حسن حسين
(( ايها الطفل الكردي المحترق بالغاز في قريته الصغيرة، على فراشه ، وفي ساحة لعبه، هذه براءتي من دمك اقدمها لك ، معاهدآ إياك ألا أشرب نخب الآمجاد الوهمية ،لجيوش العصر الحجري )) …. هادي العلوي
كم هو جميل هذه البراءة من هوية الطيار الذي انزل الكيمياوي على الاطفال والنساء العزل تحت راية الامة المترفرفة واعدآ اياها ( اي الآمة) بآن يعيدها الى عصر الملاحم، هوية هذا الجندي الذي كما يقول هادي العلوي، مسح بحذائه المحمل بالغاز السام. القيم الآخلاقية،وبعدها كان يحدث زوجته او عشيقته عن بطولاته لذلك اليوم. هذا الموقف الآنساني حقآ، انسانيته ليست فقط من وجهة نظر السياسية بل كتعبير عن ضمير حي سليم، والآخلاقي الفريد قلما نجد مثيلآ له في النخبة السياسية و الثقافية العربية فالسمة الظاهرة والمسلطة على لغة وخطاب هذه النخب انما هي العنصرية و الاستعلائية الى حد عدم الاعتراف بأرتكابه اخطاءً أوجرائم، وأوصلت هذه النخب الى ابعد الحدود لاعقلانية أعمقها جذوراً حين جسدت نفسها في الظواهر السياسية ومواقفها، وتعمقت في عقلها الباطن. نرى ذلك في أكثر من مناسبة وأكثر من موقف فعلى سيبل امثال و بطريقة د.كاظم حبيب في تقسيم ردود فعل عربية و عراقية تجاه المطالب الكردية الى ثلاثة إتجاهات حيث إتجاهان منها شوفيني صارخ و رافض لمطالب و حقوق الكرد أو متلبس قناع الكلمات الطنان و الحِكَم و يخفي في أحشائه ألافكار الشوفينية والضيقة التفكير. نرى في تعاطي قضية الإبادة اجماعية ومذبحة(هه له بجه) موقفين يرجعان الى نفس الإتجاهات الآنفة الذكر( طبعابتصريف هذه الإتجاهات و وضعهافي سياق إتجاهين فقط إنساني وعنصري) فمواقف الآول نجدها عند مفكرين و مثقفين و كتاب عرب حيث كانت لهم مواقف فذة و إنسانية بحتة، حيث تناولوا جرائم النظام و (هه له بجه) في سياقها الإجتماعي والتأريخي و الميراث الثقافي ولم يحصروها فقط في سياسات وممارسات البعث كما نرى عند فالح عبدالجبار وهادي علوي وغيرهم أما الموقف الآخر فهو بعيد كل البُعد عن التفكيري السليم وقد ضاق به التفكير الشوفيني حداً يثير السخرية عندما نراه يتحدث عن جرائم صدام وحملات الإبادة الجماعية. إذن فلنرَ ماذا يجري في تحقيق نشرته جريدة(المدى) في عددها 342 المؤرخ في 16/3/2005 حول مذبحة (هه له بجه) لآياد عطية فقد يترأى للقارىْ في الوهلة الآولى أن قالب هذا التحقيق يأتي في سياق الحديث عن جرائم نظام البعث وتعاطي مع مذبحة(هه له بجه) وتربيطها بمعانات العراقيين و ذلك بالتحدث مع جندي مشارك ناسياً انه( اي الكاتب) يريد أن يقدم الجيش وأفراده كضحايا أبرياء يستحقون الرّثاء!
أولاً شكل التحقيق: التحقيق الصحفي أجري مع أربعة أشخاص فقط مع إظهار تقرير و شهادة أحد الآشخاص في الآمم المتحِدة(أي نقلاً وليس التحقيق المباشر معه) فإثنان من هؤلا ء الآربعة هما سياسي وطبيب ويبقى إثنين فقط وهما أحد ضحايا الكارثة والثاني جندي عراقي شارك في الجريمة و رفض إعطاء إسمه، ياله من تحقيق ميداني طريف وياله من كثرة النماذج(Sampling) المأخوذة في التحقيق ويا بلاش! فإذا تكلمنا بلغة الرياضيات فإن نموذج الضحية قد أخذ رّبع 4/1 حصة الآشخاص الذين اُجري التحقيق معهم،وعادله الجندي المشارك في الجريمة في الحصة أي الرّبع ايضاً، والمساحة المخصصة للضحية والجلاد هي السدس(6/1) لكل منهما. عليه فإن دل التحقيق على شيْ فإنما يدل على تهميش الكارثة و الضحايا من جهة،ومن جهة ثانية قلب الحقائق، كما كان يفعلها النظام في الحديث عن الكيمياويات، في حين أن قادة المجرمين الكبار كانوا و ما يزال لهم الحق وكل الحق طِوال (15سنة) منذ(1988- 2003) في الآعلام الرّسمي والقنوات غير الاعلامية دون إعطاء اي حق للضحايا في التكلم، ناهيك عن حقهم في أخذ العلاج و المواساة، طِوال هذه ال 15 سنة كان النظام يحاول أن يشوه هذه الحقيقة المرّة أو المؤلمة ويقطع السن الحقيقية. فها نرى بعد سقوطها وقد اتى دور المجرمين الصغار لأخذ حقهم في الكلام وتشويه الحقائق، كيف ولماذا؟
ثانياً هدف ومضمون التحقيق: في عمود (كبش فداء) يحدث المحقق عن جندي شارك في المجزرة ودون اي شعور بالندم او الخجل يرفض الكشف عن إسمه، ويقدم نفسه كضحية وكبش فداء. اولآ إذا كان الجندي فعلآ هو الضحية فلماذا لايكشف عن إسمه؟ فمن المفترض أن يكون هناك مشروع تعويضي لكل من قاسى او تأثر جسديآ او نفسيآ او بأي شكل آخر(مباشراو غير مباشر) من السلطة البعثية. هل هو خوف من آلإرهابيين؟ ولكن الإرهابيين يباركون اي عمل تخريبي أو قتل قام به الجيش في الماضي او تقوم به أية جهة في الحاضر. يقول هذا الجندي (الضحية!!) { إن جميع الجنود الذين إشتركوا في هذه العملية لم يكونوا على معرفة بطبيعة هذه المواد الكيمياوية… وعلى أي طرق سوف تستخدم… ولم نعلم ان الأعداء هم أخوتنا أبناء الشعب الكوردي…وأكبر دليل على جهل الجنود بهذه العملية… أُصيبت غاليبة من شارك في هذه الجريمة بأمراض عصبية و نفسية…) ويختتم قائلآ( والحقيقة أن الجنود كانوا كبش فداء لهذه الجريمة الشنعاء).. من منِا لايعرف ان الجيش العراقي وفي الحرب العراقية- الأيرانية كان مدربآ جدآ ومزودآ بأحدث المعدات العسكرية بما فيها من عُددٍ شخصية بالجنود كالقناع الواقي والأمبول و أدوية اخرى؟ أي هراء هذا الذي يقوله الجندي المشارك في الجريمة؟ أمن المعقول إنهم ضربوا المدينة لأنهم ظنوها ثكنة عسكرية أو أرضآ(للعدو!!).. هذه محاولة لتبرئة الجيش من جرائم إرتكبه في وضح النهار، ولماذا، للحفاظ على هذا الوجه الملائكي والبريْ كي يتحول في وقت الشدة وظهور التهديدات إلى صقر أو شبل لحماية أبناء الشعب!!.. هذه هي إستمرارية ثقافة العنف والعسكرجيتية بعينها.
إن الخلفية السياسية والثقافية للعقلية التي تريد أن تشاركَ الجيش معاناة الشعب والأضرار التي منيت به ماهي إلا امتداد للرؤية التي كانت ترى في الجيش الوسيلة التي( تحمي الوطن) من الأطماع الخارجية وترى فيه محقق الأمان والطمأنينة والسعادة و صانع التأريخ و معيد أمجاد الماضي.ولاترى فيه القوة المدمرة للبلاد، والمؤسسة اكثر فتكآ بالمجتمع والحياة الإجتماعية، فالنظام البعثي لم يلجاء الى اجهزة المخابرات والآمن فقط، بل كان يستخدم الجيش على نطاق واسع، وجعل من العراق معسكرآ كبيرآ، فالقمع والإستبداد البعثي ما كان يستمر لو لا الدور الخطير للجيش. ولكن الجيش نفسه و دوره وصفاته ليس حصيلة النظام البعثي، فمن المعروف ان الجيش العراقي قد تأسس في 1921، بل هو وليد العنف الإجتماعي والصراعات الدامية على مر آلاف السنين. حيث كان العراق مسرحاَ لصراعات دموية منذ عهد الإمبراطوريات الأشورية والساسانية واليونانية ومرورآ بالصراعات الدامية في الخلافة بين علي بن أبي طالب و معاوية، و حتى يومنا هذا و طبعآ أداة هذه الصراعات هي الجيوش والمجاميع المحاربة. عليه فإن عهد صدام هو مرحلة تتويج العقلية العسكرية وبسطها فوق كل مظاهر الحياة، الجيش والقوة العسكرية كان اداة فاعلة ليست في حروبه الخارجية بل وحروبه الداخلية ضد العراقيين المعارضين له كردآ كان أو من قومية اخرى. فمن ينسى صولات و بطولات هذا الجيش ضد لشعب لكردي و ضد أبناء الشعب في الأهوار والجنوب؟ حيث مارس الجينوسايد وسياسة الأرض المحروقة وحتى حملات مننع التجوال المتكررة في المدن كان للجيش العراقي شرف كبير فيه.. ان الإشكالية ليست في حديث مجرد لهذا الصحفي او ذاك الجندي، وانما تكون خطيرة و محسوبة عندما تتجمع هذه العقول وتصب في مجرى الثقافة المضللة، و طريقة التفكير و التذكير هذه يمكن ان تأتي بمقال أو تحقيق في ذكرى الانفال ويتحدث جندي متعب من كثرة إغتصاب البنات والنسوة و دفن الأحياء.
إن النظرة المقدسة للجيش هي إحدى سمات هذا التفكير والموقف، والتي لم يدفع ضريبتها الكورد و المعارضون فقط بل ايضآ الإنسان العراقي، دفعها بحياته وإقتصاده وثقافته و حتى حاضره فإذا أراد الإنسان العراقي أن لا يخسرمستقبله ايضآ فعليه أن يرمي الأفكار التي تحد و تقلل من إنسانيته. فطالما بقي المواطن العراقي أسيرآ لهذه الأفكار لن يكون هناك حديث عن التحرر. التحرر يبدأ فكرآ وتصورآ وعقليةً ويتجسد في العلاقات الإنسانيةوالإجتماعية. فليس من المعقول ان تطرد العنصرية من الباب و تجلبها من النافذة. الفرد المحاصر بالأفكار العنصرية و الإستعلائية فرد فقد حريته وإنسانيته حتى ولو بدا متوهما بالتحرر.[1]