الأحزاب مرتبطان بمصير و وجود كوردستان و لذلك يجب نبذ الخلافات الفكرية و الشخصية و تبنّي النظام الديمقراطي و إحترام إرادة شعب كوردستان في تقرير مصيره و إختيار حُكّامه، حيث بعد التحرر الوطني فأن الشعب يختار ممثليه عبر صناديق الإقتراع في إنتخابات نزيهة و شفافة تُشرف على إجرائها هيئات تابعة للأمم المتحدة و ممثلين لمنظمات دولية محايدة.
ينبغي على الكودستانيين في غرب كوردستان أن يأخذوا الدروس و العِبر من أخطاء القيادات الكوردستانية في إقليم جنوب كوردستان. من أخطاء الكوردستانيين الجنوبيين هي إفتقارهم لمجلس إستشاري، لذلك ينبغي أن يتم تشكيل مجلس إستشاري مؤلف من العلماء و الباحثيين و الأكاديميين و الخبراء الوطنيين في مختلف مجالات الحياة و تشكيل هيئات إقتصادية و سياسية و ثقافية و تربوية و عسكرية و بيئية و صناعية و زراعية و غيرها ضمن المجلس الإستشاري أو يمكن تسميته بمجلس الأمن الوطني الكوردستاني في الإقليم للقيام بدراسات و بحوث و ترفع توصيات للقيادة السياسية الكوردستانية لتتمكن هذه من وضع خطط و إستراتجيات الإقليم على ضوء تلك التوصيات لتجنب الأخطاء و الإرتجالية في وضع الخطط و في إتخاذ القرارات. ينبغي أن يتم إختيار أعضاء المجلس المذكور إستناداً الى الكفاءة و الخبرة و الإختصاص والوطنية، بعيداً عن الإعتبارات الشخصية و الحزبية.
يحكم حزب البعث سوريا منذ أكثر من 48 سنة ، و عائلة الأسد يحكم سوريا بإسم حزب البعث منذ حوالي 41 عاماً و هذا يعني بأن النظام قد قام بتثبيت حكمه خلال هذه الفترة الطويلة و بناء حكومة مركزية قمعية. لذلك فأن زوال هذا النظام سيكون لصالح شعب كوردستان لأن أية حكومة تستلم الحكم بعد الإطاحة بالنظام السوري الحالي، ستكون حكومة ضعيفة غير قادرة على تأسيس حكومة مركزية قوية و هذا سيكون لصالح الكوردستانيين و كافة المكونات السورية المضطهَدة. بعد زوال حكم عائلة الأسد، ستدخل البلاد في حالة فوضى و التي ستستمر لفترة زمنية طويلة. في حالة تشكيل حكومة تجمع المكونات القومية و الدينية و الطائفية في البلاد، على غرار الحكومة العراقية الحالية، ستكون الحكومة حينذاك متكونة من أطراف قومية و دينية و مذهبية متنافرة و غير منسجمة، تنعدم الثقة بينها و عليه ستكون حكومة ذات أعضاء متناحرة، تفتقد الى التعاون و و التوافق و الإنسجام، حيث كل فريق سيحاول الإنقضاض على الحكم و الإستئثار به. أما إذا حاول مكوّن ما السيطرة على الحكم و الإنفراد به، فأنه عندئذ ستندلع حرب أهلية طاحنة بين المكونات الأساسية (العرب و الكورد و المسيحيون و العرب السُنة و العلويون). لذلك يجب على الكوردستانيين في الإقليم دعم الإنتفاضة السورية بقوة و المساهمة الفعالة فيها للتخلص من هذا النظام الشمولي العنصري.
بسبب المتغيرات الكبيرة الحاصلة في حياة البشرية و في المنطقة، سيكون من المستحيل أن ينجح طرف واحد، على سبيل المثال الإخوان المسلمون، من السيطرة على مقاليد الحكم لوحدها، كما أن العلويين و عائلة الأسد، بمخابراتها و رجال أمنها و عسكرها سوف لا يستسلمون للأمر الواقع بسهولة بعد فقدانهم لسلطتهم و سيحملون السلاح ضد الحكومة الجديدة و يقومون بالتخريب و الإغتيالات و التفجيرات في محاولة يائسة لإرجاع عجلة التأريخ الى الوراء و إستعادة سلطتهم المفقودة. في كل الحالات فأن الوضع الأمني السوري بعد إنهيار النظام الحالي سيكون غير مستقر و تسوده الفوضى خلال سنين طويلة. غياب سلطة مركزية قوية في سوريا هو لمصلحة شعب كوردستان و كافة القوميات و الطوائف المُضطهَدة في سوريا. لذلك فأن إلتزام جانب الحياد و التفرّج على ما يجري من أحداث في سوريا من قِبل الكوردستانيين لا يصب في مصلحة شعب كوردستان، بل يجب إنتهاز هذه الفرصة التأريخية من خلال المساهمة الفعالة في الثورة الشعبية السورية ليُشكل الكوردستانيون الطرف الأكثر قوة بعد زوال الحكم الحالي و يفرضون أنفسهم على الواقع الجديد و يحققون حقهم في تقرير مصيرهم بأنفسهم دون وصاية المحتلين و الغرباء.
كنتُ أعتقد بأنني سأنتهي من الكتابة حول إقليم غرب كوردستان و الإنتفاضة السورية من خلال مقالتَين إثنتَين فقط، إلا أنه نظراً لأهمية الموضوع و نتيجة التطورات الجارية في كل من الإقليم و سوريا، إرتأيتُ أن أستمر في الكتابة حول الموضوع لتناول الموضوع بشكل متكامل و طرح آرائي و وجهات نظري حوله. كما أنني أؤكد هنا على ضرورة مناقشة الموضوع و نقد طروحاتي بجدية و علمية من قِبل المثقفين و الكُتّاب و السياسيين لإغنائه، خدمةً للشعب الكوردستاني و التي ستكون بدورها خدمةً للإنسانية جمعاء.
mahdi_kakei@hotmail.com
[1]