الجغرافيّة المطعونة تاريخيّاً (مشاهدات وتداعيات) في بلديّة Qizil Tepe قزل تبه
هيثم حسين
الأرض تنبسط باتّجاه Qizil Tepe قزل تبه، مروراً بماردين الجديدة التي تتزيّا بالزيّ العصريّ، من بنايات مزركشة بأحجار ملوّنة ومدهونة بدهانات زاهية تتكلّم العصرنة والجِدّة، وبعدها سلْك الطريق الأوتستراديّ الذي يخلو منه طريق نصيبين إلى غيرها من المدن المجاورة.
في الحافلة التي أقلّتنا، كانت الموسيقا التركيّة تعلو من الراديو، يتخلّل كلّ بضع أغنيات تركيّة أغنية كرديّة ينطرب لها البعض، ويتهرّب من سماعها إلى التشاغل بالطريق أو بالموبايل بعضٌ آخر، ومن هذا البعض المنكّر المتنكّر لذاته هاربٌ من ماضيه ومن ذاته، لائذٌ بالحضارة وملحقاتها؛ الحضارة التي تعني لدى أولاء التنكّر لكلّ شيء غير متحضّر، وهذا بدوره، يعني الكرديّة التي هي صنو القرويّة المستنكَرة، والتي يشكّل التخلّص من ذنبها مأرباً مسعيّاً إليه من مترَّكين غسيلَ دماغٍ، لتكون اللغة التركيّة التي يتباهون بإتقانها أكثر من كثيرٍ من الأتراك مفخرة لهم وهم يحدّثون بها ذويهم، ومن يحدّثهم، ويفضّلونها لغة وحيدة لأطفالهم، لأنّها لغة العلم والمستقبل، كما أُوهموا ويُوهَمون..
في قزل تبه، كثير من الأقارب الذين أستطيع أن أزورهم، لا بل، وسأسعد إن أنا زرتهم، لأنّهم شكّلوا مواضيع حكايات كانت تروى لنا على سبيل التسلية – لنا - على لسان الجدّات، وعلى سبيل التأسية لهنّ، لأنّ بعض المذكورين كان بُعدهم غصصاً لهنّ، تشكّل قسم منهم أساطير في وعينا ولا وعينا، كنت على عتبات المواجهة مع ما روي لنا، كنت أتآكل فضولاً لمطابقة ما تأسطر لنا بما هو واقع موجود، كنت أتوق لاستكشاف ذلك الأسى الذي كان يغلّف الحكايات، وتلك الحسرة التي كانت تختتم بها عادة، وهكذا كنت مسكوناً بأحلام وأساطير وتعظيمات، لا بدّ من الشفاء منها، بوقعنتها، وتخليص الذاكرة من الكثير الذي يحتكر مكانه فيها..
وكما يقول سعدالله ونوّس في مسرحيّته الأيّام المخمورة: حين تتخمّر الرواية في أفواهنا مع طول الأداء، نشعر أنّنا نجد التعاطف والتواصل والحقيقة.
هكذا وباختصار، حنينُ الجدّات إلى أمكنة الطفولة الأولى، كان هو المجمّل لكلّ ما حُبِك، وكنّ متمسّكات بحلمهنّ ذاك، ولا يزال قسم منهنّ رافضاً التخلّي عنه.. وكان تقديسهنّ صادقاً نابعاً من يقينهنّ بأنّهنّ ظُلمن بمجرّد أن أُبعدن عن أقربائهنّ، لأسباب يلعب الجهل والتخلّف ولواحقهما الدور الرئيس فيما طُبّق.. وربّما يكون اختلاف الأمكنة والأزمنة هو الذي فرض نفسه متحكّماً بالشعور المتولّد، لأنّ ما كان يشكلّ القداسة للأجداد قد يكون بسيطاً وطبيعيّاً للأحفاد، لأنّ التجربة هي المحكّ وهي الحكم..
في قزل تبه، تتجاور الحداثة العمرانيّة بالبدائيّة، وهذا التجاور لم ينحصر في الأبنية فقط، بل انعكس على هيئات أهاليها، وسكّانها الوافدين إليها من القرى والمدن الأخرى، باعتبارها المركز العمليّ، وهي التي يكبر دورها الاقتصاديّ على حساب دور ماردين كمركز للولاية..
انسجام بادٍ في اللوحات الإعلانيّة أحياناً، وعدم انسجام صارخ بين المحلاّت المتجاورة أحياناً أخرى، يستطيع المرء تمييز الفوارق بسهولة، سألت عن مكان لا يحتاج الاستدلال إليه أيّ استفسار، سألت عن مبنى البلديّة، فكان أشهر من أن يُسال عنه..
دخلت المبنى سائلاً عن مكتب رئيسة البلديّة، وعندما دخلت غرفة مدير مكتب رئيسة البلدية، كان عدد من الرجال جالساً وآنسة خلف الطاولة تردّ على الهاتف، حيّيتُ بالكرديّة، وسألت، بعدما عرّفت بنفسي وبأنّني من عامودا، عن إمكانيّة لقائي برئيسة البلديّة السيّدة جيهان سنجاري، رحّبوا بي وطلبوا منّي الاستراحة لحظات حتّى يتمّ إبلاغها، وما إن جلست حتّى طلب منّي أحدهم الدخول إلى غرفة رئاسة البلديّة، تقدّمت السيّدة جيهان مرحّبة، عرّفتها باسمي ومهنتي ومكاني، وأبلغتها بأنّي أحمل لها التحيّات الخاصّة من عدد من أهالي مدينة عامودا، وقلت لها، بعد الجلوس، بأنّ لها فضلاً وشكراً وذكراً، ذكر الفضل عند زيارتها البروتوكوليّة مع وفد من بلديّتهم إلى بلدية عامودا، حين زارت حديقة الشهداء التي رمّمت بعد تلك الزيارة، والشكر على ذلك الفضل المذكور، وأخبرتها بأنّنا ك(أسرة كتاب عامودا تحترق) وجّهنا ل! ها شكراً مكتوباً في كتاب عامودا تحترق للمحامي حسن دريعي والذي قدّمتُ له ودقّقته لغويّاً، على حرصها عند زيارة عامودا على زيارة حديقة الشهداء..
هي بدورها شكرت الجهد، وأهّلت وسهّلت بالتحيّات، وبجميع العاموديّين، وشكرتنا على كتابنا، كما قالت بأنّها قد سمعت عن الكتاب، وتأسّفت لأنّها لا تستطيع قراءته، لأنّه مكتوب بالعربيّة، وتمنّت أن يترجم إلى الكرديّة وإلى التركيّة ليعلم الجميع بالمأساة ويقرؤوا عنها..
اكتفيت بدقائق قليلة، إذ قدّرت الانشغال في بلدية تدير شؤون أكثر من مِائة ألف مواطن في المدينة.
ثمّ كان التجوّل في المدينة مطلبي، وهنا، طلبت من أحد الأقارب مرافقتي إلى بعض المكتبات، حيث أحتاج إلى بعض الكتب التي صدرت حديثاً بالكرديّة في إسطنبول، دخلنا إلى مكتبة، قيل بأنّها الكبرى في المدينة، عرض عليّ صاحبها العناوين الصادرة حديثاً، اقتنيت بعضها، حسب ما أتيح لي، وسألته عن حال الكتاب الكرديّ، وعن حال القراءة بالكرديّة، ولا سيّما قد سمحت الحكومة بذلك، اشتكى لهجر الناس القراءة والكتب إلى المال والمعيشة واللهو، ولكنّه أكّد متفائلاً بأنّ الكمّ الكبير من القرّاء سيتشكّل رويداً رويداً، حين يكتشف أهلنا قيمة لغتنا وعظمتها، وقال بأنّ من يقرأ يحرّض غيره على التعلّم والقراءة، ليكون التحدّي باللغة من ضمن التحدّيات التي يجب أن تستمرّ..
وهنا، إذا ما قلت بأنّ السمة المميّزة، تبدو الحداثة، سأكون مجانباً الحقيقة بعض الشيء، فالفقر والبطالة هما السائدان، وكذلك لأنّ إفقاراً مُمنهجاً يطبَّق في المدن الكرديّة كلّها، وتجويعاً موازياً له يمارَس على أبناء الشعب الكرديّ، لتهجيره قسريّاً إلى المدن الغربيّة، لتسخيره في الأعمال التي تحتاج جهداً كبيراً، وتشكّل مشقّة للعامل، وهكذا فإنّ بقاء الكرديّ حيّاً في هذه الحياة هو بحدّ ذاته جسارة، لأنّ الحياة في ظلّ ظروفٍ كالتي تعرّض لها تاريخيّاً، والتي لا يزال يتعرّض لها، تحتاج قوّةَ إرادة، وتحدّياً، وصموداً، وعناداً هو أجمل ما يماهي الكرديّ بجباله الشمّ، إذ يتحدّى طمس هويّته، بترسيخ هذه الهويّة في الجبال، والسهول، والوديان، وفي القلوب والعقول..
وتحدّي الإفقار الممارَس يكون بالكرم المضادّ، والكرم في هذه الحالة، يختلف عن الكرم الطائيّ الأعرابيّ المهلَّل له، بنحر الفرس وإطعامه للضيف، أو على طريقة الشاعر العربيّ الذي بالغ في رسم صورة الكرم لنفسه، إذ جهر بأنّه كان على وشك أن يذبح ابنه ليقدّمه قرىً لضيوفه، إلى أن جادت الطبيعة عليه بدابّة أغنته عن فعله، هذه صور شعريّة دعائيّة للكرم للإعلان عن المتشبّه بالكرم طلب فَلاحٍ، والتعتيم على الكرم الحقيقيّ، الذي يكون بالكلمة الصادقة، بالبسمة القلبيّة، بالتحيّة البريئة، بالصدق مع النفس والغير، بالدمعة العزيزة على الأعزّاء، بافتداء الوطن بكلّ الكلّ، لأنّ هذا هو الكرم الذي التقيته، وأحسست به، والمثل القائل لكلّ حجرة أجرة، يتطوّر بفعل الزمن، إذ أنّ وسائط النقل قرّبت بين الأمكنة، ولم يعد الضيف يحتار في مأكله أو مطعمه، بقدر ما يحتار في العثور على التقدير والاحترام، والصدق! ، والحبّ قبل كلّ شيء وبعده.. ومعظم ذلك يلقاه زائر قزل تبه وشقيقاتها..
لكنّ ما يوجع المرء في الصميم سيادة الوعي العشائريّ وتجذُّره في المجتمع على اختلاف طبقاته، حيث الحكم المسبق هو الفيصل، يُطلب إليك، بمجرّد التعارف، توضيح انتسابك القرويّ الذي يعكس العشائريّ الحاكم وحده في العقول، تضطرّ على غير قناعة منك، التعريف ببدائيّتك القرويّة ونسبك المكانيّ، لتكتمل الصورة في ذهن السائل عنك، أو ليقرّر فيما بعد هل سيكمل معك الحوار أم أنت لست على مستوى نسبه القرويّ البدائيّ، أو لمعرفة عدوّه من صديقه، والعدوّ والصديق هنا، كلاهما أخٌ، وكلاهما كرديّ، ولكن لأنّ التعصّب لثأر العشيرة أو الأسرة هو الذي لا يزال المسيطر، فلابدّ من الحذر عند التعرّف على وافدٍ جديد، وقد يكون الفضول لمعرفة الخلفيّة المكانيّة هو الدافع للاستفسار عند كلّ تعارف..
إنّه إسراف في التخلّف، وبذخٌ في عدم الانتماء، وتمادٍ في التحالف ضدّ النفس مع المرسّخ من الأعداء..
ومن أبسط ما يتحدّى به الكرديّ التتريك الذي يثقل كاهله، رغم انصياع ورضوخ البعض وتَتَرُّكُهُم، هو إطلاق اسمٍ كرديٍّ على الطفل أو الطفلة، بالإضافة إلى الاسم التركيّ الذي يجبرون على كتابته في دفتر العائلة، فيعيش الطفل باسمين، اسم يختاره له أهله رضىً وحبّاً، وآخر يجبرون على اختياره من بين أسماء تركيّة، أو إسلاميّة، ترضى بها الأنظمة التركيّة، ليكون الكرديّ هناك تركيّاً، كما هنا عربيّاً، في البطاقة الشخصيّة الرسميّة، وكرديّاً في بطاقته الحياتيّة غير القابلة للكتابة والتوثيق الرسميّين، ليكون اسمه كتاريخه، متناقلاً شفاهاً، ليبقى هو نفسه مختلَفاً عليه، وقابلاً للتزوير بمرور الأيّام، كما يراد ويخطّط..
ولكنّه يبقى العصيّ على الإمحاء، لأنّه الجبليّ العنيد، فاضح التاريخ المزوَّر وقاهره..
[1]