من المألوف جداً أن تقرأ في كتب #التاريخ التركي# الرسمية مئات الصفحات، التي تتحدث عن الترك بوصفهم ضحايا للمذابح، التي ارتكبها #اليونان# والبلغار #والأرمن# وغيرهم. وأن هذه الأمة تكالب عليها، ولايزال، المتآمرون الأعداء في الداخل والخارج، وأنه على الدوام كانت هنالك مؤامرة تحاك ضد وجود الأمة التركية التي يعتقد معظم الساسة ومنظّري الفكر الطوراني، أنها أمة عظيمة واستثنائية على مسرح التاريخ البشري. ومن هذا الموقع بالذات شرعوا يبررون، بعقلية ذرائعية، كلّ الوسائل والأساليب، جميع الممارسات والأخطاء، التي ارتكبت في تاريخهم ولا تزال، دون أدنى شعور بالمسؤولية الإنسانية أو التاريخية.
وبالمقابل، تتجاهل تلك الكتب على نحو شبه كلّي، سلسلة المذابح والمجازر التي ارتكبها الجيش التركي، طوال قرون، ضد القوميات والأمم غير التركية، كالأرمن و#الكرد# واليونان و#العرب#. وإذا ما اضطرت إلى الإشارة لواقعة ما من هذا القبيل، فإنها تتحدث عن الضحايا غالباً بوصفهم متآمرين استحقوا العقاب القاسي، دون أدنى تأنيب للضمير.
طوال قرن من الزمان عدّ مصطلح الإبادة الأرمنية بمثابة القفل الصدئ للصندوق الأسود لتاريخ تركيا الحديث، ممنوع تداوله أو العبث به، ولا يجواز الإقرار به أو الإفصاح عنه. فهذه المسألة تثير بالدرجة الأولى الشرعية الأخلاقية والسياسية للدولة القومية الحديثة، التي تأسست على جماجم الملايين من الضحايا المختلفين دينياً وعرقياً عن الترك، كما تثير السؤال عن مسؤولية الدولة التركية عن جرائم القتل والتهجير القسري التي حدثت منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى اليوم.
إن التعريف الذي أقرّته الأمم المتحدة عام 1948 عن الإبادة العرقية أو التدمير المتعمّد لشعب ما ينطبق تماماً على المآسي التي حصلت للأرمن في مطلع القرن العشرين وكذلك للقوميات الأخرى غير التركية، التي تأبى الدولة التركية حتى الآن الاعتراف بحدوثها أو بمسؤوليتها الأخلاقية والسياسية والقانونية إزاءها.
لقد تنصلت الدولة التركية على الدوام من الاعتراف بهذه الجريمة الشاملة أو المسؤولية نحوها، وكانت تصف حرب الإبادة هذه، التي بلغ عدد ضحاياها بين المليون والمليون والنصف، بأنها مجرد مأساة أو نتيجة عرضية، غير متعمدة للحرب. وتنفي عن الدولة العثمانية أيّة نيّة ممنهجة لتصفية الأرمن أو أيّ تخطيط مركزية يستهدف إبادة عرق معين، فهي لم تكن سوى انحراف تاريخي عرضي لا يتسق مع الدور التركي في مسيرة الحضارة بحسب وصف منظري الدولة ومؤرخيها القوميين!
لقد أقرّت معاهدة سيفر 1920 حق مقاضاة مجرمي الحرب، وبخاصة مرتكبي المجازر بحق الأرمن، إلا أن المصالح السياسية للدول الأوروبية وإنتهازيتها وقتئذ حالت دون تنفيذ هذا الإقرار. على العكس من ذلك، صادق البرلمان التركي عام 1926 على اعتبار المتورطين الرئيسيين في تلك المجزرة أبطالاً قوميين للأمة التركية، لهذا كان من المتعذر على العقل السياسي التركي عدّ عددٍ من مؤسسي دولته وأبطاله القوميين ورموزه مجرمي حرب. فهذا الإقرار كان من شأنه أن يقوّض الشرعية الأخلاقية والسياسية للدولة القومية.
يبرز في هذا السياق الدور الخفي لتواطئ قناصل الدول الأوروبية مع الجلاد، عبر التزامهم الصمت إزاء حملات الإبادة الشاملة وغضّ الطرف عنها في حينها. وقد استمر هذا التواطؤ لعقود طويلة وقاسية من الصمت والمماطلة من جانب الحكومات الأوروبية والأمريكية بغرض عدم إغضاب تركيا، حتى اعتمد مجلس النوّاب الأمريكي أخيراً، وبأغلبية ساحقة القرار رقم(296) الذي اعترف بقيام الدولة التركية بارتكاب مجازر إبادة ضد العرق الأرمني في تركيا أوائل القرن العشرين.
بدا القرن التاسع عشر من التاريخ العثماني هو الأطول والأقسى واستمر بظلّ شعورٍ، سائد وعميق، بالضعف والارتياب والخوف من التقسيم. فقد استمرت الدولة العثمانية أكثر من قرن آخر لا لأنها كانت قويّة، إنما بفضل ضعفها، ولأن الموت لم يكن ليأتيها إلا من خارجها. وتمثّل ذلك بانشغال الدول الكبرى خلال هذه الفترة بكيفية تقاسم جثة الرجل المريض الآخذة بالتفسخ التدريجي. هكذا تطورت الهويّة التركية الحديثة وسط رعب من محيطها وقلق نحو مستقبلها. وقد وجد الاتحاديون والقوميون الأتراك في مطالب المسيحيين والقوميات غير التركية سبباً رئيساً في تفكك الإمبراطورية، وعدّوهم بهذا الاعتبار طابورا خامساً لتدخل الدول الأجنبية. وهذا ما برر، من وجهة نظرهم، استخدام العنف الشامل ضدهم وإبادتهم.
لقد سيطر على الاتحاديين قناعة مفادها أن تركيا كي تحيا وتحافظ على أراضيها فعليهم التخلّص من {الخطر الأعظم} المتمثل في الأمم والشعوب غير التركية، ومن ثم ينبغي خلق تجانس عرقي وهويّاتي داخل الدولة، أيّ هوية إسلامية في صيغة تركية سائدة ومهيمنة على الهويّات الأخرى، بخلاف النظام الملّي الذي تأسست عليه الإمبراطورية العثمانية.
من هذا المنطلق سوّغ الاتحاديون فعلتهم في إبادة أمة بكاملها، وفي مرحلة تالية انصرفوا إلى تتريك القوميات الأخرى من المسلمين كالكرد عبر تهجيرهم قسريّاً وترحيلهم إلى المناطق التركية ودمجهم في مجتمعات غالبيتها تركية. أي تتريك الإمبراطورية بالدم والنار.
ربما كانت المشاعر الدينية الإسلامية في البداية قاسماً مشتركاً بين كل من شارك في المذبحة، ومنحتهم مبرراً عقائدياً للقيام بتلك الأفعال، إلا أنها لم تكن الحافز الرئيس لها. فالعامل السياسي التحريضي المباشر المستند إلى دوافع عرقية- سياسية هدفها التخلص من مجتمع مختلف عن الهوية التركية واجتثاثه من جذوره، كان وراء كل تلك الأفعال، التي حدثت باسم الإسلام، والمتمثل في خلق هوّية متجانسة عرقياً وثقافياً تطغى على الكل. إن المفارقات التاريخية التي صاحبت وقائع الإبادة تكشف بوضوح عن درجة استغلال مهندسيها للمشاعر الدينية في تنفيذ مخططهم. فالأرمن الذين أجبروا على اعتناق الإسلام كي يتجنبوا الأذى أو القتل، أو تحولوا إلى الإسلام كي يستطيعوا البقاء في مناطقهم أكرهوا على الترحيل وسلبت أملاكهم بأمر مباشر من طلعت باشا، بسبب من هويتهم القومية المختلفة.
لقد تطورت القومية التركية في صيغتها الطورانية على جماجم الأرمن والكرد، الذين شكلوا عقبة ديموغرافية وحاجزاً بين تركيا والعديد من المجموعات التركية في آسيا الوسطى، حيث سعى الاتحاديون للتواصل الجغرافي معهم بهدف إحياء إمبراطورية طورانية خالصة. فما أن تخلّص هؤلاء من الأرمن حتى شرعوا بارتكاب مذابح عرقية بحق الكرد وعمدوا إلى تهجيرهم قسراً وقمعهم عرقياً بالحديد والنار، بخاصة في النصف الأول من القرن العشرين. وكان الهدف الرئيس، كما بدا واضحاً، هو التخلص من السكان الأصليين غير الأتراك في الداخل، وتحقيق امتداد جغرافي وثقافي مع أتراك آسيا الوسطى. هكذا شرع العقل السياسي التركي يتخلص من رهاب شعوره بالعزلة الجغرافية والقلق والخوف من محيطه غير التركي. وكان ثمن هذا الطموح الأيديولوجي، المنحرف والمستحيل، باهظاً على الشعوب الأصلية كالأرمن والكرد والعرب والسريان. في نهاية المطاف سيظل الأرمن والكرد وسواهم يتذكرون آلامهم وحقد عدوهم عليهم مثلما لن ينسوا الصمت المستمر حتى اليوم من جانب أصدقائهم.[1]