كربلاء- لا تزال ملحمة جلجامش تشكل الكثير من الآراء وتستقطب التحليلات التي تأخذ منها ما يمكن إسقاطه على الواقع.
ولهذا عدها نقاد وعاملون في مجال الأسطورة نصا شعبيا، باعتبار أنها تتداول في المناسبات والأعياد التي كانت تقام من خلالها الطقوس، حيث تظهر أحداث ونصوص فصولها على دكة المسرح والشوارع والساحات.
وبهذا اكتسبت شعبيتها باقترابها من هموم الرعايا في أوروك أو الوركاء (هي المدينة التي عاش بها جلجامش وكتب ملحمته الشهيرة) أو سواها من الحواضر التي انتقل إليها النص، مبررين أنه نص شعبي كونه وازن بين تناول حياة الملك والحاضرة وإشكالات رعايا أوروك، وأصبح جزءا من خزانة الكتب والوثائق آنذاك، وغيرها من الدلائل.
$ملحمة وجذور ومصدر$
لم تزل هذه الملحمة -التي تعتبر أحد أقدم الأعمال الأدبية للبشرية وتروي مغامرات أحد الملوك الأقوياء لبلاد ما بين النهرين في سعيه إلى الخلود- تمثل معينا خصبا للكتاب والباحثين والأدباء على حد سواء، كونها من أكثر ملاحم آداب حضارة بلاد الرافدين القديمة خلودا، ويعود تاريخها إلى عصر سلالة أور الثالثة، وتعد ثاني أقدم النصوص الدينية المتبقية من تلك الفترة، بعد نصوص الأهرام الدينية.
وتبدأ ملحمة جلجامش ب5 قصائد سومرية عن بلجاميش (وهي الكلمة السومرية لجلجامش) ملك الوركاء، وتؤكد المصادر أنها أصبحت مرجعا لقصيدة ملحمية مجمعة في اللغة الأكدية. وتحمل أقدم نسخة متبقية من تلك الملحمة المجمعة اسم (البابلي القديم) ويعود تاريخها إلى القرن ال18 قبل الميلاد.
ولم يتبق من تلك القصيدة سوى بضعة ألواح طينية. وقد تمكن شخص يدعى سين لقي ونيني من جمع نسخة من الملحمة يعود تاريخها إلى ما بين القرنين 13-10 قبل الميلاد وتحمل الاسم هو الذي رأى الهاوية، أو بكلمات معاصرة هو الذي يرى الغيب.
وتم استرجاع نحو ثلثي هذه النسخة ذات الألواح الطينية ال12. واكتشفت بعض النسخ الأفضل حالا في أنقاض مكتبة آشور بانيبال الملكية (مدينة الموصل) من القرن السابع قبل الميلاد.
جاسم عاصي-المدون أراد أن يكون نصه مخلدا من خلال نقل الصراع من كونه نصا لطبقة عليا الى نص شعبي
عاصي: ملحمة جلجامش تتناول صراعات الإنسان مع نفسه ومع القوى القاهرة (الجزيرة)
$أقسام الملحمة$
وجعل المدون الملحمة على شكل أقسام وأراد أن يبدو فعلها الدرامي ظاهرا ليجعلها نصا شعبيا؛ فالقسم الأول كان عن جلجامش وإنكيدو، والأخير هو رجل جامح خلقته الآلهة (حسب ما يزعمون) لوضع حد لطغيان جلجامش على شعب الوركاء.
ويقول جاسم عاصي -الناقد والباحث المختص في أسطورة جلجامش- إن الملحمة تتناول صراعات الإنسان مع نفسه، ومع القوى القاهرة، وتحكي عن قصصهم ولوعتهم، وما يعانونه جراء الحيف الواقع عليهم.
وتقول الأسطورة ولأن الملك وحيد فكان لا بد من إيجاد مصدر منافس له فاستجابت الآلهة في خلق نظيره (أنكيدو) ليلبي حاجة الرعايا ورغبتهم في الخلاص وأيضا لإيجاد نهاية للصراع ما بين القوى الفوقية والناس.
ويشرح عاصي أهمية الاستجابة وتحولها الدراماتيكي بقوله لقد تمثلت مشاهدها عبر أدائها وتمثيلها، وإلقاء مقاطع من شعرها، مصحوبا بحركات وإيماءات، كانت أول جذور المسرح في العراق القديم، وهو ما وفر للملحمة صفتها ومكانتها الشعبية باقترابها من الرعايا ويبدو الصراع أنه كان رمزا لاستمراره وتنوعه وصعود غاياته.
ولذا فالباحث يؤكد أن المدون ركز على المعالجة لتفعيل الصراع وتقريبها من الفعل الشعبي فجعل الناس تستغيث بالآلهة لوضع حد لسياسة الملك جلجامش، الذي كانت أفعاله تثير حفيظتهم، حيث كان يدخل مخدع العروس قبل زوجها وهو ما جعل الملحمة باعتبارها تبيان الطغيان في الأثر الشعبي، ولتثوير الصراع زاد المدون من كمية الصراع -كما يقول الباحث- من خلال توضيح محتويات المعبد من محظيات وغلمان يسهمون في طقس الزواج المقدس داخل المعبد ويؤدون وظائفهم داخله، وهو من الطقوس الشعبية.
خلاصة الملحمة
كتبت الملحمة بالسومرية وترجمت إلى الأكدية قبل اكتشاف حروف اللغة العربية، وهي تحكي في إيحائها البعيد عن ملامح عالمية لا تقتصر على مكان أو شعب أو أرض معينة، بل تتعدى الحدود الجغرافية بإسقاط عالمي رحيب من خلال ما تحكيه عن مدينة أوروك وشعبها الذي يحكمه ملك ثلثاه إله وثله الآخر إنسان، وهو جلجامش ابن الإله ننسون الذي حملت به من ملك بطل أسطوري مقدس.
كان جلجامش يرى نفسه ويراه الجميع مكتمل الجلال والأولوهية؛ ينظر إلى الشمس فتصبح سوداء من شرارة نظره، ويرتقب القمر ليختبئ منه ويحل الظلام على أوروك وشعبها ليبقى هو وحده الإله الحارس والمتجبر، فيقتل من يعارضه ويغتصب من يريد من نساء المدينة حتى زوجات قادة جيشه كما كانت القرابين ترمى تحت قدميه، بحسب تقرير سابق للجزيرة نت.
وفي ظل هذا القهر والظلم من الحاكم السومري العملاق؛ يجد شعب أوروك في شخصية أنكيدو العملاق الذي نصفه بشر ونصفه حيواني مخلصا من العذاب الأبدي على يد جلجامش، لكن حينما تدور المعركة بين الاثنين ويتصارعان ويلتحمان لا تجد القوة مكانا لها بين الاثنين ليكتشفا أنهما أصبحا صديقين لبعضهما البعض.
وهنا يبدأ التغير في شخصية الملك وصديقه فتقل حالات العنف والقتل والاغتصاب شيئا فشيئا، بل إنهما يقضيان على العفريت الشرير خمبايا الذي كان يزعج أهالي أوروك. وفي لحظة موت أنكيدو يجد البطل الملك نفسه -بعد العزاء الذي أقامه- أمام حقيقة الفناء والموت عندما يرى صديقه متعفن البدن ينخر الدود جسمه.
يبدأ جلجامش رحلة البحث عن الخلود والبقاء ويصف له جده عشبة للحياة الأبدية، وبعد رحلة بحث مضنية يجدها في قاع البحر، وعندما يغفو على الشاطئ تسرقها الحية بأمر من الآلهة التي لا تسمح بالبقاء سوى لذاتها. ويعود جلجامش فاضي الوفاض متحسرا فينصحه حكماء أوروك بأن الطريق الوحيد للخلود هو في العمل والعدل والبناء، وهنا يسلك طريقا آخر ونهجا جديدا في الحياة وفي طريقة تعامله مع المواطنين.
ورغم هذا الشرح المبسط لمضمون الملحمة فإنه يمكن القول إن مأساة بطلها وعقدته الأبدية كانت في صراع ذاته الحيوانية مع ذاته الروحية أو الكينونة السفلى مع العليا، فتنازعته عقدة النقص وعدم الاكتمال الإلهي ليستسلم لإنسانيته في آخر المطاف، حيث إن الجسد بما يحمله من معان وانفعالات -بما فيها العدوان- كان له أثر كبير في الانقلاب الداخلي لجلجامش نحو سلوكه الأخير.
الصراع والمدون الشعبي
الملحمة كما يقال طارت في الآفاق؛ كونها كانت تصف الحياة في بدايتها من خلال تحولات النص؛ لذا ففي القسم الثاني يدفع الأسى بجلجامش إلى القيام برحلة طويلة محفوفة بالمخاطر لاكتشاف سر الحياة الأبدية وهي رحلة درامية، وهو ما جعل الملحمة تلقى رواجا واهتماما متزايدا، وترجمت إلى العديد من اللغات وتظهر في العديد من الأعمال الأدبية الشهيرة.
ويقول عاصي، إن مدون الملحمة أراد لنصه أن يكون مخلدا من خلال نقل الصراع من كونه نصا لطبقة عليا إلى نص شعبي حول الإنسان، فأراد تحقيق مفردات البنية التحتية للوعي عند الإنسان البسيط، وهو ما يوضح انحيازه مبدئيا.
وهذا ما نراه متحققا في فصول الملحمة -يتابع الباحث- وهو الأمر الذي جعل عشبة الخلود التي ركز عليها المدون لتكون واحدة من طرق التحول لتكون ملحمة شعبية حين جعل جلجامش يصر على الإكثار من عشبه الخلود بواسطة زرعها ومن ثم إشاعة استخدامها، كي تشمل كل شيبة أوروك.
$الصراع وإدامة النص الشعبي$
يصر الباحث على أن الملحمة نصا شعبيا وهو سر اعتبارها نصا خارقا، كما يبين الباحث، ويرى أن المدون دفع باتجاه تخليق صراع آخر، فصنع مناطق مليئة بالفعل الدرامي، ويعتبره الباحث أنه كان ذكيا حين جعل عشبة الخلود ترتبط بحتمية أن جلجامش إذا ما أراد إيجاد سر الخلود عليه أن يجد الإنسان.
ويمضي الباحث عاصي في استنتاجه، ويرى أن هناك علاقات جاءت عبر طقس التبني، الذي يعده ضمن الطقوس الاحتفالية التي أسهمت في تصعيد عنصر المشاركة من قبل أنكيدو في فعل التغيير على صعيديه المادي والفكري؛ ولذا فالباحث اعتبر تبني أنكيدو لحماية ممتلكات الرعاة والسهر على مواشيهم دليل على ممارسة طقس شعبي يدخل في باب انشغالات الناس وتأسيس علاقاتهم، عبر العمل الجماعي والتضحية، وكذلك يدخل في هذا الباب طقس ما قامت فيه سيدوري صاحبة الحانة، حيث بدت أمام جلجامش امرأة ذات سلطة معرفية فقدمت له النصائح المتعلقة بالخلود.
القدسية ورقم 7
ويَعدّ الباحث عاصي أن هذه الملحمة تربط بجدلية الوجود والأسطورة بالاعتقاد القديم ب قدسية الرقم 7″، فهو يتطابق مع المفهوم الميثولوجي في الأديان القديمة والأساطير، في كونه ذا دلالة كونية في خلق الكون، والذي انسحب إلى مجمل الطقوس الشعبية، فاكتسب قدسيته من دلالته في كل حيز مكاني وزماني.
ويضيف الباحث أيضا -متطرقا لما سمّاه طقس حزن جلجامش على موت أنكيدو- أنه كان عبر قص شعر الرأس، واختيار لازمة لمندوبة خاصة، يرددها بالقرب من جثمانه، ول7 أيام.
ويؤكد عاصي في النهاية أن كل الدلالات تضع الملحمة في مصاف النصوص ذات الصلة المباشرة بالناس، في كل زمان ومكان، وهي جزء من ثقافتهم الشعبية، ولذا يعبر عن اعتقاده من أنها وغيرها من الملاحم أسهمت في ظاهرة تداولها عبر كل العصور والأزمنة لأنها اكتسبت صلتها بالقاع الحياتي، وهو ما يعني ارتباطها بالمدلول الشعبي الخالص.[1]