#عبد الحسين شعبان#
تنشر وكالة كردستان للأنباء (آكانيوز) شهادة عربية لواحد من المثقفين العراقيين بمناسبة ذكرى مجزرة حلبجة، وهي شهادة المفكر والأديب العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان، الذي وقف باستمرار، إلى جانب الشعب الكردي وحقه في تقرير المصير انطلاقاً من موقف فكري ماركسي ومن موقف إنساني، وإيماناً منه بالصداقة والتآخي العربي- الكردي، وقد وجهت إليه آكانيوز سؤالاً بهذه المناسبة، فأدلى بشهادته هذه:
في 16-17 آذار (مارس) عام 1988 قُصفت مدينة حلبجة الكردية العراقية بالسلاح الكيمياوي، وذهب ضحية تلك الشراسة والحقد نحو خمسة آلاف مواطن في الحال، وقيل أنهم فارقوا الحياة نتيجة لاستنشاقهم غاز الخردل.
وعلى الرغم من أن الجريمة هزّت الضمير الإنساني على نحو مروّع، أو كما هو مفروض إلا أنها من جهة أخرى لم تلقَ الإدانة المطلوبة على الصعيد الدولي، فالولايات المتحدة والغرب عموماً لم يحرّكوا ساكناً، بل شوِّش الأمر على نحو مثير، حين ألقي باللائمة تارة على هذا الطرف وأخرى على الطرف الثاني من طرفي الحرب العراقية- الإيرانية، والمقصود إيران والعراق.
وللأسف ذهب بعض المتعصبين باستثناء نخبة متميّزة إلى تبرير هذا الفعل الإجرامي على نحو ساذج وسطحي، بحجة تعاون القوى الكردية مع الإيرانيين، وهو عمل يجيز للحكومة العراقية بحد ذاته استخدام جميع أنواع الأسلحة، لاسيما والعراق في حالة حرب في حين ذهب بعضهم الآخر ممن عمل في خدمة الحكومات المتعاقبة أو اشتغل لحسابها، لتبرير ذلك أيضاً بمتطلبات الحرب والخشية من توسّع النفوذ الإيراني في اختراق الأراضي العراقية.
وبغضّ النظر عن هذه المواقف وتحميل هذا الطرف أو ذاك المسؤولية، فإن المسألة لم تأخذ الاهتمام الذي تستحقه كجريمة دولية نكراء، واستخدام سلاح تدميري محرّم دولياً، وهي القضية التي لم تأخذ مداها إلا بعد توقّف الحرب في 08-08- 1988، وفي مؤتمر باريس بالذات وذلك بعد ما يزيد عن عام ونيّف من ارتكاب هذا الفعل الجرمي الشنيع.
ربما يعود ذلك إلى اختلاط بعض الأوراق وتداخل بعض الأدوار، لاسيما في ظل توازن قلق للقوى المتحاربة، حيث كانت القوى المهيمنة، ولاسيما الولايات المتحدة، التي سعت لإدامة نار الحرب، وكانت تزوّد الفريقين بمعلومات وصور مأخوذة عن الأقمار الصناعية، لا تسمح بإلحاق هزيمة بأحدهما في حين ظلّت الحرب مستعِرَة ثماني سنوات بالكمال والتمام . وقد يعود ذلك في جزء منه إلى حساسية الصراع الدولي الاستراتيجي آنذاك، لاسيما قبل انهيار الكتلة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفيتي فيما بعد، وخصوصاً وجود النفط عصب الحياة الأساسي على الصعيد العالمي، فضلاً عن استمرار الصراع العربي- الإسرائيلي دون حل عادل، ولاسيما التنكر لحق تقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني.
ولعل ما أعقب مجزرة حلبجة، كان خطراً، لاسيما بتنظيم حملة إبادة جماعية، تحت اسم الأنفال راح ضحيتها عشرات الألوف من المواطنين الكرد، وبلغ عدد القرى والقصبات التي تم تدميرها ابتداءً من الحرب العراقية- الإيرانية وحتى نهايتها ما يقارب على 3000 (ثلاثة آلاف) قرية وقصبة، في حين تعرّضت البيئة إلى عسف لا حدّ له، بتدمير الحقول والمزارع وحرق الأشجار. وكان ذلك يتم بحجة ملاحقة الثوار الكرد والمعارضين الوطنيين العراقيين، ومنع تسلل الإيرانيين وجرى ترحيل عشرات الآلاف من المواطنين القاطنين في المناطق الحدودية خلال الحرب العراقية- الإيرانية، إضافة إلى من تم ترحيلهم بعد اتفاقية 6 آذار (مارس) العام 1975 بين شاه إيران محمد رضا بلهوي والرئيس صدام حسين (النائب) في حينها.
كل ذلك كان يجري بصمت ودون ضجة تُذكر أحياناً. لكن تجاوز النظام العراقي، الخطوط الحمر وتحرّشه بالمصالح الدولية الكبرى بإقدامه على مغامرة اجتياح الكويت في 2 آب (أغسطس) عام 1990، وفي ظل انهيار نظام القطبية الثنائية وتفكّك المعسكر الشرقي وبداية عهد جديد من العلاقات الدولية، فجّر أزمة الخليج والنفط والسلاح في المنطقة على نحو لم يسبق له مثيل، وغير مسموح به فيما سمّي ب النظام الدولي الجديد وهو ما دفع القوى الغربية إلى إدانة الحكومة العراقية لاستخدامها الأسلحة الكيمياوية ضد الكرد، ولاحقاً فرض الأمم المتحدة نظام عقوبات دولي ضده شمل الحظر على السلاح ونظام مراقبة وتفتيش كما هو معروف في القرار 715 وقبله في القرار 687 الصادر في 03-04-1991، وذلك لاعتبارات دولية تتعلق بظروف الصراع، ولم يكن الهاجس الرئيس هو الاعتبارات الإنسانية أو المبدئية أو حقوق الإنسان، التي ظلّت مسكوتاً عنها.
* * *
عندما حدثت مجزرة حلبجة في العام 1988، كنّتُ في دمشق، ونظّمنا بمبادرة محدودة من نخبة من المثقفين مذكرة أو نداء للرأي العام العالمي. ولا أذيع سرًّا إذا قلت أن بعض المثقفين العرب من أصدقائنا، اعتذر عن التوقيع على المذكرة بحجة أن الحكومة العراقية كانت تدافع عن البوابة الشرقية أو أنه لا يوجد دليل واضح يدمغ الحكومة العراقية باستخدامها السلاح الكيمياوي، إذ كانت إرادة المصالح الدولية يوم ذاك قد أخفت نتائج صور الأقمار الصناعية، الأمر الذي بدأ يتكشف بالتدريج، لاسيما بعد نهاية الحرب العراقية- الإيرانية لاحقاً، ولعله لأول مرة في التاريخ البشري أن تتهم حكومة باستخدام السلاح الكيمياوي ضد شعبها.
وكان بعض المثقفين العرب من أصدقائنا يشعر بالحرج حتى وإن كان بسليقته يعرف المتهم أو المرتكب، وعلى الرغم من أن مجموعة متميّزة منهم وضعت تواقيعها على مذكرتنا الموجّهة للأمم المتحدة والتي تطالبها بإجراء تحقيق فوري وعاجل والسعي لوقف الحرب العراقية- الإيرانية، إلا أن هؤلاء أو بعضهم كان قد وقّع على المذكرة لاعتبارات صداقة أو بكثير من المجاملة والحياء فضلاً عن الاعتبارات المبدئية، الإنسانية التضامنية. كما أن بعضهم الآخر أعلن تأييده لنهج المذكرة، لكنه اعتذر من وضع توقيعه عليها، ولم يكن الأمر بعيداً عن تشويشات وربما ابتزازات أو عدم الرغبة في الدخول بمعارك غير متكافئة مع نظام قوي ولديه كل عوامل الديماغوجيا من إعلام وأتباع وأموال وبطش وتضليل.
ربما بعضهم لم يسمعوا بحلبجة أو أنهم لم يريدوا أن يسمعوا بها أو سمعوا وأداروا ظهورهم لاعتبارات ليس المجال لذكرها أو لتفصيلها في هذا المقام، خصوصاً ولم يكن حينها قد دخلت تكنولوجيا الإعلام المنازل دون رقابة أو استئذان، في حين شكّل بعضهم بضجيج وصخب الموكب اللاحق والصورة الأشد قتامة في المشهد الأكثر إثارة واستغراباً بعد حرب الخليج الثانية. حيث نقل الكثيرون رحيلهم من هذا الموقع إلى ذاك.
وشملت المذكرة التي وقعها 88 شخصية عربية معظمهم من العراقيين المطالبة بإدانة جريمة حلبجة وإجراء تحقيق عاجل حول استخدام الأسلحة المحرّمة دولياً. ومع الأسف، فإن صحيفة عربية مرموقة ولا يُعرف عنها ممالأتها للحكومة العراقية، اعتذرت هي الأخرى عن نشر المذكرة لاعتبارات الصراع ولحراجة الموقف ولحسابات أقل ما يقال فيها، إنها كانت خاطئة أو قصيرة النظر، بينما غرق البعض الآخر حتى أذنيه في تبرير أو تفسير أو إيجاد الذرائع لعمل إجرامي مدان بكل الاعتبارات القانونية والدينية والأخلاقية والسياسية ومن أي أتى ضد سكان مدنيين وآمنين وعزّل، وهو ما يشكل انتهاكاً صارخاً لاتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتوكولين الملحقين بها لعام 1977، ناهيكم عن تعارضه الصارخ مع حقوق الإنسان.
*كإنسان أشعر بحزن شديد في ذكرى حلبجة، وأعتقد أن الاعتذار عن هذا الحادث الجلل لا بدّ أن يجد طريقه يوماً ما. وكعراقي يشعر بالانتماء إلى وطن واحد مع الكرد، فإنه يقف معهم من أجل مواطنة متساوية وحقوق متكافئة، ويحترم حقهم في اختيار نوع وشكل العلاقة مع عرب العراق طبقاً لمبدأ حق تقرير المصير، سواءً أكانت الفيدرالية أو غيرها، فمثل هذا الحق لهم مثل سائر الشعوب الأخرى.
وكعربي يعتز بعروبته فأنا أقف مع الشعب الكردي ونضاله من أجل توحيد الأمة الكردية، مثلما أتمنى أن يتحقق حلم الوحدة العربية، وفي كلا الحالين على أساس سلمي وديمقراطي أسلوباً، واجتماعي وتقدمي مضموناً.
وعندما أقف هذا الموقف من إدانة مجزرة حلبجة أو الأنفال وفضح الدعاوى الشوفينية، فإنني اصطف إنسانيا مع كل موقف يدين المجازر المرتكبة على مرّ التاريخ سواءً على أيادي المحتلين الأجانب أو الطغاة من كل لون وصنف محليين أو إقليميين، ولعلّي في ذلك أمارس إنسانيتي، بل أشعر بالامتلاء، ولا أجد ثمة منّة أو هديّة أو هبة أو مكرمة لأي أحد يتخذ مثل هذا الموقف: حكومة أو معارضة وعلى مدى التاريخ، بل اعتبره واجباً على كل إنسان سوي يتعامل مع البشر بصفتهم الإنسانية ودون أي تمييز.
ومثل هذا الاعتراف بحقوق الكرد إنما هو إقرار بواقع أليم عانى منه الشعب الكردي وعلى أشقائه واجب الاعتراف بحقوقه والدفاع عنها، خصوصاً عندما يكونون من القومية الكبرى بمعناها العددي، والذي تم الاضطهاد باسمها دون أن يكون لها علاقة بذلك، ولهذا فإن واجب التضامن هو تبرئة في الوقت نفسه من أية علاقة بين الاستبداد والأمة التي ينتمي إليها. وهناك فرق كبير بين الحاكم والشعب، مثلما هناك فرق بين الحق والسياسة وطريقة التعبير عن الحق قد تكون سليمة وصحيحة وقد تكون خاطئة، وبقدر وقوفي اللامحدود مع الشعب الكردي وحقوقه العادلة والمشروعة، ولاسيما حقه في تقرير المصير، انطلاقاً من رؤيتي الماركسية، لكن ذلك لا يمنع من نقد بعض المواقف والسياسات التي تخطأ وتصيب مثل غيرها.
وأعتقد أن قيام نظام ديمقراطي حقيقي في البلدان التي يعيش فيها الكرد وتأكيد حقوق المواطنة والمساواة واحترام حقوق الإنسان، سواءً أكان في العراق أو تركيا أو إيران أو سوريا، كفيل بإيجاد حلول ومعالجات للمسألة الكردية خصوصاً عبر الحوار والخيار السلمي واستبعاد ونبذ العنف.
وأظن أن حواراً بين مثقفي الأمم الأربعة: الأمة العربية والأمة الكردية والأمة الفارسية والأمة التركية، يمكن أن يسهم في مهمة التقارب والتعايش وتأكيد المشترك الإنساني.
ستبقى ذكرى حلبجة مثل المخرز بالعين،
فهذه المدينة الشهيدة تستنفر فينا وفي جميع المخلصين الهادفين لتأمين احترام حقوق الإنسان ما سجلته الذاكرة في ذلك اليوم الحزين وليس ككل الأيام.
* باحث ومفكر عربي[1]