حسين جمو
يكتب “محمد جمال باروت” في كتابهِ (التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السّوريّة) كلمةً “زاعماً” ليصف بها تشكيك المسؤول البريطاني “هنري مكماهون” أن يكون سكان (أضنة، بيره جيك، أورفا، ماردين، مديات، جزير وهكاري)، عرباً خلّصاً.
والزّعم في الاستخدام العربي للكلمة، حديثاً، تأتي مترادفة مع “ادعى كذباً”، وباعتبار أن الزعم كلمة فيها موقف واضح، فالكاتب يقول بهذا المعنى إن «هذه المناطق عربية خالصة».
الحديث هنا ليس عن الحسكة ولا عن تل أبيض، بل عمق كردستان. مع العلم أن “جولميرك” (هكاري) الموجودة على خط العرض 37، وجزيرة بوطان، لو انتهت الكردية في أصقاع كردستان لبقيت فيهما.
ما الذي يجعل باحثاً مهماً من وزن “باروت” يسرح ويمرح في هذا المجال ويحدد الحدود السورية من سفوح طوروس، والكتاب مازال يحظى بإعجاب العديد من الكرد؟ الجواب أنه فيه معلومات مهمة! وما فائدة المعلومات المهمة وغير المسبوقة إذا كانت إحدى المعلومات أنك تقيم على أرض ليست أرضك بالمعنى السياسي؟ هل هي أيضاً معلومة مهمة تستحق الاحتفاء؟!.
تكشف هذه العيّنة البسيطة طريقة اشتغال الكردي على تاريخه، وسذاجة إقباله على كل رقيقٍ رث فيها، وتَركِ ما يحتاج إلى جهدٍ لصياغته. لذلك، فإن أياً من هواة البحث إذا أراد أن يُحرِج القوم؛ فما عليه سوى قراءة قليلٍ من الكُتب حتى ينال من شعبٍ، امتداده من باب القفقاس شمالاً وحتى إيوان كسرى جنوباً، ومن همذان شرقاً وحتى عفرين غرباً.
كل هذا الامتداد الجغرافي الهائل، لا يحتاج سوى إلى هاوٍ في التاريخ ومتأتئ في القراءة حتى يضع شكوكاً على وجوده نفسه. وليست العلّة في التدليس باسم البحث العلمي، فهذا بات تقليداً مرتبطاً بالحداثة والقومية، بل في أن الكردي، اليوم، في العموم وعلى الخصوص، غير عارفٍ بتاريخه، وإن حاول؛ فقراءة ما هو جاهز، مُجتزَءاً وليس كاملاً. وحين يأتي لتقديم ما لديه، تراه قد بالغ وجعل نفسه محل سخرية، وهو في ذلك يرتكب جنايتين:
الأولى أنه يأخذ ب “عقلٍ كبير” وحُسن نيّة ما يكتبه الخبثاء ممن يحيل الوجود السياسي للكرد إلى عملية احتيال و”تسرب عبر الحدود” و”تكاثر زائد عن الحد غيّر معالم المكان”، وهذه الكلمات وإن لم تأتِ بحرفية ما تم تنصيصه، لكن لا يخرج عن المعنى نفسه.
الثانية، أنه يقف على أرضيةٍ تاريخية هشّة، ذلك أن كافة الرواة القوميين التابعين للدول المحتلّة والمجاورة، عَمَدوا علناً، في وضحِ النهار، إلى اختلاق قصصٍ لا أساس لها، لا في العمران ولا حتى في الميثولوجيا، وقاموا بتركيب قصتهم الحضارية القومية.
المؤسسة القومية التركية هنا مثال فاقع في اختلاق الوقائع وتغيير هويات القادة الكبار في الإسلام إلى التركية، لكنهم لا يختارون القائد العربي ويجعلونه تركياً، مطلقاً، ولا الفارسي، إنما الكردي أو أي قائدٍ لا دولة معتبرة له، كالشركس.
لذلك، لا عجب أنه في كتابٍ مدرسي تركي؛ تصير الجيوش في زمن القائد صلاح الدين الأيوبي جيوشاً تركيّة، هكذا بلا خجل ولا خوف من حساب، لأن من فوائد أن تكون دولة هو أن الحرية في الكذب.
الدولة التركية تكذب ولا أحد يوقفها. لديها نقص في بعض مئات من الأعوام بعد غزو القبائل التركية مناطق غرب دجلة، فتقوم بالاستعانة بجيوش الأيوبيين، وإذا استدعى الأمر هناك المماليك البحرية (الشركس) على حسابها أيضاً.
من حيث هي دولة، فهي متاح لها الكذب مع تصفيق الأكاديميين، وهذا ما فعله على سبيل المثال “برنارد لويس” وهو يقرأ كيف صار السومريون أتراكاً. في إيران، الكذب التاريخي مؤسسة “مُتفرْعِنة” وأكثر تخصصاً وتستراً مقارنة بالفضائح التركية المكشوفة.
لديهم أسرار التاريخ الذي تفرّع منه الكرد قبل الإسلام، وتولّى الترك التاريخ الذي تفرّع من الكرد بعد العصر العباسي الأول، أي المعاصر لوفادة السلاجقة والترك من الشرق. وتولّى مؤرّخون وباحثون قوميون عرب الفترة المعاصرة، مستندين إلى ترّهاتٍ منسوبة للمسعودي وغيره عن أبناء الجن وكُرد بن هوازن بن صعصعة.
هناك في بطون الكتب المدوّنة في الفترة العباسية، مئات الصفحات التي لو كانت تخصّ غير الكرد؛ لنتج عنها اليوم مئات الأبحاث والدراسات والتصويبات وتصحيح لمغالطات كبيرة، وفضح سرقات تاريخية وانتحال أحداث لغير أصحابها، وغير ذلك.
هناك مدنٌ وأسماء أنهار ٍمدوّنة في الكتب حتى قبل 800 عام، ولا أثر لها، ولا أحد يعلم أماكنها اليوم، وهي يمكن أن تظهر بقليلٍ من التقصّي العلمي أثرياً. وهناك تاريخٌ غنيٌ جداً لبعض البقاع في الجزيرة، ك (راس العين/ سريه كانييه). وعنها يقول الرحالة “ابن جبير” نحو عام 1185 م: «فغاية حسن القرى بشرقي الأندلس أن يكون لها مثل هذا الموضع جمالاً أو تتحلى بمثل هذه العيون، ولله القدرة في جميع مخلوقاته».
في الفترة ذاتها، يقول “ابن حوقل” عن المدينة وأهلها: «وكانت رأس العين مدينةً ذات سورٍ من حجارة نبيل وكان داخل السور لهم من المزارع والطواحين والبساتين ما كان يقوتهم لولا ما منوا به من الجور الغالب والبلاء الفادح».
وفي تاريخ ميافارقين، ل “ابن الأزرق”، نقرأ أن الأمير الكردي نصر الدولة المرواني، قد استجرّ ثلاث قنوات مائية من رأس العين إلى ميافارقين. ولأن من الغريب أن يحدث ذلك بينما ميافارقين بعيدة عن الموضع المذكور، وهي تقع شرقي دجلة، فإن المقصود عيون كانت على أطراف ميافارقين وكان يطلق عليها في ذلك الوقت رأس العين، تيمّناً برأس العين الكبيرة ذات العيون ال300 التي تحتلها تركيا اليوم.
هذا بالنسبة لرأس العين فقط. ومثلها كثير يستحق تجميعه في كتاب كامل عن هذه المدينة فقط، ودراسة تعاقب الشعوب عليها، سريان وفرس وروم وكرد وعرب وشيشان، وهذا التنوّع له أثره إلى اليوم، وكان معاشاً حتى قبل الاحتلال التركي، ذلك أنه اليوم تحوّل إلى لونٍ واحد قبلي وقومي.
غير ذلك فإن الخروج الكردي إلى بلاد الشام ومصر عسكرياً، منذ القرن العاشر الميلادي، مازال يتعرّض للتآكل والتشويه، وعلى أيدي الكرد قبل غيرهم.
فإن الرواة الكرد في مطلع القرن العشرين، قد بالغ بعضهم في نزعة التحديث والحداثة، وشنّ حرباً شعواء على كل ما هو غير قومي، بطريقةٍ ساذجة، وبدون أيّة دراسة جادة.
هكذا تم حذف مئات السنين من التاريخ الكردي خلال الحقبة الإسلامية الأموية والعباسية وتفرعاتها بما في ذلك الأيوبية، وحتى العثمانية إلى مطلع القرن التاسع عشر.
لقد افتتح القوميون الكرد الأوائل التاريخ الكردي بإمارة بوطان في القرن التاسع عشر، ولم يهتموا مطلقاً بالانقطاع التاريخي التعسفي بين انهيار امبراطورية ميديا وحتى انهيار بدرخان بك سنة 1847.
كيف أمكن للدعاة القوميين الأوائل تمرير هذه الجناية بدون محاسبة! لقد تم شطب هذا التاريخ، لا لأنه ليس كردياً؛ بل الأكثر فداحةً لأنه غامض ويحتاج إلى شغلٍ وجهدٍ استثنائي لفهمه وشرحه وتوفيقه مع فكرة أن ذلك لا يتعارض مع “كردستان”، وأيضاً سبب الاستسلام للاستفزاز الذي سببه تنسيب بعض المؤرخين أو منظري قوميات المنطقة الشخصيات الكردية في التاريخ للفضاء الحضاري العربي أو التركي أو الفارسي (والأخير بات يستخدم الفضاء الطائفي الشيعي لتمييع هوية مساهمين من الكرد اليارسانية).
كردياً، ليس هناك مجال للاختلاق والكذب، ولا داعي له، وحين يتم الكذب في التاريخ؛ فإن ارتداده السلبي يكون إجرامياً، ذلك أنه كما سبق ذكره، ليس للكرد دولة تسند الأكاذيب، باعتبار أن من أهم وظائف الدولة في العصر الحديث هو شرعنة الكذب والإفلات من العقاب عن الجرائم.
لكن في المقابل، لا توجد دولةٌ محتلّة أو مُهيمِنة تستطيع منع الكرد من البحث والتقصّي وسد الفجوة التاريخية الهائلة التي تنتصب كفخٍ لهم يملؤها الآخرون بالأكاذيب والاختلاقات.
هذا التاريخ ليس كنزاً، ولا يمكن أن يكون الحاضر مبنياً على التاريخ، ولا قيمة لمقولة رائجة أن (من لا ماضي له؛ لا حاضر له).. إلخ من مقولات موظّفة لأغراضٍ سياسية.
لا إنسان له أفضلية على إنسانٍ آخر، ولو بمقدار إبرة، بناء على التاريخ. غير أن تجميد استغلال التاريخ على الأطراف الاستعلائية، يستدعي انتزاع ما قامت بالسطو عليه وتزويره، وتحديث سياقٍ أكثر واقعية للمسار التاريخي، بوحشيته وإنسانيته، ذلك أن إظهار الوحشية المرتكَبة باسم الدين أو القبائل أو الشعوب، من شأنه أن يقلل من استدعاء الوقائع الدامية في الحاضر، ويقلّص التفاخر العنصري بالتاريخ.
على سبيل المثال، لو ذهبنا إلى تاريخ دمشق ل “ابن القلانسي”، و”ابن شداد”، وقرأنا عن أكبر عملية سبي شهدتها المنطقة منذ قرون، خلال حملة قادها الأيوبيون ضد الصليبيين في نابلس، وتم بيع الأطفال والنساء في أسواق دمشق.. إلخ. هل سيكون لهذا التاريخ صاحب في الحاضر (غير تنظيمات تكفيرية إرهابية)؟.
ليس للكردي دولة، لذلك الكذب ممنوع، وهو مضطرٌّ أن يكون في صف الحقيقة، وفي اضطراره هذا، حريته ومقاومته ودليله للتعايش والتشارك لا الانعزال.
وليس له مال لإنفاقه على البحث والنشاط الثقافي، وليس له تجّار ورجال أعمال يكافئون البحث العلمي، لذلك المبادرة الفردية التطوعية، بدون تمويل، وبدون مكافأة، وبدون انتظار تشجيع وشكر، هي الطريق الوحيد المتاح، بكل الإرهاق الذي فيها. فنحن أمام ألف عامٍ من التاريخ غير المشتغل عليه بشكل جدي. بهذا المعنى، فإن المبادرة في هذا المجال استئنافٌ معرفي للمقاومة الشاملة.[1]