مرّت الذكرى الثانية لاحتلال #رأس العين#/#سرى كانيه# و#تل أبيض# وفق ما كان متوقّعاً، حيث لا تضامن سوريّ مع الضحايا، وهم هنا عشرات آلاف النازحين المطرودين من بيوتهم ومزارعهم، ولكنه إلى ذلك خذلان يفسّر على ضوء واقع أننا في إزاء مجتمعات سوريّة متحاجزة ومتخارجة والأهم أنها متحاربة وفاقدة لأدنى مستويات التضامن فيما بينها، وهو المتوقّع من مجتمع خضع لسلطة استبدادية مديدة، ذلك أنّ ما قالته حنّة آرنت في وصف الأنظمة الاستبدادية بأنها “تدمّر الوحدة بين الناس” وهي إذ تعزل الناس إنما “تعمل على هدم التعدّد البشري” يبدو شديد الراهنية وممتداً على زمن الحرب السورية بأكملها؛ ولكن إذا كان نظام الأسد قد عزل الناس عن بعضهم فإن النظام التركي في عفرين ورأس العين قام بتنفيذ سياسة هدم التعدد البشري بأتم معنى الكلمة،ومتجاوزاً فكرة العزل إلى فكرة الإمحاء والطرد والاقتلاع.
لم يطلق السوريون، في جهة المعارضات، تسمية الاحتلال على التواجد التركي، ذلك أنّ الحرب التركية في جوهرها تطاول الكرد فحسب، أو السوريين المنخرطين في برنامج الإدارة الذاتية، ما يعني أن الاحتلال مبرّر بالنظر إلى أنه يحمل تخصيصاً محدّداً ولا يشمل كل السوريين، بل يشمل من ترى معارضة سورية أنّهم خارجيون و”انفصاليون” ويستحقون عقاباً #تركيا#ً وأن من حق أنقرة أن تهرع لنجدة أمنها القومي المزعوم، ولعل هذا المسلك يتجاوز معاني انعدام التضامن مع كرد #سوريا# إلى الانخراط في آلة عقاب الكرد.
في جوهره يحمل الاحتلال التركي بداخله مشروعاً “إحلالياً” مفاده اقتلاع سكان وإحلال آخرين مكانهم، وهو ما حصل بدقّة عالية في عفرين التي قلب الرئيس التركي أردوغان رجب طيب أردوغان الحقائق حول بنيتها الإثنية قبيل احتلالها عندما صرّح في تجمّع حاشد أمام أنصاره في مدينة بورصة عام 2018 بأن 55% من سكّان عفرين هم من العرب فيما 35% فقط هم من الكرد وأنه يعتزم إعادة المنطقة إلى “أصحابها الأصليين”، وإذا كان نسف الحقائق القائلة بأن 95% من سكان عفرين هم من الكرد هو ديدن السياسة التركية، فإنّ من ساهم في سياسة الاقتلاع وتقليل هذه النسبة الكردية الطاغية كانوا سوريين انخرطوا في برنامج التغيير الديمغرافي والإحلال السكاني. وفي اتساق مريع مع ما حدث في عفرين جاء احتلال رأس العين وتل أبيض لنفس الغاية حين صرّح أردغان قبل الشروع في عدوانه على المدينتين بأن هذه المنقطة “لا تناسب سكن الكرد وأنها مناسبة للعرب” لتمرّ تلك التصريحات دون أن تثير غضبة “وطنيّة” أو تضامناً يحول دون إقدام تركيا على مزاولة هذا النشاط العنصريّ وتكراره.
رغم الأيام الثقيلة التي تعصف بنازحي هذه المناطق والرازحين تحت ظلال الاحتلال ووكلائه السوريين، مسلّحين ومدنيين، فإن استدامة الخذلان عبر الامتناع عن إبداء التضامن تُبقي الكرد السوريين في موقع الضحية المتفرّدة بعذاباتها، ويضاعف من هذه المشاعر تحوّل سوريين إلى جهاز دعائي مبتذل يبرّر الطرد والاقتلاع والقتل والنهب ويتجاوز على قراءة التقارير الحقوقية التي تأتي على سيرة الجرائم والانتهاكات عبر نفيها أو تكذيبها، وما يزيد في الأسى هو تورية الاحتلال وتبنّي أسماء العمليات العسكرية طبقاً لما تورده الحكومة التركية التي اتخذت من مفردة “السلام” عنواناً للحرب والاحتلال، حيث هي مناطق “غصن الزيتون” و”نبع السلام” مع أنّ سلاماً أقدم جلبته تركيا إلى قبرص عام 1974 عبر تسمية عدوانها ب”عملية السلام” والتي أفضت إلى طرد السكان القبارصة الأصليين وتقسيم الجزيرة بكل جلف وغرور، بمعنى من المعاني يفضي تبنّي أدبيات وتسميات الاحتلال شراكةً مع أفعاله وإمعاناً في قهر الضحايا.
بالعودة إلى الذكرى الثانية للاحتلال ثمّة أسئلة مفتوحة حول “حق العودة”، والذي يبدو تعبيراً مشتقّاً من المأساة الفلسطينية، وهو حق بات مرهوناً بجلاء الاحتلال التركي وتفكيك ميليشيات المعارضة المسلّحة وطردها، إذ لا يمكن للسكان العودة بحال من الأحوال دون خروج #التركيّ# وأعوانه، وهو أمر وثيق الصلة بالتبدّلات السياسية التي قد تشهدها تركيا نفسها في حكومتها وبرلمانها القادمين، وهو توقّع معتبر بالنظر إلى تراجع شعبية الحزب الحاكم وإخفاقاته المتتالية والتبدّل الحاصل في الرؤية الدولية لمستقبل سوريا والذي لم يعد يتطابق مع رؤية تركيا العدمية، فيما لا يلتفت النازحون إلى من سيتولّى مهمّة استرجاع المنطقة، إذ لا فرق أن تعود على يد روسيا والنظام أو سواهما، فالمفاضلة قائمة على أساس إمكانية العودة من عدمها.
صحيح أن المدينة هُدّمت في أجزاء منها ونهبت دورها ومزارعها ومرافقها الخدمية وأنها باتت أقرب إلى أطلال مدينة منها إلى مدينة خارجة عن السيطرة، إلّا أن ما يتحكّم بمشاعر النازحين هي موجات النوستالجيا والحنين للأمكنة في شكلها السابق على الحرب، وهو ما يصعّب عليهم البقاء خارج المدينة للأبد، وكأّنهم في ذلك طردوا من المكان إلى الفراغ. ولا يهم إن كانت رأس العين قد هدّمت أو حتى أمحيت عن وجه الأرض فالنازحين بمقدورهم البدء من جديد، لكن ما لا يمكن غفرانه هو الخذلان الذي تعرّضوا له وهو ما لا يمكن أن يمحى من ذاكرة من اضطهد واقتلع من أرضه ونزح وأُسكن تحت ظلال الخيام.[1]