السبي الآشوري لليهود (3)
مهدي كاكه يي
الحوار المتمدن-العدد: 6105 - 2019-01-05 - 23:08
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
في الحلقة السابقة، تمّ الحديث عن الهجمات العسكرية التي قام بها الملِك الآشوري (شلمنصر الثالث) على مملكة إسرائيل. في هذه الحلقة نواصل الحديث عن الحملات العسكرية التي قام بها خلفاء هذا الملِك ضد مملكة إسرائيل.
(أداد نيراري الثالث) (810-781 ق.م.)
بعد إستلام الحُكم في آشور من قِبل هذا الملِك الذي هو حفيد (شلمنصر الثالث)، قام بالهجوم على سوريا، حيث أنّه جاء في النقوشات التي تركها هذا الملِك أنه هاجم دمشق، وإحتلّ القصر الملكي، فخرَّ أمامه ملِك دمشق. يذكر الدكتور (جون ألدر) بهذا الصدد أنه جاء في هذه النقوشات على لِسان (أدّاد نيراري الثالث) ما يلي: {زحفتُ على (سمير سوس) وحاصرتُ (ماري) ملك دمشق، مدينته عاصمة مُلكِه، وقد بهره سيدي (آشور) الرهيب، فسقط على وجهِهِ، وأمسك بِقدمَي كَعبدٍ ذليل، فإحتلتُ قصرَه في دمشق، وتقبّلتُ منه (2300) وزنة من الفضّة التي تُعادِل (20) وزنة من الذهب، و (5) آلاف وزنة من الحديد وثياب من الكتّان، بِحَواشي ذات ألوان مُتعددة، وسرير مُطعَّم بِالعاج، وأشياء كثيرة}(1).
كما يذكر المطران (يوسف الدبس) أن (أداد نيراري الثالث) غزا مملكة آرام وأرض فلسطين ونقشَ على جدار بلاطه ما يلي: {بِلاط (أداد نيراري الثالث) الملِك العظيم، الملِك القدير، ملِك الشعوب، ملِك أرض آشور، الملِك الذي إتّخذه (آشور) ملِك الآلهة السبعة إبناً له.. ومن جهة الفرات الأخرى، أُخضعتُ أرض الحثي (الهيتيين) وأرض أهادي (أو أحاري أي شواطئ البحر الأبيض المتوسط) على إتّساعها، صور وصيدا، وأرض عمري (مملكة إسرائيل) وبلاد الفلسطينيين حتى البحر الكبير في مغرب الشمس (البحر الأبيض المتوسط) وإفترضتُ عليهم جزية، وغشيتُ أيضاً أرض إيميروسر (سوريا دمشق) لِمحاربة (ريحا) ملِك أرض (إيميروسو) وحصرتُه في (دمشق) عاصمة مُلكه، ودوَّخَتهُ مهابة عظمة (آشور) سيّدي، فترامى على قدميَّ وجاهرَ بِذلّتِه وخضوعه، فأخذتُ منه (2300) وزنة فضة..}[2].
إسم هذا الملِك الآشوري غير مذكور في الكتاب المقدس، إلا أنّ الأحداث المدوّنة في سفر الملوك الثاني تُشير الى وجوده ونفوذه، حيث أنّه ساهم في تقليل نفوذ مملكة آرام على مملكة إسرائيل في أيام ملِكها (يهوآحاز) الذي فضّل أن يخضع شعب إسرائيل إسمياً لسيادة الدولة الآشورية بدلاً من الخضوع لِمملكة آرام التي كانت تضطهِده، حيث جاء في الكتاب المُقدس أن الملِك الآشوري (رمّون نيراري) كان هو المخلص الذي أعطاه الربّ لإسرائيل فخرجوا من تحت يد الأراميين (2مل13: 5 و 23).
تغلث پلاسر الثالث (745 – 726 ق.م.)
بعد وفاة الملِك الآشوري (أداد نيراري الثالث) في سنة 781 قبل الميلاد، مرّت آشور بِفترة من الضُعف، بينما أصبحتْ مملكة إسرائيل خلال حُكم ملِكها (يربعام الثاني) ومملكة (يهوذا) في عهد ملِكها (عزيا)، في أوج قوتهما.
في سنة 745 قبل الميلاد، إغتصب رجلٌ إسمه (فول) عرش آشور وأطلقَ على نفسه إسم (تغلث پلاسر الثالث) وحكمَ بهذا الإسم. الكِتاب المُقدّس يذكره بإسم (فول) (2مل15: 19، 1أخ5: 26)، ولكن في الآثار الأشورية، يتم ذكره بإسم (تغلث پلاسر الثالث). من الجدير بالذكر أنّ كلمة (فول) باللغة الآشورية تعني (قوي).
كان (تغلث پلاسر الثالث) مِن أعظم الملوك في التاريخ، فكان أول مَن حاول تكوين إمبراطورية مترامية الأطراف، حيث أنّه لم يكتفِ بالحصول على الجزية من الملوك والولاة الذين هزمهم، بل قام بِضمّ البلدان التي غزاها وجعلها ولايات تابِعة لإمبراطوريته وعيّن عليها مرازبة (ولاة) آشوريين، يجمعون الجزية لِخزينة الإمبراطورية الآشورية.
كما أنّ (تغلث پلاسر الثالث) كان مقاتلاً شديد البأس، فتوجهت إهتماماته نحو الغزوات الخارجية، حيث يقول في إحدى كتاباته التي تمّ العثور عليها في آثار آشور: (أنا هو الملِك الذي هزمتُ أعدائي من مشرق الشمس إلى مغربها، ودوَّختُ البلاد، ودانت لي القبائل، وحكمتُ في رجال الجبال والسهول، وخلعتُ الملوك، وأقمتُ نوّابي مكانهم(2). كما أنه دُعي (تغلث پلاسر الثالث) ملِكاً لآشور وكذلك لِبابل، فجاء في آثاره: (بلاط تغلث پلاسر، الملِك العظيم، الملِك القدير، ملِك القبائل، ملِك آشور، ملِك بابل، ملِك سومير(3).
كان (تغلث پلاسر الثالث) يقوم بِتقسيم المنطقة التي يحتلها إلى مُقاطعات لِتسهيل سيطرته عليها ولِحُكمها. إنّه إتّبع سياسة أسلافه الآشوريين في التعامل مع سُكّان البلدان التي كان يحتلها، فكان يقوم بِترحيل السكان الأصليين للشعوب المغلوبة والإتيان بِأناسٍ آخرين ليحلّوا محل سُكّان الشعوب الأصلية. سياسة الترحيل أوقعت الرُعب في قلوب الشعوب المغلوبة في المنطقة والتي ساعدت في كبح جِماح الثورات ضد الحُكم الآشوري.
لم تمر فترة طويلة على إستلام (تغلث پلاسر الثالث) الحُكم، حتى بدأ إهتمامه ينصبّ على غزو جارته الغربية، حيث أنّه في عهد الملِك الإسرائيلي (يربعام الثاني) (785 – 743 ق. م.) وهو الملِك الثالث المُنحدر من سُلالة (ياهو)، توسعت مملكة إسرائيل شمالاً على حساب الآراميين، إلاّ أنّ ذلك لم يستمر طويلاً، إذ أنه بعد جلوس (تغلث پلاسر الثالث) على عرش الإمبراطورية الآشورية، قام هذا الملِك بإيقاف هذا التوسع.
لقد إعتقد كلٌّ من (رصين) ملِك آرام و(فقح بن رمليا) ملِك إسرائيل أن (تغلث پلاسر الثالث) كان مشغولاً بِحملاته العسكرية، فتحالفا معاً، وهاجما (آحاز) ملِك يهوذا لأنه رفض الإنضمام إليهما. لذلك إستغاث الملِك (آحازين ياثوم)، ملِك (يهوذا) المُنشقّة عن مملكة إسرائيل، بالملِك الآشوري (تغلث پلاسر الثالث)، لتخليصه من هذين الملِكَين، ولبّى الملِك الآشوري نداءه، فقام في سنة 732 قبل الميلاد بِحملةٍ عسكرية كبيرة، حيث أنّه بعد حصاره لِ(أرفاد) الواقعة إلى الشمال من مدينة حلب، هاجمت قواته سوريا، فسيطرت على دمشق وثمّ توجّه نحو إسرائيل، فإستولى على معظم مدن إسرائيل. جاء في التوراة عن طلب المساعدة من قِبل ملِك يهوذا ما يلي: (وجّه الملِك (آحاز) رُسُلاً الى (تغلث پلاسر) ملِك آشور قائلاً: أنا عبدُكَ وإبنكَ، فإصعد وخلّصني من يد ملِك آرام ويد ملِك إسرائيل القائمَين عليَّ). جاء في كتابات (تغلث پلاسر الثالث) عن هذه الحملة العسكرية ما يلي: {قمتُ بِضمّ جميع مدن بيت عومري (إسرائيل) ولم أترك سوى مدينة (السامرة)، أخذتُ (نفتالي) بِأسرها، وضممتُها الى آشور وعهدتُ بِرجالي حُكّاماً عليها وجميع سُكّان (بيت عومري) وممتلكاتهم، حملتُها الى آشور}. من جهة أخرى، يُشير الكتاب المُقدس الى العواقب التي نتجت عن تحالف مملكة آرام ومملكة إسرائيل ومهاجمتهما لِمملكة يهوذا قائلاً: (جَاءَ تَغْلَثَ پَلاَسِرُ مَلِكُ أَشُّورَ وَأَخَذَ عُيُونَ وَآبَلَ بَيْتِ مَعْكَةَ وَيَانُوحَ وَقَادَشَ وَحَاصُورَ وَجِلْعَادَ وَالْجَلِيلَ وَكُلَّ أَرْضِ نَفْتَالِي، وَسَبَاهُمْ إِلَى أَشُّورَ) (2مل 15: 29).
أمّا الكتاب المقدَّس الدراسي، فأنه يسرد هذه الحملة العسكرية للملِك (تغلث پلاسر الثالث) كما يلي: {برهن الملِك (تغلث پلاسر) ملِك آشور على بأسه كقائد عسكري للحملات، إذ فرض في البداية الجزية على (مناحيم) ثم أضاف إليها حماه وفلسطين والجليل وجلعاد ودمشق آرام (838 - 732 ق.م.) في أثناء حكم الملِك (فقح). كانت المنطقتان الوحيدتان اللتان لم تطلْهُما المذبحة الشرسة للأسباط الشمالية هي وسط مملكة إسرائيل وعاصمة السامرة. كانت مملكة إسرائيل آنذاك أمة صغيرة دمّرتها الإنقسامات بين مؤيدين ومعارضين للآشوريين، والإغتيالات المتعددة، والنفاق، والكبرياء، والخوف}(4).
في حملةٍ عسكرية أخرى، أجبرَ الملِك الآشوري (تغلث پلاسر الثالث) الملِك الإسرائيلي (منحيم) وغيره من ملوك بلدان المنطقة على دفع الجزية، حيث يُشير الى ذلك سفر الملوك الثاني كما يلي: {فجاء (فول) ملِك أشور على الأرض، فأعطى (منحيم) لِ(فول) ألف وزنة من الفضّة لتكون يداه معه، ليثبت المملكة في يده. ووضع (منحيم) الفضة على إسرائيل على جميع جبابرة البأس، ليدفع لِملك أشور خمسين شاقل فضة عن كل رجل. فرجع ملِك أشور ولم يقُم في الأرض} (2مل15: 19 و20).
لقد قام بعض ملوك إسرائيل، بِدفع الجزية للإمبراطورية الآشورية، حتى يتّقوا شرها، حيث دفع الملِك الإسرائيلي (منحيم) جزية للملِك الآشوري (تغلث پلاسر الثالث)، كما جاء في الكتاب المُقدّس (2مل15: 19، 20). هذا الملِك الآشوري عاصر أربعة ملوك لإسرائيل هم (منحيم)و (فقحيا) و(فقح) و(هوشع) وهذا الملِك الأخير كان آخر ملوك إسرائيل.
هكذا أخضع الملك الآشوري (تغلث پلاسر الثالث) قسماً من مملكة إسرائيل لنفوذه. كان على رأس مَن سَباهم هم الأسباط العشرة لِمملكة إسرائيل، حيث قام الآشوريون بِترحيل اليهود الى كوردستان وتوزيعهم هناك في المناطق الجبلية، في أماكن منعزلة ومتفرقة. إتبع الآشوريون هذه السياسة في تشتيت أسراهم في أماكن متفرقة عديدة للحيلولة دون تكتّلهم وتجمّعهم وقطع الطريق أمامهم ليحاولوا العودة إلى الأماكن التي رحّلوا عنها(5).
المصادر
1. د. جون إلدر. الأحجار تتكلَّم. ترجمة: د. عزت زكي، مرجعة: د. داود رياض، دار النشر الأسقفية، الطبعة الرابعة، 2000، صفحة 108، 109.
2. المطران يوسف الدبس. تاريخ الشعوب المشرقية: في الدين والسياسة والإجتماع. الجزء الثاني، دار نظير عبود، 2000. صفحة 386.
3. المرجع السابق صفحة 396.
4. الكتاب المقدس الدراسي. صفحة 910.
5. الدكتور أحمد سوسة. اليهود العراقيون - لمحات تاريخية. مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 22 ، حزيران 1977، صفحة 104.[1]