#علي سيدو رشو#
تطرقنا في أكثر من مناسبة فيما سبق وضمن مقالاتنا العديدة أو ضمن تقارير حقوق الانسان، حول تأثير الاقتصاد والتعليم بشكل أساسي على تاخر الايزيديين، ونعود اليوم بإعادة إثارتهما ولكن بشيء من التخصيص أكثر وتأثيرهما على المستقبل الايزيدي من حيث علاقتهما المباشرة كعوامل تؤثر بفاعلية على تخلف الايزيديين، وسنركز هنا على الجوانب الاقتصادية فقط.
كان المفكر الالماني باول شمتزي يرى بأن الغرب هو المسئول عما أصاب العالم الاسلامي من جمود وضعف وتخلّف على الرغم مما في العالم الاسلامي من عناصر القوة التي تتمثل في عقول وكفاءات بشرية وثروات طبيعية ومالية وموقع جغرافي مهم، ولكن العالم الاسلامي يتحّمل نصيبه من المسئولية لأنه أهمل عناصر القوة لديه ولم يدرك خطورتها (جريدة الاهرام/الاحد 27-04 -2008).
فبإلقاء نظرة على ما في قول المفكر الالماني نجد بانه يؤكد على عاملين أساسيين؛ عامل خارجي متمثل في الغرب وتقدمه العلمي والتكنولوجي، والآخر داخلي متمثل في الواقع الاسلامي المتخلف علمياً وصناعياً. ويمكن تطبيق ما جاء في فكر هذا المفكر على الواقع الايزيدي من الناحية الاقتصادية ومقارنة هذا الواقع مع ما في العالم الاسلامي، ولماذا لا يريد الغرب له أن يتقدم. فالجواب بكل بساطة هو، لكي يبقى العالم الاسلامي البالغ أكثر من مليار إنسان مجتمعاً استهلاكياً، وسوقاً معتمداً على الصناعات الغربية لكي تعمل صناعاتهم بفعالية وأن تبقى السوق الاسلامية بحاجة ماسة ومستمرة لتلك الصناعات، وبالتالي فإنه ليس من مصلحة الغرب ان يتطور هذا العالم صناعيا واقتصاديا لكي يبقى معتمداً ومستهلكاً لتلك الصناعات. فهو بذلك يزداد فقراً وتخلفاً، والغرب يزداد غنىً ووعياً، وهكذا ستبقى وتستمر الفجوة بينهما وستزداد حجماً يوما بعد يوم.
فمن وجهة نظري ومن خلال بعض الوقائع الملموسة، فإن المحيط العربي سابقاً والكردي حالياً كانا ولا زالا يتعاملان مع المجتمع الايزيدي بنفس الروحية والنظرية ليجعلوا منه مجتمعاً إستهلاكياً لسوقهما التجارية. وهذا مانراه بوضوح اليوم في التعامل مع الواقع الايزيدي من حيث العمل والتعامل التجاري، فزاد الآخر غنى والايزيدي ازداد فقراً ولكن، مع الاسف، فإن الطرفان بقيا على تخلفهما على عكس ماحصل من تطور في الغرب وتخلف في الشرق.
المقارنة هنا قد تكون غير واقعية من حيث الأمكانيات، ولكنها بالتأكيد تتفق معها من حيث المبدأ. فمن حيث الواقع والامكانيات؛ الايزيديون ليسوا بدولة ولهم تشريعاتهم الخاصة بهم ، وليست لهم مؤسسات ومصانع وامكانية استغلال الثروات الطبيعية المتوفرة على أراضيهم. وبذلك فهم من الناحية الاستهلاك يعتبرون افضل سوق دائمية لتصريف البضائع الاستهلاكية وأنهم ساهموا ويساهمون بشكل واضح وفعّال في تنمية الاقتصاد المحلي لغير الايزيديين، خاصة بعد أن تحددت حركتهم بعد أحداث عام 2007 في كل من الشيخان وبعشيقة وسنجار. أما، لماذا لم يتم الاهتمام بالتجارة والدخول في السوق والتعامل التجاري والتنمية الاقتصادية منذ زمن؟ فلها شأن مهم جداً ويستوجب شرح مراحل تاثيره السلبي.
مرحلة ماقبل 1970.
في مقالنا السابق اكدنا على تأثير الفهم السلبي لدور التراث في تقدم المجتمعات، وقلنا بأن التراث هو عبارة عن مجموعة نشاطات في مختلف الاوجه للوصول بالمجتمعات إلى مرحلة معينة. ويعد الاقتصاد واحداً من تلك الاوجه الاساسية في الحياة العامة للشعوب، ومن المهم فهم واستيعاب المراحل التي مر بها وتقييمها لتفادي المطبات وتعزيز المثابات.
فمنذ خمسينات القرن الماضي ولغاية عام 19975، وعندما كنا في القرى القديمة قبل أن يتم تجميعنا في مجمعات سكنية، كان يعاب على الذي يتعامل بالميزان، أي التعامل التجاري. بل كنت أسمع بأن فلان، من العائلة الفلانية قد خطب بنت البقال الفلاني؛ يا للعار. وإذا عمل شخص ما في التجارة والاستثمار، كان يقال بأن فلان من العائلة الفلانية يعمل في الربا، وفي اغلب الاحيان كان يجلس في طرف المجلس كرجل غير مرغوب فيه، او في بعض الاحيان كنا نجلب التراب من بيته خلصة ونضعها على بيوت النمل لكي تهجر مكانها لكون هذه الحشرة المباركة لا تأكل من مال الربا. وبذلك أجتمع عاملا الدين والعرف الاجتماعي وتعاونا بشدة لتضييق الخناق على هذا المحيط الضيق ويقتلا بالتالي كل طموح وتقدم أقتصادي. وعليه، فقد تحددت مساحة العمل بهذه المهنة الحساسة والتي أثرت على الامكانيات المادية إلى أضيق الحدود حتى تمكن الآخرون منهم مادياً، وبالتالي استضعافهم اخلاقياً واستغلال امكانياتهم البشرية.
وأتذكر أيضاً بأن بعض القرى، ومنهم قريتنا، كانت تدعو وتستقدم بعض المسلمين أو المسيحيين من القرى المجاورة لفتح محلات بسيطة لتلبية حاجيات القرية من المونة وبقية المواد التي لها مساس مباشر بحياتهم اليومية من سكر وشاي وصوابين ومحروقات وغيرها. وكان في قريتنا تل حيال، بقال مسلم خاتوني وحيد أسمه فياض. وآخر اسمه محمد مصلاوي، الذي أصبح إبنه فيما بعد صاحب أكبر مصلحة من حاصدات وساحبات وقام بزراعة آلاف الدونمات من أراضي نفس القرى، واشترى فيما بعد الاملاك في البلد واصبح صاحب نفوذ ومن الاثرياء وكان يتوسط لنفس أهل القرية لدى الجهات الحكومية في تسهيل معاملاتهم المختلفة. بل كانت النظرة إلى جمع المال تعد واحدة من الاسباب التي قد تضر بالدين ويجب على الإيزيدي أن يعيش حد الكفاف لكي لا ينظر إلى متاع الحياة وينسى الدين والآخرة. بينما لم يستفد أحد من القول العظيم الذي كنا نسمعه من نفس الاشخاص آنذاك عندما كانوا يقولون بأن الانسان يستطيع أن يشتري الدنيا والآخرة بالمال. إذن، هكذا كانت النظرة إلى موضوع التجارة والعمل التجاري والاستثماري، فكيف لا يتخلّف هكذا بشر؟
وفي عام 1992، كان هناك فلاحاً من سنجار يعمل بمزرعة في قرية السلامية التي تبعد عن الموصل حوالي 30 كم. وبعد أن انتقل إلى مزرعة اخرى داخل مدينة الموصل، سألته عن حاله والفرق بين العيش في المكانين لاجل راحته وراحة اولاده من حيث الكهرباء والخدمات الاخرى وقربهم من المدارس حيث كان مبعث فرح بالنسبة لي. ولكنه فاجأني بالقول؛ الا تعلم بأن الانسان يصبح أكثر تعاسةً كلما أقترب من الميزان؟ وكان كلامه هذا هو كناية عن التعامل مع الميزان والعمل التجاري، وما يحمله من ذلك الفكر العشائري القديم.
واقع المجتمع آنذاك:
في الواقع كانت الحياة بسيطة إلى درجة كبيرة بحيث كان الاعتماد فقط على الثروة الحيوانية والزراعة لحد الكفاف فقط، لكون غالبية القرى كانت على خلاف عشائري مع بعضها من جهة، ومع العشائر العربية المجاورة بسبب بعض الغزوات والخلافات على الاراضي الزراعية ومناطق النفوذ العشائري وكذلك لاثبات الذات من الجهة الثانية. فكان قلما تجد عائلة لا تمتلك بعض المواشي من الغنم أو الماعز والحيوانات التي كانت تستخدم للعمل الزراعي كالحراثة والتنقل، وبالطبع كانت هذه الحيوانات بحاجة إلى رعاية ومتابعة واهتمام. وأن معظم الاراضي الزراعية كانت مقسمة عرفياً فيما بين الفلاحين بحيث أن لكل فلاح مساحة من الأرض على قدر عدد أفراد عائلته ومركزه الاجتماعي بما يسد حاجات عائلته السنوية من زراعة القمح والشعير بصورة خاصة. إضافةً إلى ذلك، كانت هنالك عوامل مساعدة أخرى ك بساتين التين والعنب وبعض الفواكه الاخرى كالمشمش والخوخ ومحصول التبغ التي كانت تعد مصدرا مساعدا وإضافياً للدخل العائلي. ولا يخفى ما كانت تستخدمه بعض العوائل المتنفذة في استغلال جداول المياه في القرى وزراعة بعض محاصيل الخضر كالطماطة والخيار والباذنجان والبصل وغيرها لسد حاجة الاستهلاك العائلي وبيع الفائض، أي أن تربية الحيوان والزراعة كانت هي العماد الاساسي للإقتصاد العائلي في ذلك الوقت.
بعد ثورة تموز عام 1958 وتغيير النظام الملكي، تنفس الايزيديون السعداء كغيرهم من فئات الشعب العراقي بعد أن أوعز الزعيم عبدالكريم قاسم بتوزيع التموين على الفقراء وكان للإيزيدية حصة كبيرة في ذلك الدعم وكذلك نظام التغذية المدرسية، فتحسنت الظروف المعاشية جزئياً. ولكن الوضع الاجتماعي أستمر بصورة عامة على ضعفه وهو واقع حال معظم العراقيين آنذاك. وأتذكر الانشودة التي كنا ننشدها كأطفال (عبدالكريم كريفي مه يا، وناني جه هي المه توبه يا: أي أن عبدالكريم كريفنا ويحرم علينا أكل خبز الشعير بعد الان). ومن جانب آخر كانت تعتبر الموارد الطبيعية في جبل سنجار أحد أهم مصادر الدخل للإيزيديين عندما قامت الاهالي بتحويل جميع الاماكن الممكن زراعتها وتحويلها إلى مدرجات ومصاطب لزراعة اشجار التين، التي اشتهرت بها سنجار، والعنب والرمان والسماق واستغلال ما بين الاشجار من المساحات الفارغة بزراعة الخضراوات لسد الاحتياجات العائلية في ذلك الوقت. ولا ننسى ما كان في الجبل من ثروات طبيعية كأشجار البلوط وحبة الخضراء والزعرور والجوز والنبق كمصادر للغذاء، إضافةً إلى الاستفادة من الحطب للتدفئة شتاءً وعمل الفحم من أخشاب البلوط وبيعها كمصدر مهم لأقتصاد العائلة. أي أن واقع الحال لم يكن يساعد على التطوير الاقتصادي على حسب العوامل التي مر ذكرها خارجياً وداخلياً.
مرحلة مابعد 1975:
في الحقيقة، مرحلة ما بعد 1975 هي امتداد لما حصل منذ 1968، أي بعد استلام حزب البعث السلطة في العراق وتفاعل الايزيدين مع مسألة الحكم الذاتي للأكراد. وبناءً على تعاطف الايزيديين مع القضية الكردية ورفع تقارير عن هذا التعاطف إلى قيادات الحزب عن واقع الايزيديين وكيفية الاحتماء بالجبل، قامت السلطة بتجميع الايزيديين في مجمعات سكنية قسرية تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة المدنية في مناطق تبعد عن الجبل ب 15 كم كحد أدنى. وبهذا الاجراء، فقد الايزيديون أهم مصادر دخلهم من الزراعة والثروة الحيوانية وكذلك الابتعاد عن الجبل الذي كان الحامي للكثير من حملات الابادة التي تعرض لها الايزيديون على مر التاريخ، واصبح فيما بعد من المحرمات التي لا يمكن لهم التقرب منه لكي يتجنبوا التهم الكيدية والشبهات الملفقة.
بعد هذا الوقت بدأت التنمية الانفجارية في العراق، ولكون للمجتمع الايزيدي خبرة في مجال البناء والعمالة، أصبحت الايدي العاملة متوفرة بعدما فقدوا مصادر دخلهم كما اسفنا، وابتعدوا عن الجبل ولابد من التفاعل مع الحالة الجديدة. فأخذ العديد منهم بالتعاون مع قسم من المتنفذين بعض المقاولات من الباطن وكانت افواج من العمال والبنائين يعملون في بناء المعسكرات والمجمعات السكنية والمرافق العامة ودخلوا الوظائف المدنية كما حصل بتعيينهم في معامل النسيج والسكر والسمنت. كذلك دخلوا الجيش لاول مرة بشكل نظامي وحسب دعوات المواليد من التجنيد العامة، ونمت حركة الحياة الاقتصادية حيث تعددت مصادر الدخل، والاطفال دخلوا المدارس وزاد الاهتمام بالصحة العامة ونفذت برامج محو الامية وزاد التفاعل الاجتماعي بين الايزيديين وباقي الشرائح الاجتماعية سواءً في الجيش أو الجامعات أو في ساحات العمل بسبب هذا التخالط الاجتماعي- السياسي. وبالتالي زاد معها الوعي العام ونمت مساحة القبول به من قبل الاخر المتشدد.
ويجب أن لا ننسَ ما كان للنظام البعثي العلماني وتشريعاته بخصوص الاقليات الدينية والعرقية من الدور البارز في هذا القبول من الاخر والاعتراف به كإنسان له كرامته ووطنيته. ولكن لم يتعدى الجانب الاقتصادي حدود الكفاف وبقي يراوح في مكانه، إلا أنه فتح الباب ولو جزئياً على الطريق التي يمكن أن يسلكه المجتمع في مجال التنمية الاقتصادية.
وفي منطقة الشيخان كان الامر لا يختلف كثيراً عما حصل من ظروف مشابهة لواقع سنجار إن لم تكن اعقد منها بسبب التعامل مع المسألة الكردية من جهة، وكونها محاذية وبتماس مباشرلتلك المناطق، وكانت لها من الحساسية أكثر مقارنةً بالحال في سنجار. فبالاضافة إلى التجميع في مجمعات قسرية، تم جلب عشائر عربية واسكانهم محل الايزيديين بعد مصادرة الاراضي التي كانت المصدر الاساسي لمعيشتهم ومنحها للعرب وبالتالي قام الايزيديون يؤجرون أراضيهم من العرب الجدد مناصفةً. واستمر هذا الحال المزري لحين سقوط النظام في 9/4/2003. وقد ترتب على هذا الامر ضياع ثلاثة عقود من الزمن وفرص العمل وتدني مستوى المعيشة وتحددت الاستثمارات وتراجعت المنطقة اقتصاديا وضعفت امكانياتهم المادية وبالتالي لم يكن باستطاعتهم تنيمة مواردهم بسبب صعوبة العيش وصعوبة تخطي نقاط التفتيش ومحدودية المناورة والحركة التجارية التي باتت مرهونة باستغلال بعض المسئولين لجميع النشاطات والتي كانت مقتصرة على تهريب المشتقات النفطية وغيرها لصالحهم سواء أكانوا عرباً أم كرداً، وعلى حساب الايزيديين طبعاً.
أما في بعشيقة وبحزاني ولكون المجتمع فيها يتمتع بالجانب المدني وغالبيتهم كانوا يعملون في الوظائف الحكومية ولقربها من مدينة الموصل التي كانت تربطهم بها علاقات تجارية، وطبيعة مجتمعها وعقليتهم المتنامية قياساً حتى بباقي فئات المجتمع العراقي، فلم يكن التأثير السلبي بتلك الدرجة التي عانى منها الايزيديون في كل من سنجار والشيخان. فقد نمت فيها الحركة التجارية بعكس بقية مناطق الايزيدية بحيث أصبحت في ظل الحصار واحدة من أهم مراكز تصنيع المونة والطرشي والزيتون والراشي وزيت الزيتون والصابون وانتاج محاصيل الخضر مثل البصل والفسقة المشهورين على مستوى القطر. وقد غزوا معظم مدن العراق واشتروا العقارات ودخلوا في عمق السوق ونشروا مساحة العمل التجاري بحيث اصبحتا من مراكز الاستقطاب التجاري الكبيرة وجلب الاستثمارات. إن في هذا لدليل واضح على أن الانسان الايزيدي نشط وفعّال وقادر على خلق المبادرات إذا ما توفرت له الظروف المناسبة والاستقرار، بعكس ما ينظر إليه من قبل الاخر على أنه لا يفقه من الحياة سوى العيش في ظروف قاهرة بعيدة عن المدنية والحضارة.
وبموازاة جميع هذه الظروف سواء في سنجار أو في الشيخان أو في بعشيقة وبحزاني، فإن الحركة العلمية لم تقف عند حد معين، وزاد عدد الطلاب الملتحقين بالجامعات موزعين على مختلف الاختصاصات، بحيث فاقت نسبتهم فيها عن جميع الشرائح الاخرى من المجتمع العراقي قياساً بعدد النفوس.
الوضع بعد 1991.
بعد هذا التاريخ بدأ الخراب يدب في جسم العراق إنساناَ وكياناً وارضاً وماءً ونظاما من حيث الفساد ونمو التطرف وظهور بدايات الانشقاق الاجتماعي بين شرائح المجتمع، ومع أنه لم تظهر تلك العلامات في بداياتها بشكل واضح وجلي، إلا أنها كانت تنخر في الخفاء في كل مفصل من مفاصل الحياة كما ينخر السوس الاسنان. إن أكثر العوامل التي شجعت من تلك الصعوبات هو استغلال الشعور الديني وإلهاب العواطف سواء ماكانت تستدعيه مصلحة النظام السياسية أو ما كانت تفعله القوى التي كانت تتستر باسم الدين ولكنها تعمل في إتجاهات أخرى. وأن الذي شجع من هذا النمو المتطرف هو عندما تزعم عزت الدوري الحملة الايمانية التي كانت في الحقيقة تغطية لمأرب سياسية، مما أثرت بشكل فعّال على تخريب المجتمع وزرع بذور الفتنة بين المكونات المختلفة ووفرت الارضية لإثارة النعرات ولو بشكل خفي وتحت (رعاية) الحزب. فبعد هذا الزمن أخذ الحصار يتمكن من الشعب العراقي وخاصة الفئات التي لم تكن مستعدة لمجابهة جبروته. فتقلصت فرص العمل وتوقفت المشاريع وغادرت الشركات وزاد سعر المواد وانخفضت القدرة الشرائية وهكذا دواليك.
الذي يهمنا من هذا هو تاثير تلك الفترة على الواقع الايزيدي من الناحية الاقتصادية بشكل اساسي. فكان مشروع ري الجزيرة في منطقة ربيعة يعد واحداً من المشاريع الكبرى في الشرق الاوسط، وهو مصمم للري التكميلي لمساحة 260 ألف دونم في واحدة من أخصب الاراضي الزراعية في محافظة نينوى وعلى مستوى العراق عامة. وبما أن المشروع كان مخصصاً للري التكميلي، فقد كان مسموحاً باستثمار 10% فقط من تلك المساحة لزراعة الخضراوات والباقي يجب أن تزرع بالمحاصيل الاستراتيجية كالحنطة والشعير والذرة فقط. بعد أن فرضت الامم المتحدة الحصار على العراق، سمحت الدولة باستثمار الاراضي بحسب ما يتطلبه الواقع الجديد وبما يعزز من الامن الغذائي واطلقت يد المواطن في التصرف بالكيفية التي يرتايها. فقام شيوخ الشمر في ربيعة باستثمار الاراضي في زراعة المحاصيل التي تجلب لهم الربح السريع كالطماطة والخيار والبطاطا والرقي وغيرها من المحاصيل ذات الربحية الكبيرة والسريعة.
من المعلوم أن العرب بصورة عامة لا يجيدون العمل في الحقل الزراعي، وأن فرص الحياة تحددت من جديد أمام الايزيديين بسبب توقف المشاريع الحكومية وانخفاض قيمة العملة العراقية وتدني مستوى المعيشة وصعوبة الحصول على متطلبات الحياة بالوسائل التقليدية كالوظيفة أو العمل اليومي. لذلك وبما أن المجتمع الايزيدي له خبرة كبيرة في العمل الزراعي وكون المنطقة قريبة من منطقة سكناهم في سنجار، فتحولت ربيعة إلى سنجار ثانية، حيث قدرت بعض الجهات غير الرسمية بأن عدد العوائل الإيزيدية التي كانت تعمل في الزراعة في ربيعة قد تجاوز 50 الف عائلة بكافة أفرادها في ظروف لم يسبق لأي إنسان عراقي أن عاشها على مر تاريخه لوضاعتة وقذارته وبؤسه. وظهر فيها مرض الملاريا بسبب الاعتماد على شرب الماء من السواقي المفتوحة، وقد سمّي المرض حينذاك بمرض الكرفان. عسى الايزيديين أن لا ينسوها للأبد.
صحيح أن البعض استفادوا مادياً في السنين الاولى من العمل الزراعي فيها، ولكن بعد ذلك انقلب وبالا عليهم بعد أن تفنن العرب في استغلالهم بابشع ما يمكن أن يقال ناسين بذلك جميع أخلاق الجيرة والتاريخ والانسانية وتحولوا إلى مصاصي دماء ووحوش كاسرة مستغلين ضعفهم وحاجتهم للعمل بشكل لا يوصف من الناحية الاخلاقية، وسيسجل التاريخ لعرب الشمر في ربيعة كل الخزي والعار وخيانة الوطنية والمواطنة وحسن الجوار مع الايزيديين بحيث لم يستفد فيما بعد من اتعابه في العمل في تلك الاراضي، إضافةً إلى الاهانات التي تلقوها بعد أن تعلمت تلك الاعراب كيف يمكنهم أن يتفننوا في استغلال ضعف الايزيديين لصالحهم.
لقد اصبحت نعمة ربيعة في أولها إلى نقمة ليس لها مثيل في التاريخ الايزيدي في المحصلة النهائية لما خلّف من ميوعة وتفتت أخلاقي وتحمّل للإهانة وما ترتب على ذلك من الهجرة المستمرة لمرتين في السنة بحيث لم ينتهِ بعد من الاستقرار حتى يبدأ بالهجرة ثانيةً مع أولادهم الذين أصبحوا خارج التعليم على الاقل لثلاثة أجيال تعليمية. وفي نظري، فقد كانت بمثابة الضربة القاضية في العمق والمستقبل الايزيدي. فعلى الرغم من عدم وجود البديل آنذاك، إلا أن ما تركه من آثار من الوضاعة واستشراء الفساد المادي والاخلاقي ونتائجه الكارثية على المستوى التعليمي للمجتمع الايزيدي لم يكن بالامر الهيّن ولازالت آثارها تستفحل لحد اليوم.
وبهذا فقد أضاعوا عقداً ونصف من الزمن الصعب وساهموا في زيادة رأسمال تلك الاعراب بشكل لم يكن حتى في الاحلام بالنسبة لهم بحيث بنوا الفلل وأقاموا المشاريع وأشتروا الاملاك والبنايات باتعاب الايزيديين، وفي المقابل أضاع الايزيديون مقابل ذلك هذا الزمن وخسروا معه التعليم والفرص الاخرى التي كانت من الممكن ان تنهض بواقعهم نحو الافضل فيما لو احسنوا التعامل مع ذلك الواقع المؤلم. ولكن لا يخفى بأن ذلك المشروع انقذهم من محنة الجوع ولم يكن في اليد بديل عنه في وقته سوى العيش تحت ذلك الواقع وتخطي تلك المحنة في الزمن الصعب الذي مر على العراق، أي ان كل شي بالنتيجة انقلب عليهم وبالا مادياً ومعنوياً كمحصلة نهائية مرغمين عليها.
الوضع بعد 09-04-2003
بعد سقوط النظام، بدأ الانهيار السريع في جميع مفاصل الدولة، وتغير كل شي درامياً نحو الاسوأ. بدءاً بالوضع الامني والارباك الذي حصل في الوضع السياسي وسيطرة الفكر العنصري على الواقع من خلال تنفيذ برامج باجندات اقليمية ودولية بحيث اربكت الواقع المحلي وجعلته يأن تحت ثقل المشاكل من حيث زيادة البطالة وتدني مستوى المعيشة والتعليم والصحة والخدمات البلدية وتفشي الرشوة والمحسوبية والمطالبة بالانفصال والتهديد والتلويح بإقامة دويلات تحت ذريعة الفيدرالية والحديث بالاكثرية والاقلية على حساب الوطنية والواقع وسيطرة المليشيات الحزبية وغيرها من المبررات لتهديم البلد من أساسه.
كل هذا وغيرها من العوامل جعلت من المواطن أن يستكين ويتوقف عن الحركة والاستثمار بترقب. ولا يخفى ما لهجرة أصحاب رؤوس الاموال من تأثير على الذين كانوا قد كونوا علاقات تجارية مع بعض التجار المحليين وبالتالي فإن سيطرة التجار الجدد على السوق ستتطلب من الايزيديين جهوداً وترتيبات إضافية وكسب الثقة لكي يبدأ ويتطور التعامل التجاري من جديد.
ويجب أن نتكلم بتجرد عن كل العواطف وهو أن الواقع الايزيدي شهد التطور الدرامي نحو الاسوأ منذ لحظة أحداث الشيخان في15-02- 2007. تلتها المسألة الاكثر تأثيراً وهي مقتل الفتاة دعاء في07-04 -2007، والتي تم استثمارها سياسياً بشكل غير مسبوق وخاصة من الاعلام والشارع الكردستاني، وما خلقته من المشاكل التي أنسحبت فيما بعد على جميع مفاصل الحياة بحيث شملت الموظفين والعمال والطلاب وحركة المواطنين العاديين من وإلى كردستان التي اصبحت الممر الوحيد والصعب لحركة الايزيديين وبضمنها الحركة الاقتصادية. وتوجت جميع تلك المشاكل التي صبت جام غضبها على المجتمع الايزيدي بهيروشيما سنجار في تل عزير والقحطانية في 14-08- 2007.
فبعد هذه الاحداث المرعبة تغير كل شي، فتحددت الحركة وتقلصت فرص العمل، وسيطر الخوف والرعب بعد التهديدات التي تلقوها من القاعدة وعناصرها والمتطرفين الاسلاميين، وانسحب كل هذا بالتاكيد على المناورة بالعمل التجاري والاستثماري ومستوى المعيشة وبقية مجالات الحياة. والاهم من كل شيء هو ما حصل بعد هذه الفترة بهجرة رؤوس الاموال والكفاءات الإيزيدية إلى الخارج وصرف مئات الالاف من الدولارات على تلك الهجرة التي كانت في غالبيتها غير شرعية، مما كلفت العوائل ما لا يحمد عقباها من المصاريف والمخاطر وغدر المهربين.
إذن تغير كل شي نحو الاسوأ، وبدلاً من استثمار الامكانيات الاقتصادية المتواضعة التي كانت موجودة لدى البعض، راحت تصرف تلك الاموال لتهريب ابنائهم إلى الخارج للتخلص من جحيم الحياة التي أصبحت من غير هدف ومستقبل. وهكذا تعرض المستقبل الايزيدي إلى مايشبه المقامرة بحيث أصبحوا من أكثر الفئات التي تعرضت للخطر والانتهاك والتدمير وفي عدد الشهداء والتخلف قياساً بباقي فئات الشعب العراقي على الرغم من أن الجميع قد تعرضوا للمتاعب.
أما فيما بعد أحداث 2007، فقد تجاوب المجتمع مع الواقع الجديد وبدأ يتأقلم معه بعدما أحس بأنه لابد منه. فقام العديد وخاصة في مركز قضاء سنجار وناحية الشمال/سنوني والمناطق المحيطة بهما، وكذلك الحال في بعشيقة والشيخان ببناء وإقامة المحلات والمعارض التجارية، وتجديد العلاقات الإستثمارية مع بعض الجهات بما فيها الدول المجاورة وخاصة سوريا وتركيا والمنطقة الشمالية ونمت الحركة التجارية بشكل واضح ونمت رؤوس الاموال بعدما تحددت حركة الايزيديين وإجبروا على شراء حاجياتهم من نفس المحلات التي يديرونها وهكذا بدت الامور تستعيد بعض عافيتها في هذا المجال الحيوي وتدوير رأس المال في محيط الايزيديين الذي نتأمل منه خيراً. كما أن الجانب العنصري الذي خلّفه الواقع الجديد جعل من الكثير منهم بأن يتجه نحو تدعيم بني جلدته حتى ولو كان في ذلك بعض الغبن في الاسعار قياساً بغيرهم. أي أن الواقع الجديد وتحدد مجال الحركة والمناورة، حتّم عليهم وجعلهم يفكرون بتطوير امكانياتهم التجارية محلياً وأفتهموا الحكمة بالفطرة، وبدون شك فإن هذا الامر سيوفر الإمكانية لدى البعض بارسال أبنائهم إلى الجامعات وبالتالي تطوير مستوى ثقافتهم.
فالمفهوم الاستعماري هو هو سواء طبقته مجموعة بشرية على مجموعة أخرى، أو طبقته دوله معينة على دول اخرى. لأن المبدأ فيه هو استغلال الثروات والامكانيات المادية والبشرية لتلك المجموعة أو الدولة لصالحها وبالتالي تساهم المجموعة أو الدول الواقعة تحت الاستغلال في تخّلف مواطنيها بدرجة أو بأخرى، وهذا ما حصل حقيقةً مع الواقع الايزيدي. فمن حملات الابادة، إلى تحريم التعامل مع المنتوجات، إلى التجميع وترك الاراضي الزراعية وجعلهم تابعين أذلاء يعملون كأجراء في حقول الغير وتحمّل المهانة ونشر الفساد الخلقي والميوعة والتشتت العائلي، إلى التهديد المستمر بتهجيره وتذويبه في جنوب العراق، إلى القتل والتدمير على الهوية، إلى التفجير المبرمج والمخطط بهدف المسح من الوجود وتجريده من إنسانيته، إلى وضعه في إطار لا يتجاوز حدود حركته بضع كيلو مترات وموته اقتصاديا واجتماعيا، إلى إماتة المستقبل من خلال ضرب التعليم بكل مراحله وخاصة التعليم العالي وزيادة جيش العاطلين المعتمدين على الوارد اليومي المهان من الاحزاب السياسية إلى تطويق الكفاءات وإجبارهم على الهجرة. فهل حصل ويحصل كل هذا من غير تخطيط وتفنن في ضرب النهضة التي من الممكن أن تبرز في الوسط الايزيدي؟ الجواب؛ في قناعتي هو، كلا، ولكننا نساهم نحن في تعميقه، مع الاسف.
هذا على المستوى الخارجي، ولكن ماذا عن مساهمة وتأثير الداخل الايزيدي على هذا التخلّف؟ ففي حقيقة الامر لا يختلف هذا العامل في تأثيره السلبي عما ذكر من التأثيرات الخارجية، بل هو الاخطر. فقد ساهم هذا الداخل في التهيوء وفرش الارضية للقبول بالواقع المرير من خلال تكريس السلطة الاستبدادية على مر التاريخ بيد مجموعة من الجهلة لايهمها سوى مصالحها الشخصية والذاتية وسيطرة الفكر العشائري المتخلف، وتقويض دور العلم والتعليم، بإصدار التعليمات وتحريم التعامل مع الانفتاح بسبب الخوف من هذا الخارج المجهول بالنسبة للعامة من الناس وتحريم التعليم في فترة من حياة المجتمع. وبالتالي خلق طوق وهالة حول المجتمع الايزيدي مما حددت من امكانياته وأضعفت من قدراته وتخويفه من اي مجازفة والابقاء على إجترار الموروث المتخلف في القبول والاستسلام التبعية، مما زادت معها مساحة الخنوع والقبول بأقل من القليل من متطلبات الحياة.
إذن، ماذا ترتب على هذا الواقع؟ لقد زحفت التأثيرات السلبية لكلا العاملين الخارجي والداخلي واتحدتا للتأثير على الواقع الايزيدي في الميدان بحيث تحوّل فكر الجهل والتخلف والاستسلام إلى فكر عدواني موجه إلى الذات وإلى الآخر. فتعزز الجانب العشائري وسيطر بعض رؤساء العشائر كلياً على مقدرات وامكانيات الناس واستثمارها لمصالحه الشخصية. وكذلك الاقتتال الداخلي الذي استنزف كافة الامكانيات والطاقات التي كان من الممكن ان تساهم في العمل النهضوي والتجاري وفي التعليم وتنمية الاقتصاد. وهكذا بدأ العد التنازلي في الموارد الاقتصادية فيما بين المجتمع الايزيدي مما وفرت الفرص الذهبية للغير المتربص به لكي تتمكن منه وتقوم بتلك المهمة بالنيابة عنه والامثلة لا تعد في هذا الشان.
فظهرت جماعات تقتل مجموعات أخرى تحت أسم (الجهاد)، واقتصر هذا العمل على بعض العوائل التي كانت تمارس الدعارة بصورة علنية لانها كانت قد وقعت تحت تأثير العوامل التي ذكرناها، تاركين السبب والمسببين لخلق تلك المأساة طليقين مما زاد من تعقيد المشكلة وهروب الكثير منهم خارج المعتقد. وعلى الجانب الثاني ظهرت جماعات لتخريب العقول وتكريس التبعية للعروبة في اثناء الحكم البائد، وآخرين يفسدون العقول بنفس الخطورة تماشياً مع مصلحتهم لصالح القوى السياسية الكردية على حساب المستقبل الايزيدي في الوقت الراهن، ولكن بتفنن وخطورة أكثر دقة، وتخريب مدروس أكثر تعمقاً. وما المؤتمر الذي انعقد في المانيا تحت عنوان الشيخ فخر الادياني مؤسس مدرسة الفلسفة والادب الكرديين، إلا دليلاً وقحاً على هذا التخريب في الوقت الذي مئات المدارس تعاني من نقص الرحلات والكادر والمكان المناسب للتدريس.
لذلك لو نلقي نظرة الآن على مجتمع سنجار الذي غالبية سكانه من الايزيديين، فإن عدد المحلات التجارية فيه لا تتناسب مع أي مستوى من نسبة وجودهم في القضاء. وإذا وجد البعض فإن عامة الناس ليس لديها الوعي بأن تتعامل معهم وبدلا من ذلك يتعاملون مع غير الايزيدي والذي بدوره يزداد غنى ونفوذ، ويبقى الايزيدي يجتر الندم من هذا الذي يحصل. بينما نرى العكس تماما على الجانب الثاني حيث العنصرية في أعمق درجاتها ويلجأ لشراء الحاجة من الايزيدي فقط عندما لا يراها في السوق سوى عند هذا الشخص. أو كما يحصل في التعامل مع بعض الحالات التي لا يمكن لأحد منافسة الايزيدي فيها بشكل بارز كالخبرة الزراعية أو البيطرية التي لا يمكنهم الاستغناء عنها، فأنا لست عنصرياً مطلقاً، ولكن الحال يتحدث عن نفسه.
هكذا يحصل الامر في الواقع على الأرض، فليس بالامر السهل التخلص من هذه العقلية والموروث بدون توعية ونكران ذات من قبل الطبقة المتنورة. ولكن نحتاج الكثير لكي نعي دورنا في تنمية قدراتنا ومحاولة التخلص من هذا التخلف وتجاوز نقاط الضعف التي مر ذكرها. فهل نستمر في هذا الطريق المتخلف ولا نتعظ من الاخطاء ونتلافاها؟ وهل يجوز أن نبقى نغرد خارج سرب الحياة ونسمٍع الاخرين احلى الانغام ونصّم آذاننا عن السماع لذلك اللحن الطيب؟ أتمنى من الاقتصاديين أن يسعفونا بالمزيد من التوضيح والمساهمة حول هذا الموضوع. وشكراً.[1]